السياق: في ستينيات القرن الماضي، أوجز الإمام موسى الصدر المشاكل الرئيسية التي كانت طاغية في تلك المرحلة، حيث قال: «الاستبداد وادعاء الوصاية على الناس واتهامهم بأنَّهم لا يفهمون وغير قادرين على تحمّل مسؤولية أنفسهم، هي من الأشكال الكثيرة التي يرتديها الظلم الذي بدوره يحطم الطاقات؛ وكذلك هي سياسات الإهمال التي تبعد الفرص عن الناس، وتنكر عليهم فرصة التقدّم، وحتى تمنع الصحّة عنهم».
إنَّ خصائص المنطقة التي تعمل فيها مؤسَّسات الصدر أساسية لفهم طبيعة عمل المؤسَّسة. عانى جنوب لبنان تاريخياً من إهمال الحكومات المتعاقبة والمنظمات غير الحكومية على الرغم من أهميته الجيوسياسية. وشهدت المنطقة على سلسلة من النزاعات المُسلَّحة التي شارك فيها لاعبون دوليون ومجموعة واسعة من الأحزاب والفصائل اللبنانية. وأفواج المهجّرين من جنوب لبنان أرخت بظلالها الثقيلة وعاثت بالفوضى ليس في أوساط مَنْ تأثّر مباشرةً بها فحسب، بل أيضاً في البلد كله، حيث أنَّ الأشخاص النازحين داخلياً يتسبّبون طبيعياً بضغوطٍ اجتماعية واقتصادية على المراكز الحضرية. والقُرى التي هجرها أهلها أو التي تعيش تحت تهديدٍ مستمر بالعنف، تعاني من مخاطر بيئية واختلال في التوازن الديمغرافي. في مثل هذه الظروف، تأتي التحديات التقليدية والثقافية لتضيف بعداً آخراً إلى انعدام الاستقرار والغليان الاجتماعي. في ظل هذا السياق الديناميكي المثير للتحديات، تنفذ مؤسَّسات الإمام الصدر عملها الإنساني النموذجي.
مؤسَّسات الإمام الصدر والمرأة: تنطلق روح المبادرة والمشاريع الاجتماعية من مسلمّةٍ أساسية هي تمكين المرأة. وعلى الرغم من أنَّ مؤسَّسات الإمام الصدر تقِّدم مروحةً واسعة من الإسهامات في الحياة اللبنانية، ولكن لعلّ القيمة المُضافة الكبرى على هذا المستوى تتمثّل في نجاحها بالتشديد على أهمية المرأة في التوجيه وإيجاد الحلول للمشاكل المجتمعية. تحت ظل الطابع المحافظ الذي يطغى على مجتمع الجنوب اللبناني، مجتمع تواجه فيه المرأة تحدياتٍ على مستوى المساواة تحديداً، يأتي هذا التركيز على المرأة خاصاً متمايزاً.
تخرَّج آلاف الأيتام والفتيات المُستضعفات حتى الآن من برامج المؤسَّسة، الأمر الذي مكَّنهم بالتالي من إيجاد مواقع وأدوار معزَّزة لأنفسهم داخل المجتمع. يكشف هذا السجّل عن التزامٍ واضحٍ بمعالجة قضايا المرأة والعناية باحتياجاتها التعليمية والصحية والمهنية. وهذا ما أكسب المؤسَّسة سمعةً طيبة في صفوف النساء، وخصوصاً الفقيرات منهن، بالنظر إلى التدخلّات العامة في حياة المرأة بجنوب لبنان.
في العام 1962، وفي محاولةٍ لترجمة رؤيته إلى واقع ملموس، اعتمد الإمام الصدر منهجيةً علمية في العمل الاجتماعي وأسَّس مؤسَّسة الإمام الصدر، كمنظمة اجتماعية وتنموية وخيرية لا تتوخى الربح. أطلقت المنظمة عملياتها في العام 1962، وأصبحت مرفقاً عاماً وفقاً للقانون اللبناني. وقد حصلت على صفة استشارية في المجلس الاجتماعي الاقتصادي التابع للأمم المتحدة في 2002. مقرّ المؤسَّسة العام هو في صور، جنوب لبنان؛ وهي تدير ثمانية مراكز اجتماعية-طبية، ولها فروع في بيروت، ومكتب تمثيلي في الولايات المتحدة الأميركية، إضافةً إلى شبكة عالمية من المؤسَّسات الشريكة.
تشكِّل المرأة 80% من فريق عمل مؤسَّسات الإمام الصدر. إضافةً إلى ذلك، تشارك مئات النساء في برامج المؤسَّسة، ويحصلن على التدريب المهني والتمكين الاجتماعي. في ثقافةٍ تقليدية يسود فيها التفاوت والتمييز ضدَّ المرأة، تبقى هذه المبادرة فريدةً من نوعها وغير مسبوقة. في الواقع، تعمل المؤسَّسة انطلاقاً من رأي حازم يتلخص في أن التغيير الاجتماعي الجوهري يحصل من خلال إدخال المرأة في عملية التغيير الاجتماعية وبيئة المبادرة وتطوير المشاريع. والبرامج الصلبة التي تقدِّمها مؤسَّسات الإمام الصدر (برامج التعليم والصحّة المتكاملة والتدريب المهني وتمكين المرأة وغيرها) تُصمَّم عموماً بهدف تسهيل هذا التغيير.
ثمَّة عاملٌ أساسي في خدمة الآخر هو مفهوم الفرص المتكافئة للجميع، بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والإيديولوجية. وأيُّ تحيّزٍ يناقض المساواة ويقوّض المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والتنمية.
تعزيز السلام
إذ دخل عدد ضحايا أعمال العنف من الأطفال حول العالم في عداد المليار، يتناول هذا القسم تجربة المؤسَّسة مع مجموعاتٍ مُحدَّدة من الأطفال في جنوب لبنان. لحماية الناس من العنف أو لمعالجة جراحهم الجسدية أو النفسية التي يسبّبها العنف، ثمّة حاجة إلى مقاربة علاجية. وتعريف الأطفال على ثقافة السلامة هو استراتيجية تنطلق من المستقبل، هدفها الوقاية من النزاعات والحؤول دونها.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ المواجهات الحالية والثورات المنتشرة في المدن العربية تزيد من الوضع سوءاً، وضعٌ يعاني أساساً من الكثير من الاحتياجات، بما في ذلك الأزمات والصدمات المتكرّرة. العداء ينبع من الرغبة في إنزال الألم الذي نشعر به بالآخر، ومن التغييرات الدراماتيكية في الأسرة مثل: الوفاة والمرض والانفصال والتهجير والتشرّد والفقر المدقع وإساءة معاملة الأطفال والإهمال.
منذ تأسيسها قبل 50 عامًا، توفّر المؤسَّسة الخدمات لعشرات الآلاف من المستفيدين، عانى كلٌّ منهم من العنف في مرحلةٍ معيَّنة من الزمن، وتعرَّض كثيرون منهم لأنواعٍ مختلفة من العنف، بما فيه العنف الأسري أو في وسائل الإعلام أو في المدرسة أو في الشارع، أو على مستوى التفجيرات والتصفيات والهجرة القسرية. وقدرة الأفراد المستهدفين على التصالح مع وضعهم والقبول به تبقى مسألةً صعبة، وبالنسبة للفتيات، لم يرتكبنَ أية جريمةٍ تبرّر العقاب الأليم الذي أُنزِل بهنّ. تكبر الفتيات ليدركنَ أنَّهنَّ في المكان الخاطئ (بعيدات عن أسرهن)، الأمر الذي يدفعهنَّ إلى طرح أسئلةٍ لا إجابة عليها، كسؤال «لمَ أنا»؟ أو «مَنْ جاء بي إلى هنا»؟ أو «إلى أين أذهب»؟
توضع في هذا الإطار وتُنفَّذ مقارباتٌ شاملة للاستجابة إلى الاحتياجات المتعدِّدة الأوجه للأطفال من أجل كسر هذه الحلقة التي يعلقون فيها من فقرٍ وعدائية وإقصاءٍ اجتماعي وعدم مساواة. يعيش كثيرون من الأطفال هذه المعاناة كنتيجةٍ للآثار النفسية الناجمة من عقودٍ من الحرب. تؤمن المؤسَّسة في هذا السياق أنَّ تحقيق نتائج تربوية هامَّة يبقى رهناً باعتماد معادلة دقيقة توازن بين رؤيتها كمؤسَّسة تربوية تسعى إلى تحقيق التغيير الإيجابي في ظل طلباتٍ دينامية محلية وغير محلية. في الواقع، تتوسَّع المهام عندما تجد المجتمعات المحلية شرائحها ومكوّناتها محتاجةً إلى الخدمات والتعليم، وهي غير قادرة على تلبية هذه الاحتياجات. هذا يترك المدارس تحت عبءٍ أكبر من حيث ضرورة الاضطلاع بأدوارٍ متعدِّدة الأوجه من أجل تحقيق النتائج المتوخاة.
وإذ بدأ العمل ينمو ويتطوّر، صارت استراتيجيات الإعداد تُوزَّع تحت عنوانين رئيسيَّين. العنوان الأوَّل يتناول التمكين التربوي والاقتصادي والنفسي، الذي يهدف إلى الحدّ من الضغوط التي يواجهونها، ويؤمّن لهم الحماية من المستغلّين، ويساعدهم في تربية أولادهم أيضاً. ويتحقّق ذلك من خلال مشاريع متكاملة: تدريب مهني، توظيف وتأمين فرص عمل؛ وكذلك مشاريع التمكين وبناء القدرات وتوعية المرأة حول حقوقها.
العنوان الثاني يتصل بالتدخّلات النفسية التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار الشخصي والإعداد للحوار السلمي. يبدأ هذا الجهد بعمليةٍ تساعد في امتصاص الصدمة، والاعتراف بالحزن والألم، ومعرفة الهوية واحترام الذات. وتضطلع التربية الأخلاقية والدينية بدور هام على هذا المستوى، حيث أنَّها تجلب إلى النفس الهدوء والتسامح والرحمة والشفاء. وبالإضافة إلى الاستراتيجية المذكورة، تعتمد المؤسَّسة ما يُعرَف باستراتيجيات الدمج. وترتكز هذه السياسة على استقبال الأطفال من العائلات الميسورة مقابل رسوم مرنة وفقاً لقدرات كل أسرة. يولِّد هذا الدمج نتائج متعدِّدة، تتمثل بشكلٍ أساسي بالحوار الذي يبدأ في مرحلةٍ مبكرة من الطفولة، ما يساهم في سدّ الفجوة بين الأطفال الميسورين والأطفال الفقراء. ومن الإنجازات الأخرى توسيع دائرة الشركاء الذين يموّلون العملية التربوية، ما أسفر عن مستوىً أفضل من التجهيز، وقدراتٍ أعلى لدى الموظفين، وبالتالي جودة ونتائج أفضل.
خاتمة
يحتفل العالم بيوم المرأة العالمي. ولكنَّ معظم النساء العربيات لا يشاركنَ. يبدو الأمر وكأنَّهنَّ يشعرن بأنَّ هذا اليوم لا يعنيهنَّ. وهذا مؤشرٌ على أنَّ التحوّل العربي ما زال عالقاً في قفصٍ مريب.
التحوّل إلى تغييرٍ ثقافي واجتماعي لا يقتصر ببساطة على مجرّد تغيير الحكّام أو مَنْ يتولى السلطة. الثورة العربية المنتصرة يجب أن تكون خياراً باللاعنف، خياراً إنسانياً نابعاً من نظامٍ حضاري يسمح بمشاركة جميع المواطنين، ويرعى الحوار كقيمة ووسيلة لإطلاق عجلة التغيير. نعم، القيادة الجديدة والنظام السياسي الجديد آتيان لا محالة، ولا يخلو الأمر من احتمال بروز أنواع أخرى من الظلم والتحديات.
وأختم بمقولةٍ للإمام موسى الصدر في معرض توصيفه للمستقبل المنشود: «لبنان الغد هو بلد العدالة والفرص المتكافئة، بلدٌ عربيٌ موحَّد يحمل رسالة الإنسانية والحضارة، مكانٌ تسكن فيه القيم والحرية»… والحرية المنشودة: «لا يمكن لحرية الفرد أن تتعارض مع حرية الآخرين إذا ما احترم الجميع القيم الأساسية لمجتمعٍ إنساني».
نخرج من تجربة مؤسَّسات الإمام الصدر برؤيةٍ متبصّرة تؤكِّد أنَّ تمكين المرأة هو مقاربة موثوقة للتغيير الاجتماعي وشرط أساسي للفوز في معركة مكافحة البؤس والظلم. ولكنَّ الأهم من ذلك أنَّ العمل مع المرأة يعد بالكثير لأنَّ المرأة بذاتها لا غنى عنها للانتصار خلال الأزمنة الصعبة لدى العبور إلى «ربيع الناس».
Leave a Reply