كمال ذبيان – «صدى الوطن»
فـي لبنان، كان الصراع السياسي، فـي وجه من وجوهه، أو من أحد أسبابه، هو لمن القرار فـي المؤسسات العسكرية والأمنية، ولأية طائفة أو مذهب تتبع، وهو ما عُرف بالتوزيع الطائفـي للسلطات والمؤسسات، الذي فرضها النظام السياسي، وابتدع أركانه بدعة له، اسمها «صيغة العيش المشترك»، أو «الميثاق الوطني»، الذي كان حصيلة توافق بين قطبين سياسيين هما بشارة الخوري الماروني، ورياض الصلح السني، حيث كانت المكونات الطائفـية للمجتمع اللبناني خارج هذه الثنائية المارونية-السّنيّة، التي تصارعت فـيما بينها على الصلاحيات والمشاركة والسياسة الخارجية والمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وأنتجت حرباً أهلية، وأزمات سياسية ودستورية، كانت تتخذ عناوين وشعارات حقوق هذه الطائفة أو تلك، وهو ما يحصل حالياً مع مديرية أمن الدولة، التي تقول القوى المسيحية الأساسية، أن الخلاف حولها على صلاحيات مديرها العام اللواء جورج قرعة، الذي يدور صراع بينه وبين نائبه العميد محمد الطفـيلي.
انفجر الصراع داخل هذا الجهاز الأمني منذ نحو ستة أشهر، بعد أن أوقف وزير المال علي حسن خليل صرف الأموال للمديرية، مبرراً ذلك، بضرورة أن تحمل الكتب الموجهة إليه من المدير اللواء قرعة (كاثوليكي) مطالعة وتوقيع نائبه العميد الطفـيلي (شيعي)، الذي يريد مشاركة رئيسه بالقرار، والذي يعتبره اللواء قرعة أنه تدخلٌ بصلاحياته فـي غياب مجلس قيادة كما فـي سائر المؤسسات الأمنية والعسكرية.
وهذه المديرية (أمن الدولة)، أُنشئت فـي منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما طالب الشيعة بجهاز أمني لهم، أسوة بغيرهم من الطوائف، حيث تسند مديرية الأمن العام ومديرية المخابرات فـي الجيش الى ماروني، والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي الى سني، وقائد الشرطة القضائية الى درزي، فلا يترأس شيعي، أياً من الأجهزة الأمنية، فقام الرئيس نبيه بري، ولم تكن لديه مسؤولية فـي الدولة، إلا رئاسة حركة «أمل»، بأن طرح فـي مؤتمري «لوزان» و«جنيف» للحوار الداخلي، فـي عهد الرئيس أمين الجميل، وكان الخلاف على ذروته ضد حكمه فـي العام 1983، بأن تنشأ مديرية أمنية يترأسها شيعي، فكان أن تمّ التوافق على «أمن دولة» وهو موجود كجهاز أمني فـي العديد من الدول، وأقرّ هذا الإقتراح وتمّت قوننته، مع اقتراحات أخرى مثل إنشاء مجلس عسكري يعاون قائد الجيش مؤلف من الطوائف الست الرئيسية، وكذلك فـي قوى الأمن الداخلي و فـي الأمن العام، وهكذا قامت مديرية أمن الدولة لتقيم توازناً بين الطوائف، بحيث لا تشعر أي منها بالغبن والحرمان والإحباط.
طائفـية
فالنظام السياسي المرتكز الى الطائفـية، هو الذي ينتج هذه الحلول، وهي علة لبنان، ومصدر أزماته وحروبه، حيث توصل النواب فـي اجتماعات الطائف لحل الأزمة اللبنانية، الى إصدار بند أساسي فـي الإتفاق، وهو إلغاء الطائفـية السياسية والطائفـية فـي الدولة، وإزالة طائفـية الوظيفة، وكلها أعراف ليست مستندة الى نص دستوري سوى ما ورد فـي المادة 95 من الدستور، بأن تعتمد الطائفـية مؤقتاً بحيث تراعي التمثيل وحقوق الطوائف، التي أكّد إتفاق الطائف بأن توزع مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون ذكر لمن تكون هذه الوظيفة أو تلك، واعتمد عُرف تمّ من خلاله توزيع المراكز فـي الفئة الأولى، دون ذكر طائفة كل مركز، إذ لا ينص الدستور على طائفة الموظفـين من كل الرتب، وكذلك فـي توزيع السلطات، بل تمّ اعتماد العرف الذي وزع الرئاسات الأولى (رئاسة الجمهورية) على الموارنة، والثانية (مجلس النواب) على الشيعة، والثالثة (رئاسة الحكومة) على السنّة.
وإنفجار الخلاف حول مديرية أمن الدولة، عاد ليهدد وجود الحكومة واستمرارها، مع رفض القوى المسيحية فـي الحكومة، التعاطي السلبي مع هذه المديرية، لأن رئيسها مسيحي، ولم يكن الأمر كذلك عندما كان رئيسها شيعي، حيث طالب العماد ميشال عون باسترداد مديرية الأمن العام للموارنة، التي إنتقلت فـي عهد الرئيس إميل لحود (1998) الى ضابط شيعي هو اللواء جميل السيد، الذي أدار جهازاً خالياً من الفساد بانضباط إداري وتأمين حاجات المواطنين بالسرعة القصوى ودون تأخير أو الإرتشاء.
وهذه المداورة فـي رئاسة المؤسسات، ليست بالأمر الجديد، وحصلت فـي عهود سابقة، على أن يبقى الحفاظ على التوازنات، إلا أن فـي المديرية العامة لأمن الدولة، تكمن المشكلة فـي أن مهامها محصورة فـي فرز عناصر لمرافقة شخصيات رسمية مع صلاحيات رصد وملاحقة كل مَن يعمل للإخلال بالأمن والتجسس ومراقبة الاجانب، وهناك من يطرح الغاءها لعدم الحاجة اليها فـي وقت تم تعزيز دور شعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي، والتي أنشأها الرئيس رفـيق الحريري، لأنه كان يشكو من أنه ممنوع عليه الإطلاع على التقارير الأمنية لمديرية المخابرات فـي الجيش التي كان فـيها اللواء السيد الرجل القوي، رغم أنه ليس الأول بل الثاني فـيها، لكن ذكاءه وحنكته وعلاقاته الجيدة مع النظام السوري الذي كانت قواته فـي لبنان، أعطته دفعاً قوياً، حتى بات هو الحاكم الفعلي، وهذا هو تاريخ لبنان مع العسكر، منذ أن سيطرت مخابرات الجيش (المكتب الثاني) فـي عهد الرئيس فؤاد شهاب على مفاصل الحياة السياسية والإقتصادية فكان ضباطها هم حكام لبنان من أنطون سعد الى غابي لحود وسامي الخطيب ونعيم فرح وغيرهم من الذين كانت الساحة فارغة لهم منذ العام 1961 حتى 1970، عندما أزيح العهد الشهابي، بسقوط مرشحه إلياس سركيس وفوز سليمان فرنجية.
وأخذ الخلاف حول إدارة أمن الدولة بين اللواء قرعة ونائبه العميد الطفـيلي، طابعاً طائفـياً، إذ رفض الوزراء المسيحيون فـي الحكومة صرف المال الى مديرية قوى الأمن الداخلي والأمن العام، إذا لم يصرف لأمن الدولة، الذي يطالب مديره بإعطائه «داتا» الإتصالات والمعلومات الأمنية، لتنشيط عمل هذا الجهاز، الذي يتم تغييبه عن متابعة الأحداث الأمنية و الإجتماعات ذات الطابع الأمني، فشعر اللواء قرعة بأنه مستبعد، بعد أن كان يحضر دائماً، وأن هذه المديرية مستهدفة بوجودها، وقد شرح للمرجعيات المسيحية ما يحصل معه، وكيف يتم التفاعل مع هذه المؤسسة الأمنية التي كان لها دور فـي كشف شبكات إرهابية وأخرى إجرامية، وأن دورها يكبر وتكون فاعليته أكثر، إذا ما تمّ دعمها.
هل من حلّ؟
ولم تنجح الإتصالات داخل الحكومة، ولا بين القوى السياسية فـي تأمين صيغة حل لهذا الجهاز الأمني الذي يشكو من الإهمال والتهميش، فـي حين أعطي فرع المعلومات الذي تحول الى شعبة، كل الإمكانات المالية والدعم السياسي، بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفـيق الحريري، الذي كان يعمل لتقويته بصرف الأموال له، وتعزيز صلاحياته، ليوازي مخابرات الجيش التي كان يتهمها بأنها تحجب المعلومات الأمنية عنه، وتعمل ضده، فـي ظل النظام الأمني السوري، الذي كان هو مَن يدير الأجهزة الأمنية، وكان لا يسمح للحريري أن يعزز فرع المعلومات، وحصر مهامه بأعمال الإنضباط داخل قوى الأمن، لكن بعد إنسحاب القوات السورية، وتبدل الظروف السياسية لصالح قوى «14 آذار»، وحلفائه الخارجيين وتحديداً أميركا التي أمسكت بلبنان فـي عهد الرئيس جورج بوش الإبن، ليكون ساحة إنطلاق لبناء «الشرق الأوسط الكبير»، فتمّ الإعتماد على فرع المعلومات وليس على مخابرات الجيش التي كان يُنظر لها أميركياً على أنها مخروقة من قبل «حزب الله» بعدد من الضباط، لذلك كان التركيز على فرع المعلومات الذي رُفعت موازنته الى خمسين مليون دولار، وعديده الى 2500 بين ضابط ورتيب وعنصر، وتمّ تزويده بالمعدات الحديثة والتقنيات، إضافة الى التدريب، مما سهّل عليه الكشف عن شبكات لعملاء العدو الإسرائيلي، ما عزز من حضوره كجهاز أمني، إلا أنه كان يُنظر إليه على أنه تابع سياسياً، لـ«تيار المستقبل»، ويتم التعاطي معه من قبل «8 آذار»، بحذر، وكأنه وُجد لملاحقة قواها السياسية والحزبية بعد اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية ، وزاد الشك فـيه، بعد إنكشاف أن رئيسه العميد وسام الحسن، كان وراء تدبير الشهود الزور فـي قضية إغتيال الرئيس الحريري، وكانت شهادة كل من محمد زهير الصديق وهسام هسام وراء زج الضباط الأربعة جميل السيد وعلي الحاج ومصطفى حمدان وريمون عازار، فـي السجن مدة أربع سنوات، وفبركة معلومات لإسقاط النظام فـي سوريا، بإتهام الرئيس بشار الأسد، بأنه هو مَن أدار الخلية الأمنية التي خططت ونفّذت تفجير موكب الحريري.
فشعبة المعلومات التي إتخذت طابعاً سياسياً ومذهبياً أحياناً، كما مديرية الأمن العام، التي حاولوا التعاطي معها كأنها جهاز أمن شيعي لأن مديرها شيعياً، أو مرجعيته السياسية الشيعية، إضافة الى ما يثار من أن مخابرات الجيش خصوصاً والمؤسسة العسكرية عموماً، يقعان تحت تأثير ونفوذ «حزب الله»، وهو ما صرّح به وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، بأن وراء وقف هبة بلاده للجيش كونه يخضع لسيطرة «حزب الله».
لذلك فإن التعامل مع مديرية أمن الدولة من موقع طائفـي، لأن مديرها مسيحي كما يعلن قادة مسيحيون، هو ما يضع المؤسسات العسكرية والأمنية فـي هذا الوضع الطائفـي، وتطييف الأمن، بما يؤدي الى إنهيار الدولة وسقوط هيكلها، حيث تشكل المؤسسات الأمنية أحد أعمدتها و يتحمل المسؤولية عمّا آل إليه لبنان، هم زعماؤه الطائفـيون الذين يؤسسون لفتنة طائفـية وحرب أهلية هي باردة الآن وقد تصبح ساخنة واللبنانيون يتذكرون اندلاع الحرب-الفتنة قبل 41 سنة والتي امتدت 15 عاماً.
Leave a Reply