مريم شهاب
كنت صغيرة عندما سمعت عن قبر أحد السادة، الذي كانت تسيل من جنباته مياه مباركة في بلدة مجاورة للقرية التي نشأت فيها.
تقول الحكايات والأقاويل التي كان يتناقلها الفلاحون إن أسرة معروفة تنحدر من صلب رجل مبروك، حفيد لأحد الأولياء، كان مدفونا في القبر قرب النبع، وإن تلك المياه تشفي العليل وتغني الفقير وتفك عقدة العنوسة وتفرمل عيون الأزواج الزائغة، وتسقط زعيماً وترفع آخر وتقي من الحمى والصفراء والشلل، وتضمن للبهائم إذا شربت منها أن تلد توائم.
في ذلك الزمن، زمن البراءة والسذاجة، صدَّق المئات أمر الماء المبارك، لاسيما وأن تدفقه من حول القبر كان يتزايد في المناسبات الدينية، لذلك كانوا يتهافتون للحصول على جرعات منه. وبما أن الحصول على المياه من تلك البركة لم يكن «شغلة هينة» ولا «مسألة سايبة»، فإن ذوي المرحوم المبروك ضبطوا الأمور على «سنكة عشرة»، فكسبوا أموالاً طائلة.
وكان يتم تحصيل «الرسوم» من القرويين والفلاحين مقابل حصولهم على جرعات من ذلك الماء المقدس السحري، وحسب المطلوب كان يتم الدفع. ليرة لربع زجاجة ماء لآلام البطن والإمساك، خمس ليرات ثمن زجاجة كاملة لمن يريد الإنجاب، وعشر ليرات لكل فتاة تعتبر نفسها «بايرة» ثمناً لغالون كامل من الماء، لأن الشرب لم يكن يفك «البَورة» أو العنوسة فكان لا بد من الإستحمام به، حتى تتشبع كل مسامات الجلد، فتمشي المرأة في الشارع أو في الحقل، ويسير خلفها طابور من طالبي القرب وهم يتغزلون بها: دخيلك بس تطليعة من عيونك الحلوة.
ولأن كل نجاح له أعداء، فإن شخصاً «حربوقاً» أحسَّ بأنَّ حكاية الماء الجاري من القبر المجاور للنبع فيها إنَّ.. وأخواتها. وبحكم أنه كان يعمل في الأشغال العامة، لاحظ أن الماء المبروك كان يتدفق بالتزامن مع تشغيل المضخة التي توزع المياه على بيوت القرية، وكانت حديثة يومذاك، فطلب من العامل المشرف على المضخة إقفالها، فتوقف ضخ البركات!
وصاح الرجل بالناس البلهاء الملتفين حول القبر بأمر المضخة العامة الموصولة لذلك النبع الهزيل، بينما ورثة المرحوم المبروك ادعوا بأن المياه توقفت بسبب وجود فاسق وكافر «يقصدون الرجل المشاكس» بينهم.
فما كان منه إلاَّ أن ذهب إلى العامل طالباً منه تشغيل المضخة وفتح «الفالف» الموصول بماسورة للنبع، وبالفعل استأنف النبع ارسال المياه المباركة. عندها انصرف الناس بعيداً عن القبر بعد أن اكتشفوا أمر «الخدعة» وهم يحوقلون ويستغفرون.
أهدي هذه القصة إلى العزيز الدكتور نزيه مكّي، بعد قراءتي لكتابه «هاروت وماروت يعلمان السحر للناس»، ذلك أنه يوجد في كل زمان ومكان ملايين من البسطاء والسذج الذين يركضون من دجالٍ إلى آخر لسنوات طويلة ولا ينتبهون إلى أن أياً من هؤلاء «المبروكين» الذين يتقنون الدجل ويحيكون الخرافات للنصب على الناس، ويدعون فك السحر والمربوط والتعامل مع الجن، هم أنفسهم السحرة، لا.. بل هم الجن.
Leave a Reply