محمد العزير
حسن محسن حمية، اسم قد لا يعني الكثير للناس، وربما لا يعرفه الكثيرون من ابناء عائلته وبلدته ومنطقته، وفي ذلك مفارقة هائلة لا يوازيها نفوراً سوى المعرفة المستجدة أو المستعادة لأسماء يفترض وينبغي أن تكون أقل شأنًا في المجالين الخاص والعام.
حسن بك، ابن محسن حمد بك حمية، ابن بيت عريق اشتهر بالشجاعة والكرم والأريحية، واشتهر بوفاء تلخصه قصة فرس ابيه «نومة» التي ماتت حزناً على قبر فارسها عندما ترجل عن الدنيا، وهو الذي أصرّ وهو على صهوتها أن يعترض موكب الجنرال شارل ديغول في سهل البقاع ليمارس الضيافة البعلبكية المشهورة حتى ولو كانت لزعيم فرنسا ذاتها.
كيف لمن ولد وكلمة بك على وثيقة ولادته، لمن تعلم في ارقى المدارس محلياً ونال اجازته الجامعية بتفوق من أوروبا، أن ينتهي مهاجراً في شبه منفى؟ كيف لمن كانت أمامه كل فرص الزعامة والوجاهة أن تتلاشى صورته عن واجهة الشهرة وأن يتحول في حقبة الحرائق اللبنانية والعربية الكبرى الى شاهد عن بعد.
الجواب بكل معطياته المعقدة بسيط، كان كل ذلك بقرار، وكان هو صاحب القرار. عندما عاد من أوروبا مجازاً في التاريخ والعلوم السياسية ومهيئاً وفق التقاليد والأعراف لوراثة البيت العريق، رفض الدخول في اللعبة بشروطها، لم يحاول وهو سليل «السيوف البيض» عندما صار رائدها، ان يستثمر في لعبة السيف المعشوق في محيطه، رفض الإستثمار في الماضي، كان موقناً وهو الملم بتاريخه تماماً، أن هناك مستقبلًا يشتاق الى من يناديه، لم ينكفئ، ولم يعتكف بل قرر ان يسير نحو مستقبل افضل، مستقبل يتجاوز منطق الثأر والقيود البدائية وترويج الترّهات.
عندما اكتشف ان حملة الإصلاح المنقوص أيام اللواء فؤاد شهاب، التي كانت (ولا تزال حتى اليوم) موضع إطناب ومديح، تتحول تدريجياً الى حفلة صاخبة من شراء الولاء العشائري بتوزيع السلاح المتوسط والثقيل في بيئة تُعَطّش وتتعطش الى مظاهر حربجية ورخص سلاح والقاب، ولديها الكثير من اوهام الثأر المنتظر، قرر ان ينقل المواجهة الى مكان آخر، رفض عروض المناصب الدبلوماسية والرسمية المتكررة وترشح ضد النخب المهيمنة عام 1964 ليس ضد لائحة رئيس مجلس النواب في حينه وانما ضد المكتب الثاني في أوج مجده.
سعى الى بناء تحالفات مختلفة، كان مكانه في قصر المختارة محفوظاً وعزف العديد ممن تسلقوا لاحقاً سلم الوظيفة ونعيم السلطة، على كمال جنبلاط، وكان في سجله ضمن أشياء كثيرة، انه استأجر باسمه الصريح أول شقة سكنية تستخدمها المقاومة الفلسطينية من أجل العمل الإعلامي بمنطقة الفاكهاني في بيروت، وجلب اليها باسمه أول خط هاتف رسمي لبناني استخدمه الراحل ياسر عرفات.
وقبل ان يتأكد المكتب الثاني للمرة الثانية في العام 1972 من إسقاطه في الإنتخابات النيابية مجدداً، وهذه المرة بعد ان شاعت في منطقة بعلبك ظاهرة الشباب الرافض للبقاء في أسر الماضي، وكان من رموزها نقيب الصحافة المغدور رياض طه، والمحامي زكريا رعد والمحامي نظير جعفر، وآخرون والذين شكلوا وإياه لائحة كادت أن تطيح التركيبة القائمة، لولا بضعة مئات من الأصوات التي اخترعتها «الأيدي الخفية»، كان قد حسم خياره في الإنتماء الى الكلمة وامتشق القلم سلاحاً والرأي ميداناً الى أن فاجأته الحرب.
لم تكن المفاجأة في الحرب كحدث، بالنسبة له، كانت المفاجأة ان الذين راهن عليهم في توقه الى التغيير، كانوا مندفعين بحماس الى نقل منطق الثأر من دوائره التقليدية الضيقة، الى مصاف العقيدة المتوجة بكل أدبيات الثورة والنضال والقضية. ولم يجدوا أفضل من السلاح طريقاً الى اكتساب الولاء، بدا الأمر وكأنه دعوة عامة للعودة الى الوراء، للإستثمار العام في الدم بمسميات كبيرة؛ فرحل.
جرب العمل الدبلوماسي في اطاره العربي الشامل عبر جامعة الدول العربية، إلا أنه لم يصمد في وجه البيروقراطية والتكلس وتركيب المخبر فوق الخبير فاستقال، وظن عندما قرر البقاء في أميركا مهاجراً، أن في الجالية البعيدة عن عثرات الوطن الأم ودهاليز تواريخه، شيء من أمل مكتسب بالإحتكاك مع محيطها الأميركي الجديد والمنفتح والمتفاعل، خصوصاً وأن الهم المعيشي أقل وطأة.
أعاده أمله الدائم الى دائرة السعي، أنشأ مجلة أرادها أن تكون علامة فارقة في دنيا الإغتراب، وسرعان ما اكتشف أن الإنتقال الجسدي لجماعة من الناس الى مكان جديد لا يترجم تلقائياً الى انتقال نفسي أو مسلكي أو فكري، كان عليه أن يشهد عملية اعادة تأصيل مؤلمة لإعتبارات عائلية وجهوية وفئوية جديدة يقودها منطق حداثة النعمة بأسلوب فاقع. وفي حدث أقرب الى التراجيديا المأساوية، أقعدته خلطة دماغية وهو على وشك الإعتزال. أصيب في دماغه الذي تجرأ أن يحلم ويسعى ويتطور.
حسن حمية، حسن بك حمية، هذه ليست حكاية رجل عرفته منذ أن زار بيتنا الفقير في البلدة المجاورة لبلدته، وهو يجول انتخابياً بطلته المليحة وصوته الهادئ والإبتسامة التي لم تفارق محياه، ثم عرفته مهاجراً وزميلًا وصديقاً، انها حكاية جيل كامل، جيل لم يكتف برفض الواقع وانما حاول أن يغير فيه. جيل تجرأ على الحلم فرمي بالإحباط، جيل علمنا الأمل وأعدّنا لتقبّل النكسات. جيل ينقرض رويداً. ألم يغادرنا بالأمس كلوفيس مقصود؟
Leave a Reply