شهدت منطقة جنوب شرقي ميشيغن تحولات اقتصادية كبرى في العقود الأخيرة ترافقت مع تغيرات ديموغرافية واجتماعية في العديد من أنحاء مترو ديترويت.
فقد أثبتت التجارب والأزمات الاقتصادية التي مرت بها المنطقة وآخرها كساد العام 2008، بأن المنطقة لم تعد مرتبطة عضوياً بقطاع صناعة السيارات كما عرفت منذ ازدهارها في أوائل القرن الماضي، حيث برهنت الأزمة الاقتصادية الأخيرة أن منطقة مترو ديترويت تتمتع باقتصاد حيوي يعتمد بشكل متزايد على قطاع الخدمات.
ولعل سنوات التعافي الماضية شكلت خير دليل على دور السكان المحليين في إنهاض اقتصاد منطقة مترو ديترويت التي تضم نسيجاً متنوعاً من مختلف الإثنيات والجاليات التي أغنت مدن وبلدات المنطقة وحافظت على ازدهارها في حين نزح عنها الكثيرون خلال السنوات العجاف التي عاشتها صناعة السيارات.
والعرب في مقدمة هؤلاء، إذ لعبوا دوراً محورياً في إنعاش المنطقة اقتصادياً في الوقت الذي كانت فيه شركات السيارات العملاقة تغلق مصانعها وتعجز عن خلق الوظائف الجديدة. أما المهاجرون العرب فكانوا يفتتحون الأعمال التجارية ويوفرون الوظائف للأيدي العاملة الجديدة ويساهمون في استقرار السوق العقاري في مناطقهم مقارنة بمدن مجاورة اضطرت فيها حكومة الولاية الى إعلان حالة الطوارئ المالية بعد عجز بلدياتها عن سداد مستحقاتها.
اليوم عادت صناعة السيارات الى سابق عهدها وبدأ الاقتصاد يتعافى ومعه البلديات التي تستفيد من تحسن سوق الإسكان وزيادة مداخيلها الضريبية.
لكن المؤسف في الأمر أن البعض في مدينة مثل ديربورن، وفيها خير دليل على دور الجالية العربية في تعزيز الاقتصاد المحلي، يرى في ذلك فرصة للتخلص من بعض «الشوائب» التي اضطروا الى تحمّلها على مضض في السنوات العجاف.
ونعني بهذا مقاهي الأركيلة التي تميزت بها المدينة منذ عقود، لكنها تجد نفسها اليوم محاصرة من قبل البلدية التي بدأت مؤخراً بتطبيق حظر عليها بعد الساعة الثانية صباحاً ومعاملتها كالملاهي الليلية والحانات التي تقدم الخمور، مما اعتبره أصحاب هذه المقاهي ضربة قاصمة للحياة الليلية العربية التي تشتهر بها المدينة، قد تؤدي الى إقفال العديد من مقاهي المدينة التي انخفض عددها الى 13 (مع رخصة أركيلة) بعد تطبيق سلسلة قواعد تنظيمية جديدة.
ألا يدرك مسؤولو ديربورن وأعضاء مجلسها البلدي أن مقاهي الأركيلة والسهرات العربية، الى جانب مختلف المصالح التجارية الصغيرة التي تضخ الحياة في شرايين المدينة وتعود ملكية معظمها للعرب الأميركيين، شكلت على مدى السنوات العجاف شبكة أمان اقتصادي للمدينة لا يجب التخلص منها عند أول مفترق طرق؟.
فبفضل حيوية الجالية العربية ظلت المدينة مركز جذب، واستطاعت أن تكون في رأس قائمة المدن الأميركية الأقل تأثرا بالكساد الاقتصادي وارتفاع مستويات البطالة، كما حافظت عقاراتها السكنية والتجارية على قيمتها مقارنة بمدن المنطقة التي عانت الأمرين على مدى السنوات السبع الماضية.
ورغم كل الظروف القاسية، ظلت ديربورن مدينة تضج بالصحة والعافية، فاتسعت الأعمال فيها وازدهرت، وتمددت إلى خارجها، إلى المدن المجاروة. وانتشرت المطاعم والأندية الليلية والمقاهي في جميع زوايا المدينة، كما دبت فيها حياة السهر وأنشطة الترفيه، التي غدت عوامل استقطاب إضافية لمزيد من الزبائن إلى المدينة مما صبغها بصبغة تتمايز عن باقي المدن المجاورة. وشكلت هذه الأعمال روافد اقتصادية، لا يمكن الاستهانة بها، سواء لجهة مداخيلها المالية أو لجهة تشغليها الكثير من الأيدي العاملة.
وبدلاً من أن يظهر مسؤولو البلدية ولو قدراً قليلاً من التشجيع أو حتى الامتنان لأصحاب هذه المصالح التجارية، سارع المسؤولون في إدارة المدينة الى التضييق عليهم ومحاصرتهم وصولاً الى شن حرب إلغاء ضدهم، تحت عناوين غامضة. والأغرب في الموضوع أن القرار جاء بإجماع أعضاء المجلس البلدي السبعة الذين انساقوا جميعهم لا لتبرير غير المنطقي لهذه الخطوة، فيما لم تضيع شرطة ديربورن وقتها بالعمل على تطبيق الحصار.
إن ما لا يمكن فهمه ويستدعي إلى التساؤل هو الأساس الذي استند عليه أعضاء المجلس في معاملتهم مقهى الأركيلة بنفس معاملة الحانة أو الملهى الليلي حيث تباع المشروبات الكحولية، وذلك على الرغم من الفارق الكبير بين طبيعة كل منهما، وهو فرق لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والفطنة لإدراكه، عند سن القوانين والتشريعات ذات الصلة.
وتحتم قوانين الولاية على الحانات والمتاجر أن تتوقف عن بيع المسكرات عند الساعة الثانية صباحا، لإجبار المخمورين على مغادرة الحانات في «وقت مبكر» وبالتالي عدم استمرارهم بالسهر والشرب حتى ساعات الصباح الأولى، حيث من المرجح أن تشكل قيادتهم للسيارات خطرا على الآخرين، خاصة على الحافلات المدرسية، والعمال الذين يذهبون إلى أماكن عملهم في ساعات الصباح الأولى.
وبتطبيق القانون الجديد على مقاهي الأركيلة وإجبارها على إيقاف الخدمة عند الساعة الـ2 صباحاً (باستثنتاء شهر رمضان ٤:٠٠ صباحاً)، يتم التعامل مع الزبائن كما لو أنهم سكارى يشكلون خطرا على السلامة العامة.
الحظر بعد الساعة الثانية، لا شك أنه سيؤذي أعمال تلك المقاهي التي بدأت تعاني من انحسار الزبائن الذين يفضلون السهر، فهؤلاء باتوا يفضلون ارتياد المقاهي التي تفتح أبوابها حتى وقت متأخر في المدن المجاورة مثل ديترويت وديربورن هايتس.
صحيح أن مقاهي ديربورن تستقطب الكثير من الزبائن، وهذا من شأنه أن يسبب ضجيجا في تلك الأماكن وفي جوارها، ولكن ليست المقاهي التي تفتح حتى ساعة متأخرة من الليل هي وحدها من يسبب الضجيج، وربما الأذى للجيران، ففي مدينة ديربورن توجد مطاعم ومقاهٍ تفتح أبوابها على مدار الـ24 ساعة يوميا، وهي قريبة من مناطق سكنية، وربما يصدر عنها وعن مرتاديها بعض الضجيج، ولكن الحل لا يكون بإجبارها على الإغلاق بعد منتصف الليل، ولا يكون بمعاملتها كما يتم التعامل مع الحانات، وإنما يتم التعامل مع حالات الإزعاج حسب مقتضى القانون، ويمكن للسكان المتضررين الاتصال بالشرطة التي يكون من واجبها توفير الأمن والسلامة والراحة للسكان.
هذا إن كان هناك حرص من البلدية على استمرار هذه المقاهي في ديربورن.
وينبغي التأكيد هنا، أننا نؤمن تماما بأن التدخين مضر بالصحة، وبالتأكيد لسنا من المشجعين على ترويج تدخين الأركيلة، ولكن نؤمن أيضاً بأنه ليس من واجب البلدية أن تعلم الناس كيف يعيشون وماذا يعملون ومتى ينامون.
وإذا رغب أصحاب المطاعم والمقاهي بفتح أعمالهم أمام الزبائن طيلة الوقت، فليس من شأن مسؤولي المدينة أن يمنعوهم عن ذلك، وعلى هؤلاء أن يدركوا حقيقة أن ديربورن هي واحدة من أكبر مدن الولاية ولا يجب معاملتها وكأنها بلدة نائية لمجرد عدم رضا البعض عن بعض التقاليد والعادات العربية في المدينة.
Leave a Reply