كمال ذبيان – «صدى الوطن»
قانون العقوبات الأميركي المفروض على المصارف في لبنان الذي بدأ تطبيقه ضد «حزب الله» ومنتمين إليه، أو مؤسسات تابعة له، أو مَن يتعامل معه، شكّل حالة قلق لدى الجمهور الذي يؤيّد المقاومة أو يتعاطف معها، لاسيما في بيئتها الشعبية الحاضنة لها، داخل الطائفة الشيعية، التي ينظر الأغلبية فيها الى المقاومة على انها حرّرت الجنوب، وباتت قوة ردع بمواجهة العدو الإسرائيلي الذي ليس من السهل عليه الإعتداء على لبنان واجتياحه، وكانت آخر مغامرة له في صيف 2006، حيث تكبّد جيشه هزيمة كبرى لم يشهدها في تاريخ صراعه مع الأنظمة العربية، بعد صمود المقاومة ومؤازرة الجيش لها، وتضامن الشعب اللبناني معها.
فالقانون يأتي في سياق قرارات لجأت إليها الإدارات الأميركية المتعاقبة الجمهورية منها والديمقراطية عندما صنّفت «حزب الله» على أنه تنظيم «إرهابي»، ووضعت قياداته على لائحة «الإرهابيين» الذين يجب ملاحقتهم، دون أن تعترف بأنهم قادة مقاومة، حرروا أرضهم من الإحتلال الإسرائيلي، كما كل شعوب العالم التي تقع تحت الإحتلال، ومنهم الشعب الأميركي نفسه الذي قاده جورج واشنطن من مؤسسي الدولة الأميركية، لطرد الإحتلال.
انحياز أميركي
فمنذ إنطلاق المقاومة في لبنان، وقبل ظهور «حزب الله»، كانت أميركا تتماهى مع العدو الإسرائيلي، وتصف المقاومة بـ«الإرهاب»، وهو إنطبق أيضاً على المقاومة الفلسطينية، بفعل الإنحياز الكامل والأعمى للدولة العبرية، التي نشأت بقرار استعماري غربي وتحديداً بريطاني – فرنسي، ورعت ولادتها ونموها وتسليحها الولايات المتحدة الأميركية، التي كان المسؤولون فيها ينظرون إليها على أنها الولاية 52، وهو ما كان سبب الخلاف مع الحكم الأميركي، الذي لم يقف الى جانب الشعوب في تقرير مصيرها، لا سيما الشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه، بعد مجازر أرتكبت بحقه من قبل العصابات الصهيونية التي كانت تتلقى التدريب والتسليح الأميركيَّين، بمساعدة «اللوبي اليهودي» المتغلغل في دوائر القرار الأميركي سواء في مجلسي الشيوخ والنواب أو الوزارات والإدارات المختلفة.
فازدواجية المعايير التي اتبعتها أميركا في اعتبار إعتداءات إسرائيل «دفاعاً عن النفس»، وأعمال المقاومة «إرهاباً»، وأن مَن يسقطوا من الإسرائيليين أبرياء ومدنيون، ومَن يموتوا من الفلسطينيين أو اللبنانيين فهم مجرمون وقتلة وإرهابيون، وقد دعا الرئيس السوري حافظ الأسد، الى مؤتمر دولي في منتصف ثمانينات القرن الماضي لتحديد مفهومي «الإرهاب» والمقاومة، فتنصّلت أميركا من عقده، لأنه يدين إسرائيل التي صنفها قرار للأمم المتحدة حمل الرقم 3379، بالدولة العنصرية، وهو أبشع توصيف في القرن العشرين الذي سقطت فيه الدول التي تمارس العنصرية في كل دول العالم، وهذا ما دفع بالدولة اللقيطة الى بناء جدار الفصل العنصري عند حدود أراضي ما يسمى «دولة إسرائيل»، وأراضي الضفة الغربية مع اقتطاع أراضٍ منها، وضمها إليها لبناء مستوطنات عليها، وهو مرفوض في القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، حيث أدانتها المحكمة الجنائية الدولية، على جرائمها وإرهابها.
فتصنيف أميركا للمقاومة التي يمثّلها «حزب الله»، على أنها «إرهاباً» خلق الإشكالية معها، وترك المؤيّدين للمقاومة يرفضون السياسة الأميركية المنحازة الى الكيان الصهيوني، فسرت حملة شعبية وسياسية وتعبوية منذ عقود، تدعو الى مقاطعة البضائع الأميركية، وطرد السفراء الأميركيين من الدول التي تقف في صف المقاومة، للتأثير على الرأي العام الأميركي، المضلّل من قبل الإعلام الصهيوني والأميركي المتصهين، حيث بدأ التواصل مع الشعب الأميركي لكسبه الى جانب القضية الفلسطينية وقضايا عربية ووطنية أخرى.
لذلك جاء القانون الأميركي من نظرة خاطئة للمقاومة على أنها «إرهاباً»، وعلى خلفية قتال إسرائيل، وإتهام الإدارات الأميركية لـ«حزب الله» أن عناصر منه هم وراء تفجير السفارة الأميركية، كما مراكز تجمع «القوات المتعددة الجنسيات» التي كانت مؤلفة من ضباط وجنود أميركيين وفرنسيين حيث قُتل وجُرح المئات منهم. وإصدار القانون قبل عامين، وبدء تطبيقه قبل أشهر، أوقع أزمة في لبنان، هي الأخطر عليه منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 في أيلول 2004، وشارك في صياغته الرئيسان الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك، ووُصف بالقرار الفتنة، الذي إفتتح عهد الإغتيالات في لبنان ومن أبرزها إغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ومعه دخل لبنان في «الفوضى الخلاقة» التي نظمها بوش له، وللمنطقة تحت شعار «الشرق الأوسط الجديد» ورسم خارطة جديدة للمنطقة بتقسيمها إلى دويلات طائفية وكيانات مذهبية، وكان الهدف هو زج «حزب الله» بفتنة داخلية، الذي منع من حصولها، بعد مقتل الحريري، ليدخل «لبنان عالم آخر».
فشل جهود محاصرة المقاومة
فلم يتمكّن القرار 1559 من المقاومة بنزع سلاحها، كما جاء في أحد بنوده، فأوكلت اميركا المهمة الى العدو الإسرائيلي وفشل، فكانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، منصة لتقديم رأس «حزب الله» لها، من خلال إتهام قيادات من الحزب بالإغتيال، وسُمي منهم أربعة أبرزهم مصطفى بدرالدين الذي اغتالته الجماعات الإرهابية التكفيرية في سوريا، فلم تؤثّر المحكمة على المقاومة، التي قرّرت حكومة فؤاد السنيورة في 5 أيار 2008، تفكيك شبكة إتصالات المقاومة، فكان الرد عسكرياً في «7 أيار»، بتغيير موازين القوى على الأرض، التي فرضت على الحكومة التراجع عن قرارها.
مواطن يمر بجانب المقر الرئيسي لـ«بنك لبنان والمهجر» في بيروت الأحد الماضي. (رويترز) |
ولما فشل العدوان العسكري، ولم يتحقق الهدف من اغتيال الحريري، والمحكمة التي أنشئت له، كان القانون الأميركي لمعاقبة «حزب الله» إقتصادياً ومالياً، والذي أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله، أن لا حسابات مصرفية له في المصارف اللبنانية والخارجية، وهو لا يتعامل معها أبداً، لأن ماله الذي يأتي من «الخمس» أو «الزكاة» والتبرعات، يتم عبر المصارف، بل مباشرة يصل الى «حزب الله»، وهو ليس بحاجة الى مصارف.
أما ما قصده القانون بمحاصرة «حزب الله» مالياً واقتصادياً، فهو الضغط على بيئة الحزب الشعبية، ومحاولة فك إرتباطها به، إذ رأت أميركا وإسرائيل، مدى الترابط بين الحزب وجمهوره، الذي يلبي ما يطلبه السيد نصرالله منه، وهو ما ظهر في أثناء العدوان الإسرائيلي في تموز وآب من العام ٢٠٠٦، عندما تحمّل أهالي الجنوب وبعض البقاع، الإعتداءات الإسرائيلية، خصوصاً ولبنان عموماً، فلم يصدر عنهم أي إنزعاج أو تذمّر، أو تحميل المقاومة المسؤولية، بل تشجيع لها، ودعم خطواتها وقراراتها، وهذا كان مدار بحث وتحليل، عن أن «الجبهة الداخلية» للمقاومة متينة، وتحديداً في مناطق ذات الكثافة الشيعية، التي هي أيضاً فيها، تحرّك ميداني، يحمي المقاومة، حيث لم يظهر بين صفوف البيئة الحاضنة عملاء لإسرائيل، وهذا ما أعطى المقاومة قوة، حيث يريد القانون الأميركي ضرب هذه المقاومة بالمال والإقتصاد، بخلق شرخ وتناقض بين المقاومة والشعب ، حيث حاول وفد نيابي لبناني، زار قبل أشهر واشنطن لثني المسؤولين فيها عن تطبيق القانون، إلا أن الجواب كان سلبياً، وسعى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للتخفيف من تأثير القانون فلم يوفق، كما لم تنجح جمعية المصارف في لبنان، من تقديم أسباب موجبة لتخفيف الضغط عن القطاع المصرفي الذي صمد خلال كل الأزمات التي مرّت على لبنان، وخرج نقده الوطني معافى، والليرة مستقرة، وبات هو والجيش والقوى الأمنية، يشكلون صمام الأمان للبنان، بالحفاظ على استقرار عملته، والحفاظ على أمنه بالرغم من شغور رئاسة الجمهورية منذ أكثر من عامين، الى توقف أعمال التشريع في مجلس النواب، وتعثر الحكومة.
ضغوط عابرة للقارات
ولقد حاول «حزب الله» مع وضع القانون موضع التنفيذ، أن ينبه المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ان لا ينساقوا وراء الضغوطات الأميركية، التي تستهدف المقاومة وهذه المرة من بيئتها، التي تتعرّض لشتى أنواع القرارات التعسفية، من خلال رفض منح تأشيرات الدخول الى بعض الدول، التي تنفّذ السياسة الأميركية، حيث تجري عمليات طرد لعاملين في دول خليجية، كما يحاول اليهود في أفريقيا، إخراج الشيعة خصوصاً واللبنانيين عموماً من سوق العمل والإستثمار فيها، للتأثير مالياً واقتصادياً عليهم.
وشكّل «مصرف لبنان» هيئة تحقيق للنظر في كل حساب تطلب المصارف الأميركية تطبيق القانون عليه، كي لا يكون الإقفال أو الفتح استنسابياً، ودون أي مستند قانوني، لكن بعض المصارف في لبنان، تسرّع في التطبيق دون التقيّد بالهيئة التي وافق عليها «حزب الله»، للوقوف بوجه الهجمة الأميركية على جمهوره، وتسرب أن «بنك لبنان والمهجر»، كان الأسرع في تطبيق القانون دون الإحتكام الى الهيئة، وجاء تصريح حاكم مصرف لبنان، لشبكة أميركية، من أن فئة من اللبنانيين، تعمل على تشويه سمعة لبنان، ليزيد من تعقيد الوضع، عقب ردّ «كتلة الوفاء للمقاومة» على سلامة، واعتبرت موقفه ملتبساً، بعد أن كان وقف موقفاً إيجابياً بتطبيق القانون دون وقوع خسائر لا في القطاع المصرفي وهزّ وضعه، ولا في الطائفة الشيعية المستهدفة للتحرك ضد «حزب الله» والتحريض عليها، ولا في هز استقرار الليرة التي هي صمام أمان لذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة، واستطاع مصرف لبنان أن يحافظ عليها منذ ربع قرن.
ولقد استغلّ المتربصون بلبنان، الخلاف بين «حزب الله» وبعض المصارف، حول آلية التطبيق، لتفجير عبوة ناسفة أمام «بنك لبنان والمهجر»، وهي المرة الأولى التي يستهدف قطاع المصارف الذي يقدر احتياطه النقدي بحوالي 150 مليار دولار، ويشكل داعماً للإقتصاد الوطني، لزرع الشقاق بين القطاع المصرفي و«حزب الله»، وخلق فتنة داخلية أشدّ خطراً من كل ما سبق من قرارات دولية، إلا أن القائمين على المصارف مع حاكم مصرف لبنان، وتدخل رئيس الحكومة تمام سلام، لتطويق ما جرى، ومعالجة الأزمة بالحوار والحكمة والتعقّل، كي لا ينجح أعداء المقاومة بتفكيك شبكة آمانها الشعبي.
Leave a Reply