بقلم: كمال العبدلي
«الكرّادة» تسميةٌ لصيقةٌ بمشاعري الغضّة من يوم جذبَ انتباهي البِكر، ارتباطُها المكانيّ والروحيّ بِأقراني ولِداتي من آل «مباركة» الشاخصة حُسينيّتُهُم على بقعةٍ من امتدادِ الشارع الكرّاديّ العام، خلالَ بقايا واحات النخيل المُحيطة بها، قبلَ أن تتحوّل سريعاً إلى حاضرةٍ عمرانيّةٍ من حواضر العالَمِ البغداديّ المتمدِّن.
في بُقعةٍ مفاجئةٍ من شارعِها العام انتصبَ عالياً «مول» يجتذبُ إليه المتنزّهين الشُبّان والمُتبضّعين العائليّين من عامّة الناس بمُختلَف شرائحهم وانحداراتِهم –كما تُشير سجلّاتُهُم التأبينيّة– وعلى مبعدة مئة مترٍ من موقع المول، في الشارع الفرعي المقابل له قبل تشييده بأربعين عاماً كان عشّ الزوجية يحتضن حياتي وفيه وُلدت ابنتي الوحيدة، وكم مرّت من تحت الجسورِ مياه وكم من سُحُبٍ عبرت أعالي السماء، قبل أن ينتصب ذلك المول، حتّى إذا انتقلتُ من حيّ الكرادة إلى حيٍّ آخر من بغداد انتقلت معي كلُّ مشاهده اليوميّة الضاجّة بحركة الناس وهدير محرّكات السيّارات وطيبة أصحاب محلّات الخضار والقصابة وكذلك أصحاب محلّات الألبسة والكماليّات، ولشيوع ظاهرة الطيبة بين أؤلئك الساكنين جعلت حتّى كتبَة التقارير الحزبية ينحسرون ويندمجون معهم مخلّفين تقاريرَهم وراء ظهورهم فارغة المحتوى، بعد أن اكتشفوا دموّية حزبهم في إعدام المئات من الأبرياء تحت تهمة الانتماء لحزب الدعوة.
لا يمكن نسيان العلاقات الحميمة التي تجمع سكّان الكرّادة، إذ كانوا خليطاً متجانساً من المسلمين والمسيحيّين يتبادلون حضورَ المناسبات بينهم سواءً في الأفراح أوالأحزان، حتّى خرجتُ من ذلك الحيّ بصورة النموذج الأمثل في التعايش بين أتباع الأديان المختلفة.
ويوم الأحد الفائت جاءنا الخبر المدوّي والصاعق بتفجير المول بمن فيه من الناس الأبرياء فجاء وقعُ الخبر في نفسي وقعَ ارتطام الصخرة بالرأس، حيث بلغ عددُ الشهداء ما يقرب من الثلثمائة بينهم الكثير من النساء والأطفال، كم كان المشهدُ مروِّعاً لم يزل يصاحبني بهولهِ الجسيم وربّما لن يُمحى من الذاكرة ما حييت، فإذا كان المجرمون الدواعش قد نفّذوا جريمتَهم بهذه الدرجة من برودة الدم فإنّ غليان الحقد عليهم لن يبردَ حتّى يُبادُ آخِرُ داعشيٍّ من على الأرض، وفي صولات الحشد الشعبي المساند لجيشِنا العراقيّ البطل قوة الضمانة في حصد رؤوس أولئك الماردين القتلة وردّهم مندحرين على أعقابهم هم وسواد أفعالهم الشرّيرة.
وعلى الجانب الآخر من ردّات الفعل العالميّة، كم يحزّ في النفس ويبعث على المرارة وتيبّس الشِفاه أن يمرّ خبر التفجير دون الحجم المطلوب في الإدانة وتحفيز الهمم لاستنفار ذوي النفوذ في العالم والقوى الدولية الكبرى نحو الإسهام الفاعل والجاد في محاربة الدواعش الذين لن تقتصر جرائمهم على الرقعة الجغرافية العراقية، بل أيّة رقعة يستهدفونها من العالم.
ولم يفت ذلك، انتباه الكاتب المحرّر إيشان ثارور في جريدة «الإندبندنت»، حيث أشارَ إلى هذه الملاحظة الدقيقة، ومن أجل اطّلاع القرّاء الكرام أنقل هنا ماورد بهذا الخصوص:
أفادت صحيفة الإندبندنت في عددها الصادر، الثلاثاء، بأن عدة هجمات مروعة نفذها «داعش» خلال الأسابيع القليلة الماضية حظيت باهتمام وتعاطف دولي، لكن تفجير بغداد الأخير لم يحظ بقدر يسير من هذا التعاطف رغم أنه الهجوم الأسوأ من نوعه مؤخراً نظراً الى أعداد الضحايا (213 شهيداً وأكثر من مئتي جريح)، فيما وجهت انتقاداً لاذعاً للصحافة الغربية، قائلة إن «مآسي بغداد لا تجتذب سوى تعاطف عالمي أخرس».
وأوردت الصحيفة البريطانية مقالاً للكاتب إيشان ثارور يقول فيه، «من غير المرجح أن يثير هذا الهجوم نفس كم الذعر في الغرب كالهجومين السابقين، وهو الأخير في سيل من المآسي التي تطوق العاصمة العراقية». وأضاف ثارور، «لقد أصبحنا تقريباً صمّا عند سماعنا عن العنف في بغداد، فالتفجيرات المميتة للسيارات لا تستحضر هاشتاج، ولا صوراً شخصية على «فيسبوك» بالعلم العراقي، ولا أسامي وقصص حياة الضحايا على الصفحات الرئيسية للجرائد الغربية، ولا تجتذب سوى تعاطف عالمي أخرس».
وتابع ثارور، «كان 45 شخصاً على الأقل لقي حتفه في هجمات مطار أتاتورك بإسطنبول فى 28 حزيران (يونيو) الماضي، فذُعر العالم لأن المطار هو أحد أهم المحطات في أوروبا والشرق الأوسط وأكثرهم تحصيناً، فتساءل المذيعون الأميركيون هل مطاراتنا آمنة؟ هل يمكن أن يحدث هذا في يوم الاستقلال الأميركي يوم الرابع من تموز؟».
وأضاف، أن «مسلحين يُعتقد أنهم مرتبطون بداعش قاموا بالهجوم على مقهى في دكا، عاصمة بنغلاديش، وقتلوا 20 شخصاً على الأقل، معظمهم إيطاليون ويابانيون، بالإضافة إلى عدد من الطلبة الأميركيين، فقال خبراء أمن إن داعش آخذ بالنمو إلى خارج الشرق الأوسط وإن الأجانب في خطر بكل أنحاء العالم الإسلامي»، بحسب المقال.
وأخيراً وبعد أن شهدنا هذه الجريمة الكبرى التي تزامنت مع بدء عيد الفطر المبارك، ما الفرق بين الضحايا الشهداء وبين أبنائي وإخوتي وأحفادي، إن قلبي يقطر دماً لمظلوميتهم، فهل هناك من متّسَع للبهجة في استقبال العيد بعد اغتياله بذلك التفجير المروّع؟
Leave a Reply