إنَّ أي مراقبٍ للتطوّرات في البلدان العربية يستطيع أن يلحظ جملةً من الشواغل المتنامية
على مستوياتٍ متعدِّدة:
– كيف ستتمكَّن هذه المجتمعات من تخطي تركة زمن العنف والانتقال إلى بيئةٍ تحترم حق الناس بالحياة والكرامة والحرية؟
– الهواجس الناشئة المتعلقة بظروف وأوضاع المجموعات المستضعفة، مثل المرأة والأقليات الدينية/الاثنية.
– المجتمعات والشعوب العالقة في خضم المصالح الدولية التي تعصر وتشدّ بها في اتجاهاتٍ متضاربة.
– سكّان المجتمعات الحضرية الذين يعيشون في ظل هواجس اجتماعية-اقتصادية وأمنية متزايدة، مع العلم أنَّ التأثيرات السياسية للأزمة الحالية التي تضرب المنطقة ما زالت تنتظر أن تتبلور كامل أبعادها، إضافةً إلى النزاعات داخل الأديان وبينها التي تضاعف مخاوف الأقليات.
تدريجيّا، خفتت أصوات العقلاء وتلاشت آليات الحوار، إنْ لم نقل تبخرت. شغلت هذه المسائل مؤسَّسات الإمام الصدر إلى حدٍّ بعيد. نحن نؤمن بأنَّ لبنان يملك معظم المقوّمات والظروف والفرص التي تبقيه بمنأى عن هذه المخاطر، أو أقلّه تسمح بنقضها والتصدّي لها. في الواقع، لبنان، بتاريخه وتكوينه وتجربته، يقف منيعاً في وجه الأحداث المريرة التي تعصف بالمنطقة. لا بدّ وأن يكون هو العلاج.
يُنظَر إلى لبنان بوجهٍ خاص على أنَّه ساحة صراع وتوتر ومواجهة مُحتملة. عبر السنوات، عانى لبنان من حربٍ أهلية واحتلال ونزاعاتٍ إقليمية. وعلى الرغم من أنَّ النظام التعليمي يغطي كل الأراضي اللبنانية، إلاَّ أنَّ النفاذ إليه محدودٌ بالنسبة إلى المجموعات غير المحظية في الجنوب، إلى جانب الطاقات والأدمغة التي ترحل من الأطراف إلى المدن، على غرار تلك التي تهجر لبنان إلى بلدان أخرى. في ما يتعلق بالخدمة الصحية، يتسم النظام الحكومي بضعفه وهشاشته، ما يترك للقطاع الخاص دوراً أساسياً يضطلع به على هذا المستوى لتغطية احتياجات السكان. ويزداد الأمر سوءاً عند الحديث عن وضع الصحَّة النفسية، بالنظر إلى الوصمة، وغياب الإدارة، ونقص المنشآت العلاجية، وغياب التمويل.
من هذا المنطلق، جاء برنامج الصحَّة النفسية ليبلور بعداً أساسياً في الشراكة بين مؤسَّسات الإمام الصدر وهيئة المساعدات النرويجية (NORWAC)، وقد بات البرنامج يحظى باعترافٍ متزايد حيث أنَّه يستثمر في مجال حيوي وهام يعني الأفراد الضعفاء. يتألف البرنامج من ثلاثة أقسام:
الصحَّة النفسية في المدارس للمجموعات الضعيفة
يقتضي هذا الشق من البرنامج إدخال بُعد الصحَّة النفسية في العملية التربوية لتزويد كل من الأطفال وآبائهم أو أولياء أمورهم وأفراد أسرهم بالوعي اللازم والمهارات المطلوبة للتعاطي مع مشاكل الصحّة النفسية. بموازاة ذلك، يُصار إلى تنفيذ سلسلة من التدخلات التربوية والإدارية والمادية لتحسين رفاه المجموعة المستهدفة وأدائها الدراسي.
في السياق نفسه، يستمر برنامج دار الأيتام في تقديم خدماته على الرغم من الظروف والتحديات الناشئة. معظم الجهات المستفيدة حالياً هي الناجمة عن حالات بؤسٍ اجتماعي واقتصادي. بالتالي، يصبح توفير الرعاية لهؤلاء داخل أسرهم ذا أولوية.
يُشار إلى أنَّ مدرسة روضة الأطفال والمرحلة الابتدائية محاذية لدار الأيتام. ومن السبل الأساسية لتسهيل الاندماج الاجتماعي اعتماد سياسة قبول الطلّاب من أوساطٍ ثرية. هذه السياسة لها تأثيرها المالي أيضاً، وقد أصبحت عنصراً أساسياً في تحقيق الاستدامة حيث أنَّ حصة الرسوم المدرسية في تغطية الكلفة التشغيلية تتزايد بشكلٍ مستمر.
بموازاة ذلك، أثبت إطلاق برنامج الصحة النفسية والخدمات المتخصِّصة للأطفال المعوّقين أهميته الكبرى في تلبية احتياجات نسبةً متزايدة من هؤلاء الأشخاص، وذلك يعود جزئياً إلى فرادة هذا النوع من الخدمات نسبياً في المنطقة. هذا النظام التآزري المتكامل يستفيد من دعم مجلس الإدارة الكامل، ما يؤدي إلى وجود مروحة واسعة وشاملة من الشركاء والممولين. وقد علّمتنا التجربة أنه حتى عندما تظهر معوّقات أو نواقص من جهةٍ أو أكثر، دائماً ما يكون العجز الناجم قابلاً للتعويض عنه من خلال آليات التمويل المشترك. وتصبح المسألة إذّاك مسألة تحديد أولوياتٍ لا أكثر.
تتألف الخدمات المتخصِّصة المؤمَّنة للأطفال المعوّقين من مكوّنات عدّة:
– المساعدة النفسية.
– العلاج المهني.
– تمارين العلاج الفيزيائي.
– علاج مشاكل النطق واللغة.
– الموسيقى والفنون الجميلة (مع توسيع النطاق لكي يشمل التلاميذ والأساتذة في المدرسة الابتدائية وروضة الأطفال).
– المنهاج الأكاديمي المُصمَّم بحسب الاحتياجات الخاصَّة.
– المشورة والدعم الاجتماعيين المقدّمين لأسر التلامذة.
المنهاج الدراسي للعاملين في مجال الصحة النفسية
تأمين مجموعة من العاملين المؤهلين في هذا المجال عن طريق خلق مروحة من المهنيِّين المدرًّبين على تحديد بوادر الاضطرابات النفسية وتوفير التدخلات الأساسية، بما في ذلك نظام الإحالة، لتلبية الاحتياجات النفسية والطبية-النفسية للمجموعات المستهدفة، ولا سيَّما في أطر الرعاية الصحية الأولية.
يعمل هذا البرنامج منذ خمس سنوات، وقد تخرَّجت منه ثلاث دفعات. معظم الخريجين يُدخِلون حالياً بُعد الصحة النفسية في عملهم اليومي في أطر الرعاية الصحية الأولية وغيرها. وقد اقتضت الخبرة المكتسبة مع الوقت إعادة تصميم البرنامج إلى برنامجٍ يقوم على وحداتٍ تدريسية بدوامٍ جزئي مدّته سنتان، أُطلِقَ العمل به في خريف 2011.
وقد استرشدنا في تصميم البرنامج بالمنهاج الدراسي الخاص ببرنامج «تمريض الصحَّة النفسية»، على مستوى الهيكلية العامة والمقرَّرات والنتائج التعلمية واستراتيجيات التدريب/التعلّم وطرائق التقييم (مكتب منظمة الصحّة العالمية الإقليمي لأوروبا 2003).
وبما أنَّ هذا العمل هو عملٌ نموذجيٌ جديدٌ نوعاً ما، وبما أنَّ منشآت الصحَّة النفسية شبه معدومة في المنطقة، وبما أنَّنا مضطرون إلى إرساء البنية التحتية والعمل في الوقت نفسه على تدريب مهنيِّين في مجال الصحَّة النفسية، اخترنا التركيز بشكلٍ أقل نوعاً ما على مهارات التقييم والمهارات الإدارية، وبشكلٍ أكثر على مواضيع العلاج النفسي الأساسية وفقاً للاحتياجات القائمة. غير أنَّ هذه المقاربة ستخضع للمراجعة والتطوير بشكلٍ منتظم. أمَّا بالنسبة إلى المرشَّحين المشاركين في هذا البرنامج، فيجب أن يكونوا على الأقل من حملة شهادة بكالوريا مهنية في التمريض أو إجازة جامعية في اختصاصٍ يُعنَى بالعمل الاجتماعي أو أي اختصاص آخر ذي صلة.
بالنسبة إلى برنامج العاملين في مجال الصحَّة النفسية، هو عبارة عن وحداتٍ تدريسية تُعطى بدوامٍ جزئي في إطار برنامج يمتد على فترة سنتين. يتألف البرنامج من ثماني وحدات، وتديره مدرسة التمريض في مؤسَّسات الإمام الصدر. وفي سياق الوحدات التدريسية، يُتوقَّع من الطلاب المشاركين أن يعملوا إلى جانب دراستهم في منظماتٍ معنية بالصحَّة / الصحَّة النفسية. وفي هذا الإطار، تُشجِّع المؤسَّسة مراكز الصحَّة التي تدور في فلكها وتتعاون مع المؤسَّسات المعنية الأخرى من أجل إعطاء الطلاب فرصةً للممارسة الميدانية واكتساب الخبرة العملية.
وإضافةً إلى المحاضرات التقليدية، يشمل البرنامج طرائق تربوية أخرى، مثل آليات التعليم القائمة على مشكلة، تقنيات تقديم العروض وتوفير التغذية الراجعة، المناقشات ضمن مجموعات، المشاهدة والمراقبة، مهارات إجراء المقابلات والزيارات الميدانية. تعقب هذه العمليات عروضٌ يقدّمها الطلاب حول الدروس المُستفادة. يكون الطلاب مسؤولين أيضاً عن مواضيع معيَّنة تحت إشراف المدرِّس. ويُتوقَّع من الطلاب بالتالي المشاركة بشكلٍ ناشط، بحيث تدخل أنشطتهم في التقييم النهائي.
خلال سنتين من التدريب، يُتوقَّع من الطالب أن يكوِّن هويةً مهنية وفهماً عميقاً للطريقة التي يمكنه أن يستخدم فيها نفسه كأداة في عمله/ها، وأن يستند في عمله على ممارساتٍ سريرية سليمة، واحترامٍ للمرضى وكل مَنْ هو متأثر بالمرض، واحترامٍ للمهنيين الآخرين. كما يُتوقَّع من الخريجين أن ينطلقوا في حياتهم المهنية من الاحترام التام للأخلاقيات المهنية والقانون. هذا ويتضمَّن التقييم النهائي مدى ملاءمة الطالب للعمل.
تشعر مؤسَّسات الإمام الصدر بمسؤوليةٍ كبيرة إذ تنظِّم هذا البرنامج، وهي تدرك إدراكًا تاماً أنَّ هكذا برنامج مدّته سنتان هو مجرَّد بداية، على الرغم من أنَّه يشكل خطوة هامة باتجاه مجتمعٍ يعترف بمشاكل الصحَّة النفسية، ويكافح الوصمة، ويؤمِّن العلاج لمَنْ يحتاجه. لهذا السبب، شملت المؤسَّسة الصحَّة النفسية في:
وحدة العناية بإصابات النخاع الشوكي في دردغيا
جرى تأهيل مركز دردغيا بطريقةٍ تسمح لوحدة العناية بإصابات النخاع الشوكي بتوفير الخدمة للمرضى الذين يعانون من مشاكل في المسالك البولية. وقد شملت الأنشطة التي نُفِذَت ما يلي: تجهيز المركز، تدريب الموظفين، توعية المجتمع المحلي والتشاور معه، إنشاء قاعدة بيانات، وتوفير الخدمات.
حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي عندما انطلقت عمليات القسطرة المتقطعة، كان الفشل الكلوي والإنتان (تسمّم الدم) ومضاعفات المسالك البولية الأخرى من أكثر أسباب الوفاة شيوعاً. خلال السنوات الخمسين الماضية، سُجِّل تحسَّنٌ ملحوظ في معدَّلات البقاء على قيد الحياة ومعدلات الاعتلال ونوعية الحياة لدى المرضى عند حصولهم على العلاج والمتابعة المناسبين. ومن المُستحسَن أن يحصل المريض دومًا على المتابعة في وحدةٍ متخصّصة للعناية بإصابات النخاع الشوكي.
في إطار هذه المبادرة في لبنان، نركِّز على نتائج وتبعات المشاكل البولية، حيث أنَّها تمثل أهم التحديات على مستوى معدلات الاعتلال والوفيات وجودة الحياة. وتبرز هذه الحاجة أكثر ما تبرز في المناطق الجنوبية من لبنان. لحسن الحظ، سبق لهيئة المساعدات النرويجية ومؤسَّسات الإمام الصدر أن قامتا بتطوير مركزٍ اجتماعي-طبي في دردغيا، يتضمَّن منشآتٍ للعلاج الفيزيائي. ولا يشكل هذا المركز فحسب نقطة التقاء محورية في قلب الجنوب حيث أنَّه يقع على بعد عشرين دقيقة بالسيارة من بنت جبيل وصور ومرجعيون وصيدا والنبطية، بل إنَّ منشآته قد بُنيِت بطريقةٍ ممتازة، وقد بات الآن شبه جاهزٍ لاستقبال فريق العمل والتجهيزات الخاصة بالمشروع المذكور آنفًا.
خطة التنفيذ:
لإطلاق العمل بالبرنامج العلاجي، وُضِعَت خطة واقعية للتمويل المستدام لمدّة 5 سنوات (2014-2019).
يشمل البرنامج التدريبي المُكرَّس للعاملين فريق العمل من النساء والرجال على حدٍّ سواء.
يغطي البرنامج 10-12 ممرض(ة) ومعالج(ة) فيزيائي(ة)، و3 أطباء.
يُنفَّذ البرنامج التدريبي بشكلٍ رئيسي في لبنان. ثمّة تصوّر أيضاً للمشاركة في أنشطة ومؤتمراتٍ في الخارج، وتصوّر باتباع برنامج تبادل سنوي للمهنيين لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. يشمل التدريب المحاضرات والنقاشات، إضافةً إلى الممارسات السريرية في إطارٍ متعدِّد الاختصاصات. ومن مكونات البرنامج الأخرى: التطبيب عن بعد، وفرصة تعزيز المستوى الأكاديمي في لبنان، وإمكانية إطلاق مشاريع بحثية متصلة بالعمل.
التقييم الطبي
يشمل التقييم الطبي ما يلي:
– استبيان موحَّد ومجموعات من البيانات الموحَّدة (الجمعية الدولية للنخاع الشوكي).
– معاينة مع قياس وتسجيل ضغط المثانة خلال الامتلاء (قياس المثانة) وفقًا لتوجيهات الجمعية الدولية للنخاع الشوكي.
– الفحص بالموجات فوق الصوتية، بهدفٍ أساسي هو تقييم شكل الكلى ومضاعفاتها، مثل تموّهها وتحصّيها.
– فحص المثانة لتبيان وجود حصاة مثانية.
– تحليل دم أساسي (هيموغلوبين، خلايا الدم البيضاء، معدل الترسيب، الكرياتينين، الإلكتروليت)، وزراعة بول لتحديد نمو البكتيريا ونمط المقاومة.
– بالنسبة إلى المرضى المعروف بوجود مضاعفاتٍ لديهم أو الذين يُشبته بوجود مضاعفات لديهم، يتم تحليل مستوى تنقية الدم من الكرياتينين في عيّنة بول خلال 24 ساعة. ويقتضي هذا التحليل قضاء ليلةٍ في المركز.
بعد الانتهاء من التقييم الأولي، يحصل كل مريض على خطة فردية وتوصية بالمتابعة. وعلى الأرجح أن يكون هناك بعض الحالات التي تقتضي التحوّل من القسطار الإحليلي المستقر إلى القسطرة المتقطعة. في هذه الحالات، يتم إدخال المرضى إلى المركز لقضاء يومين إلى ثلاثة أيام، مع توفير تدريبٍ منهجي وتحفيزٍ مستمرٍ لهم. أمَّا تأمين القساطر والأدوية فيجري استنادًا إلى الإمكانيات المتوفرة للدعم وإعادة تسديد التكاليف.
Leave a Reply