تنطوي الآية القرآنية القائلة «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، على قاعدة منطقية وأخلاقية تلزم الجناة بتحمل مسؤولية أفعالهم. ولكن يبدو.. وكأنما كتب علينا -نحن العرب والمسلمون- أن نتحمل وزر المتطرفين دينيا والمضطربين نفسيا وعقليا، ففي كل مرة يقوم أحد هؤلاء بارتكاب جريمة ما، نجد أنفسنا تلقائياً في قفص الاتهام.. ماثلين أمام «محكمة علنية» مستمرة على مدار الساعة، تغذيها التغطية الإعلامية المتحيزة، التي لا توفر فرصة لشيطنة الدين الإسلامي الذي يراد له تكريس وتعميم صورته المشوهة، وإظهاره كخطر دائم على المجتمعات الإنسانية عموماً، وعلى المجتمعات الغربية بشكل خاص.
إن المجزرة الدموية التي ارتكبها الأفغاني الأصل عمر متين في ملهى ليلي للمثليين جنسياً في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا، والتي أسفرت عن مقتل 49 شخصاً وإصابة ٥٣ آخرين، هي بدون أدنى شك اعتداء وحشي لا يمت للإسلام بصلة، ولا تتقبله الفطرة الإنسانية السليمة، ولهذا فقد بادر العرب والمسلمون الأميركيون إلى إدانة واستنكار تلك الجريمة بغض النظر عن ميول الضحايا الجنسية.
وعلى وقع الانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد في خضم السباق الرئاسي المحموم الى البيت الأبيض، انقسم الأميركيون الى معسكرين رئيسيين في ظل «استثمار» غير مسبوق لدماء الأميركيين. أحدهما يحمّل «الإسلام الراديكالي» مسؤولية المذبحة ويقوده المرشح الجمهوري دونالد ترامب ومن خلفه الجمهوريون، وآخر بقيادة الرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه مرشحة الديمقراطيين للرئاسة هيلاري كلينتون، اللذين سارعا الى توجيه أصابع الاتهام الى «لوبي السلاح».
وإذ لا يسعنا إلا أن نشكر مواقف أوباما وكلينتون الرافضة لشيطنة المسلمين، غير أن اتهام لوبي صناعة السلاح (أن أر أي) والمدافعين عن المادة الثانية من الدستور (حق حمل السلاح) بالمسؤولية في ارتكاب مذبحة أورلاندو، يقوم على نفس «المنطق الأعوج» الذي يعتمده الذين يوجهون أصابع الإتهام الى المسلمين أو الإنجيليين أو غيرهم، رغم أنه لدينا الكثير مما نقوله في مسألة حمل السلاح من عدمه والقوانين التي تتحكم بذلك و«اللوبي» الذي يستأثر بالقرار من خلال شراء ذمم الكثيرين من أعضاء الكونغرس الأميركي، ولكن للقضية بحث آخر سوف نتناوله في حينه.
ولكن الحقيقة هي أن لا أحد يتحمل مسؤولية مذبحة المثليين في أورلاندو سوى متين نفسه، وربما المحققون الذين «خدعهم»، وكذلك فشل النظام الأمني.
ولكن -كما كان متوقعاً- وجد المسلمون الأميركيون أنفسهم مرة جديدة أمام قائمة الاتهامات الطويلة لهم بالتطرف والإرهاب، وقد أضيفت إليها هذه المرة وصمة العداء للمثليين والمتحولين جنسياً. وهذه وصمة ليست حكراً على المسلمين، فالعديد من الطوائف والملل الأخرى لديها مواقف أكثر تشدداً تجاه المثليين، ويمكن الاستماع إليها بوضوح يومياً عبر أثير الإذاعات، غير أن هذا لا يعطي الحق لأحد بإيذاء أو قتل من يعتبرهم البعض شاذين جنسيا.
.إن الكثير من الأسئلة الشائكة فيما يتعلق بجريمة أورلاندو بحاجة إلى إجابات فورية وشفافة، لاسيما وأن القاتل المهووس كان قد خضع لمراقبة «مكتب التحقيقات الفدرالي» (أف بي آي) وتحقيقاته، ليخلى سبيله لاحقاً لعدم توفر أية أدلة تشير الى تورطه بالإرهاب. والسؤال الذي يفرض نفسه، في هذا السياق هو: ما جدوى السياسات التي تنتهجها المؤسسات الأمنية في تعقب «الذئاب المنفردة» وقد أثبت الكثيرون منهم قدرتهم على مراوغة عتاة المحققين الأمنيين والتخلص بالتالي من مراقبة المؤسسات الأمنية، في الوقت الذي مازالت فيه المجتمعات الإسلامية تعاني من عسف السياسات الأمنية وظلم لوائحها على اختلاف تسمياتها؟
ولن يبدأ النقاش في أسباب تلك الفعلة الشنيعة التي ارتكبها متين حتى تكتمل الصورة وتنتهي التحقيقات.
إذ كيف استطاع هذا «الذئب المنفرد» أن يراوغ ويتملص من مراقبة الشرطة الفدرالية، وكيف تمكن من شراء الأسلحة الرشاشة التي نفذ فيها جريمته النكراء؟ ولماذا احتفظ برخص حمل السلاح رغم شبهات التطرف؟
الأهم من هذا وذاك أن الإسلام والمسلمين لا يتحملون أية مسؤولية تجاه هذه الاعتداء لمجرد كون مرتكب الجريمة مسلماً، ولكن الكثير من السياسيين والمعلقين الإعلاميين يتعامون عن الالتزام بهذه الحقيقة البسيطة، مفضلين الاستمرار في صب الزيت على نار الكراهية والتعصب ضد العرب والمسلمين، حيث يسارع الكثيرون من متصفحي مواقع التواصل الاجتماعي إلى تلقف شرارة الكراهية التي تصل في بعض الأحيان إلى شن تهديدات للمجتمعات الإسلامية في الولايات المتحدة، بما فيها مجتمع الجالية العربية في ديترويت، وهو الأمر الذي أصبح بمثابة «موضة الكترونية» تزداد وتيرتها في أعقاب كل هجوم أرهابي، سواء أكان داخل أميركا أو خارجها.
وفي السياق ذاته، لم يتأخر المرشح الجمهوري دونالد ترامب عن «الاحتفال» بالهجوم الدامي مؤكداً على صوابية مواقفه المتشددة ضد «الإسلام الراديكالي»، وسارع الى استثمار المذبحة انتخابياً عبر إصدار تصريحات عنصرية تجاه المسلمين وكذلك عبر الدعوة الى تشديد المراقبة على المساجد وتحميل الجاليات المسلمة مسؤولية عدم الإبلاغ عن المتطرفين والإرهابيين المحتملين في أوساطهم، كما دعا الى تعليق الهجرة من البلدان التي لها تاريخ في التورط بالإرهاب في صياغة جديدة لاقتراحه السابق بحظر دخول المسلمين الى أميركا.
وما شعبية ترامب الا دليل على أن إدانة الإسلام والمسلمين وتحميلهم مسؤولية أي جريمة.. هي السلوك الأقل كلفة في مجتمع تتصاعد فيه موجة الإسلاموفوبيا إلى درجة يبدو فيها وكأننا، وعقب كل اعتداء، نتعرض لمحاكمة جماعية تحملنا المسؤولية الأخلاقية الكاملة، وتعرضنا لمخاطر الاعتداء علينا، من قبل مهووسين ومتطرفين، من أمثال عمر متين…
Leave a Reply