صبحي غندور
هناك خصوصية تتّصف بها الجالية العربية فـي أميركا: فأفراد الجالية ينتمون لأصول ثقافـية عربية واحدة، لكنّهم يتحدّرون من دول وأوطان متعدّدة، فـيأتون إلى أميركا التي هي وطن وبلد واحد، لكن يقوم على أصول ثقافـية متعدّدة!.
ولهذه الخصوصية انعكاساتٌ مهمّة جدّاً على واقع ودور العرب فـي أميركا. فهُم بنظر المجتمع الأميركي -وحتّى المنطقة العربية- «جالية واحدة»، بينما واقع الأمر أنّهم يتوزّعون على «جاليات عربية». وتنشط غالبية الجالية من خلال تسميات خاصة بالأوطان، بل بعضها يحصر انتماءه فـي أطر مناطقية من داخل البلدان العربية. وقد أدّت هذه الخصوصية إلى كثيرٍ من المعضلات فـي دور العرب على الساحة الأميركية. فالتسمية النظرية هي: جالية عربية، بينما الواقع العملي فـي معظمه هو تعدّد وانقسام على حسب الخصوصيات الوطنية أو المناطقية أو الطائفـية أحياناً، إضافةً طبعاً للصراعات السياسية التي تظهر بين الحين والآخر.
أمّا بالنسبة لثقل العرب فـي أميركا، فإنّ عددهم لا يتجاوز الواحد بالمئة نسبةً إلى عدد السكّان الأميركيين. هناك أكثر من 318 مليون أميركي منهم حوالي ثلاثة ملايين عربي، فنسبة واحد بالمائة من السكان لا تغيّر كثيراً من واقع الحال، وإن كان عددٌ كبير من أفراد الجالية هم أصحاب كفاءات مهنية مهمّة. لكن هذه الكفاءات العربية هي فـي حالة عمل فردي أكثر ممّا هو عمل جماعي منظّم. وهناك تجمّعات عربية منظّمة أحياناً، لكن تأثيرها موضعي ومرتبط بزمان ومكان محدّدين، أو كحالة دعم عددٍ من المرشّحين فـي الانتخابات الأميركية، عِلماً أيضاً أنّ ترشيح أسماء من أصول عربية فـي الانتخابات الأميركية لا يعني بالضرورة أنّها ستكون من مؤيّدي القضايا العربية.
لقد مضى أكثر من قرنٍ من الزمن على بدء الهجرة العربية لأميركا، لكن رغم ذلك، فإنّ واقع العرب فـي أميركا استمرّ كمرآة تعكس حال العرب فـي البلاد العربية. ولم يستفد العرب فـي أميركا بشكلٍ عميق من طبيعة التجربة الأميركية التي قامت وتقوم على الجمع بين تعدّد الأصول الثقافـية والعرقية، وبين تكامل الأرض والولايات فـي إطار نسيج دستوري ديمقراطي، حافظ على وحدة «الأمّة» الأميركية -المصطنعة أصلاً- وعلى بناء دولة هي الأقوى فـي عالم اليوم.
وهناك مقارنة خاطئة تتكرّر أحياناً فـي الإعلام العربي، وهي مقارنة حالة العرب فـي أميركا بحالة اليهود الأميركيين. فالواقع أنّ «العرب الأميركيين» هم حالة جديدة فـي أميركا مختلفة تماماً عن الحالة اليهودية. العرب جاءوا لأميركا كمهاجرين حديثاً من أوطان متعدّدة إلى وطن جديد، بينما اليهود فـي أميركا هم مواطنون أميركيون ساهموا بإقامة وطن (إسرائيل) فـي قلب المنطقة العربية، أي عكس الحالة العربية والإسلامية الأميركية وما فـيها من مشكلة ضعف الاندماج مع المجتمع الأميركي.
حالة العرب فـي أميركا مختلفة أيضاً من حيث الأوضاع السياسية والاجتماعية، فكثيرٌ منهم هاجروا لأميركا لأسباب سياسية واقتصادية، وأحياناً أمنية تعيشها المنطقة العربية، ممّا يؤثر على نوع العلاقة بين العربي فـي أميركا والمنطقة العربية. بينما حالة العلاقة بين معظم اليهود الأميركيين وإسرائيل هي حالة من شارك فـي بناء هذه الدولة وليس المهاجر (أو المهجّر) منها.
أيضاً، ليست هناك مؤسّسات رسمية أو إعلامية أميركية محايدة لكي تتنافس عبرها الجالية العربية مع الجالية اليهودية المؤيدة لإسرائيل، وهذا بذاته يجعل المقارنة غير عادلة. فاللوبي الإسرائيلي فـي أميركا يتعامل مع علاقة واحدة خاصّة هي علاقة إسرائيل بأميركا، بينما تتعامل المؤسسات العربية-الأميركية مع علاقات عربية متشعّبة ومختلفة بين أكثر من عشرين دولة عربية وبين الولايات المتحدة.
إنّ العرب الأميركيين يتعاملون مع واقع عربي مجزّأ، بينما يدافع اللوبي الإسرائيلي عن كيانٍ واحد هو إسرائيل.
من ناحية أخرى، فإنّ للعرب الأميركيين مشكلة تحديد الهويّة وضعف التجربة السياسية، وهي مشكلة لا يعانيها اليهود الأميركيون. لقد جاء العرب إلى أميركا من أوطان متعدّدة ومن بلادٍ ما زالت الديمقراطية فـيها تجربة محدودة، إضافةً إلى آثار الصراعات المحلّية فـي بلدان عربية، وتأثير ذلك على مسألة الهويّة العربية المشتركة.
أيضاً، من المهمّ التمييز بين حالاتٍ ثلاث مختلفة: فهناك «أميركيون عرب»، وهم أبناء الجيل المهاجر الأول، ومعظم هؤلاء لم يعد لهم أي تواصل أو ارتباط ثقافـي مع البلاد العربية وقضاياها، ثمّ هناك «عرب أميركيون» وهم الأجيال المهاجرة حديثاً إلى المجتمع الأميركي، لكنها مندمجة فـيه بقوّة وتشارك فـي العمليات الانتخابية، وتقود هي عملياً الأنشطة السياسية والثقافـية للجالية العربية، وهناك «عرب فـي الولايات المتحدة» وهم الذين لم يصبحوا مواطنين أميركيين بعد، وأولوياتهم تختلف تماماً عن الحالتين السابقتين. وبينما نجد أغلب «الأميركيين العرب» غير متواصلين مع البلاد العربية الأم، نرى أنّ الفئة الثالثة، أي العرب المهاجرين حديثاً، غير متواصلة بعمق مع المجتمع الأميركي نفسه، ولكلٍّ من هذه الفئات نظرة مختلفة للحياة الأميركية وللدور المنشود فـي المجتمع.
أضف إلى ذلك أيضاً، تعدّد الانتماءات الطائفـية والمذهبية والإثنية فـي الجالية العربية. فالبعض مثلاً يتفاعل فقط مع منظّمات دينية إسلامية وهو ما يستبعد نصف الجالية العربية. فأكثرية الجالية العربية هي من جذور دينية مسيحية، بينما نجد أنّ أكثرية الجالية الإسلامية هي من أصول غير عربية.
فالجالية العربية فـي أميركا تعيش محنة ارتجاج وضعف فـي الهويتين العربية والأميركية معاً. والمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هويّة أوطانهم العربية الأصلية، ثمّ هويّة الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. ومنذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ثمّ بعدما أعقبتها من أعمال إرهابية فـي أوروبا وأميركا من قبل جماعاتٍ متطرّفة تحمل أسماء عربية وإسلامية، حدثت جملة تطوّرات انعكست سلباً على الهويتين معاً. ففـي الحالة الأميركية أصبح المواطن الأميركي ذو الأصول العربية أو الانتماء الديني الإسلامي موضع تشكيك فـي هويّته الأميركية، وفـي مدى إخلاصه أو انتمائه للمجتمع الأميركي. وقد عانى الكثير من العرب والمسلمين فـي عدّة ولايات أميركية من هذا الشعور السلبي لدى معظم الأميركيين حيال كل ما يمتّ بصِلة إلى العرب والعروبة والإسلام.
أيضاً، ترافق مع هذا التشكيك الأميركي بضعف «الهويّة الأميركية» للأميركيين ذوي الأصول العربية تحديداً، تشكّك ذاتي حصل ويحصل مع المهاجرين العرب فـي هويّتهم الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية بعضها ذو طابع طائفـي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي، أو فـي أحسن الحالات إقليمي.
وإذا كان مردّ التشكيك الأميركي بـ«الهويّة الأميركية» للمهاجرين العرب هو «الجهل»، فإنّ سبب ما يحدث من تراجع وضعف فـي مسألة «الهويّة العربية» على الجانب الآخر هو طغيان سمات مجتمع «الجاهلية» على معظم المنطقة العربية، وانعكاس هذا الأمر على أبنائها فـي الداخل وفـي الخارج.
لكن «فاقد الشيء لا يعطيه»، لذلك هي أولوية موازية لأولوية التعامل العربي مع «الآخر»، بأن يعمل العرب والمسلمون فـي أميركا والغرب على الفهم الصحيح لأصولهم الحضارية والثقافـية، وعلى الفرز بين ما هو «أصيل» وما هو «دخيل» على الإسلام والثقافة العربية. كذلك، فمن المهمّ التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين العرب أنفسهم، وأيضاً بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية، وبين غيرها من المؤسّسات فـي هذه المجتمعات، إضافةً إلى الحوار مع المجتمع الأميركي عموماً عبر الإعلام أو الندوات أو رسائل الإنترنت.
فهي مهمَّة مزدوجة الآن أمام العرب والمسلمين فـي أميركا والغرب: تحسين وإصلاح النفس بشكلٍ متزامنٍ مع تحسين وإصلاح «الصورة»، أي بناء الذات العربية والإسلامية السليمة مع بناء المعرفة السليمة لدى النفس وعند الآخر. إنّ تجربة «مركز الحوار العربي» فـي واشنطن تتعامل تحديداً مع هذه المعضلة التي تواجهها الجالية العربية فـي أميركا، إذ تهتمّ هذه التجربة العربية بتحسين الشأن الفكري والثقافـي، وبالتشجيع على أسلوب الحوار وعلى ضرورة الاعتزاز بالهويّة الثقافـية العربية المشتركة، مع ضرورة القناعة بأهمية وجود تعدّدية فكرية وسياسية فـي أي مجتمع.
فالمرحلة الآن -وربّما لفترةٍ طويلة- هي مرحلة إقناع المواطن الأميركي والغربي عموماً، بمن نكون «نحن» أكثر ممّا هي بـ«ما الذي نريده»، وهي مرحلة تضعنا أمام خيارين: إمَّا السقوط أيضاً مع الغربيين فـي فخِّ نظرية «صراع الحضارات» و«الخطر الإسلامي» القادم من الشرق، أو محاولة انتشال بعض هذا الغرب من هذا الكمين الذي تستفـيد منه حصراً إسرائيل، ومعها كلّ أعداء العرب والمسلمين.
Leave a Reply