نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«أعتذر»… غريبة كانت تلك الكلمة التي استخدمها رجب طيب أردوغان، في خطابه الموجه الى فلاديمير بوتين، وهو يحاول إصلاح ما افسدته مغامرته العدائية ضد مقاتلة الـ«سوخوي» الروسية عند الحدود السورية-التركية، والتي استتبعتها سلسلة اجراءات عقابية روسية ضد تركيا، كان لها الأثر الموجع على الاقتصاد التركي.
الاعتذار الأردوغاني اعقبته تحولات سريعة في السياسة الخارجية التركية جعلت الكثير من المراقبين يتساءلون عن السر وراء السرعة الكبيرة في هذا الانقلاب، خصوصاً وأن رسالة الاعتذار الموجهة من «السلطان» الى «القيصر» أتت بعد ساعات قليلة على الإعلان عن أن الاتفاق التركي-الإسرائيلي أصبح جاهزاً، لا بل أن مسعى رأب الصدع في العلاقات التركية-الروسية لم يقتصر على الاعتذار، بل ترافق مع قبول تركيا بدفع التعويضات المطلوبة روسياً كشرط أولي للنظر في حل أزمة الـ«سوخوي».
أما مردّ الغرابة في السلوك الأردوغاني، فهو أن الرئيس التركي ليس من نوع الزعماء الذين يعتذرون بسهولة، حتى ولو كانوا يدركون أنهم مخطئون. هو الغرور العثماني الذي دفع الرئيس التركي إلى التعامل مع كل خصومه على طريقة السلطان أو بالأصح الحاكم بأمر الله.
وعلى مدار سنوات طويلة، ظن أردوغان أنّه القادر على فرض وجهته السياسية على الجميع، وأن يتحرك كيفما شاء، وأينما شاء، في المنطقة العربية، دونما حسيب ولا رقيب.
حروب السلطان
حارب أردوغان الكل. تحدّى ارادة الشعب المصري في اسقاط نظام «الإخوان المسلمين» فظل يصف «ثورة 30 يونيو» بأنها «انقلاب عسكري» ثم تحدى الخيار السياسي الذي اتبعه المصريون بانتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيساً للجمهورية رافضاً الاعتراف بوجود رئيس «شرعي» سوى محمد مرسي.
تغوّل بمغامراته العسكرية في سوريا، حتى ظل يؤكد يوماً بعد يوم أنه سيؤدي صلاة العيد المقبل، سواء الفطر أو الأضحى، سلطاناً منتصراً بالجامع الأموي في دمشق.
تمادى كثيراً في مغامرة عسكرية أخرى في العراق، حيث فعل المستحيل لكي يفرض وجهة نظر عثمانية قديمة–جديدة تقول بأن الموصل أرض تركية.
ذهب بعيداً في تحدي الأكراد سواء في الداخل التركي، حين انقلب على الخيار الديموقراطي للشعب التركي، والذي قاد «حزب الشعوب الديمقراطي» الى البرلمان التركي للمرة الأولى في تاريخ الأكراد، ثم راح يفرض «فيتوات» متلاحقة على أي تقدّم تحرزه «وحدات حماية الشعب» الكردية في الصراع ضد التكفيريين في الشمال السوري.
ظل مصرّاً على فرض شروط تطبيع العلاقات مع اسرائيل، بعد حادثة السفينة «مافي مرمرة»، وإن كان في ذلك مكرهاً ليس مختاراً، ذلك أن استيلاد حالة العداء بين تركيا والكيان الصهيوني بالنسبة إلى أردوغان ليست سوى محاولة بائسة للمحافظة على مصداقيته أمام بعض حلفائه، لا سيما «الاخوان المسلمين».
الأخطر من كل ذلك، أن أردوغان تجاوز كل الخطوط الحُمر، اقليمياً ودولياً، حين اختار دعم تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهما من الجماعات التكفيرية كأداة لتحقيق مآربه.
لكن كل ذلك انقلب في أقل من 17 ثانية، هي الفترة التي حلقت فيها مقاتلة السوخوي الروسية في الأجواء التركية، قبل إسقاطها.
كان واضحاً أن «لعنة السوخوي» قد فرضت على أردوغان إعادة النظر في كل مواقفه.
ردم الهوات
وإذا كان الاتفاق التركي-الاسرائيلي أمراً غير مستغرب، بالنظر إلى مرور الوقت على حادثة «مافي مرمرة»، والتحولات الاقليمية التي فرضت على تركيا «التنازل» -ولو قليلاً- أمام الاسرائيليين، بالنظر لحاجتها إلى حليف اقليمي يفك حصارها، فإن تحريك خط المصالحة التركية-الروسية يعكس بالفعل المأزق الذي وصل إلى أردوغان، والذي يدفعه إلى استدارة استراتيجية، قائمة على فكرة «ردم الهوات» بالجملة.
وكان واضحاً أن أردوغان قد استنفد كل المحاولات لعدم اللجوء إلى كل هذه «المصالحات»، التي تجرّع كأسها المر مكرهاً، بعدما توالت عليه الضربات والنكبات، الواحدة تلو الأخرى، والتي كان أبرزها، اقتصادياً، الضربة الحادة التي تكبدتها القطاعات التركية، لاسيما القطاع السياحي، بفعل العقوبات الروسية، وأمنياً، العملية الانتحارية التي ضربت مطار اسطنبول، والتي جاءت متزامنة مع جولة افريقية كان يقوم بها الرئيس التركي للبحث عن بديل اقتصادي لبلاده، والتي أتت تتويجاً لسلسلة عمليات انتحارية على امتداد البلاد.
ومعروف أن تركيا شهدت خلال الفترة الماضية، ارتفاع منحنى العمليات الإرهابية التي وقفت وراءها عناصرُ ترتبط بحزب العمال الكردستاني من جانب، وجبهة التحرير الثوري اليسارية، من جانب ثانٍ، وتنظيم «داعش»، من جانب ثالث، كما برزت من جانب رابع أدوار منظمة صقور حرية كردستان، والتي استطاعت أن تقوم باختراقات أمنية ضخمة في مدن رئيسية، وفي مواقع تتصف بـ«السيادية»، حيث قلب مدينتي أنقرة وإسطنبول.
سوريا والهاجس الكردي
كذلك، فقد شهدت تركيا، ومنذ الانتخابات البرلمانية الاخيرة، بجولتيها الأولى والثانية، تصاعد حالة التوتر والاستقطاب السياسي الذي بات يتداخل بفعل سياسات الحكومة مع خطوط الانقسام العرقي والطائفي والمناطقي في تركيا، وذلك إثر صعود ما يمكن تسميته بـ«الأيديولوجية الأردوغانية» بديلا عن «الكمالية» باعتبارها الأيديولوجية الرسمية للدولة التركية.
كما برزت، منذ العام 2015، التحديات الخطيرة على الأمن القومي التركي، بعد تمدد الأكراد في شمال سوريا، وخصوصاً بعد فشل مشروع المنطقة الآمنة على أثر معركة كوباني، وهو أمر ربما يدفع أردوغان الى إجراء تحوّل أكثر حدة في السياسة الخارجية، ويتمثل بفتح قنوات اتصال مع النظام السوري، وهو ما عبّر عنه رئيس وزرائه بن علي يلدريم حين قال «أنا واثق من أننا سنعود إلى العلاقات الطبيعية مع سوريا. نحن في حاجة إلى ذلك، ولا بد من إرساء الاستقرار في سوريا والعراق من أجل النجاح في مكافحة الإرهاب».
ومن اللافت أن يلديريم، الذي أكد أن هدف بناء علاقات جديدة مع سوريا والعراق «ملحٌّ وضروري»، لم يذكر هو أو أي من المسؤولين الأتراك ما درجوا على ترديده طيلة خمس سنوات عن «جرائم النظام السوري»، ولم يكرروا إصرار أنقرة السابق على «ضرورة رحيل الرئيس بشار الأسد» قبل استعادة العلاقات الطبيعية تلك.
ومن الواضح أن قيام تركيا بمراجعة سياساتها الخارجية، ولا سيما سياساتها تجاه سوريا، يعود في المقام الأول الى تنامي التهديدات التركية على أكثر من مستوى، سواء في الداخل او عند الحدود الجنوبية، وهكذا فإن أردوغان، الذي لم يخف انزعاجه من استمرار الدعم الأميركي والروسي لـ«وحدات حماية الشعب»، لا بل أنه غامر عسكرياً مع روسيا نتيجة لتدخلها في سوريا دعماً للرئيس بشار الأسد، قد بدأ يرى في النظام السوري ضماناً لعدم تهديد الدولة التركية بقيام دولة كردية عند الشريط الحدودي مع سوريا، وهي دولة يفترض ان تكون تحت سيطرة تشكيلات مقربة أيديولوجياً من «حزب العمال الكردستاني»، ولديها بالتالي امتدادات الى داخل تركيا، في ما يعتبره محللون أتراك مقربون من «حزب العدالة والتنمية»، الحجر الاساس لإقامة دولة كردستان الكبرى.
ولعل أكثر من يعبّر عن هذه الهواجس، الصحافة التركية المحسوبة على «حزب العدالة والتنمية»، وفي وقت تتولى مراكز الدراسات القريبة من أردوغان نفسه تمهيد الطريق وتحضير الرأي العام الداخلي لانعطافة كبيرة في السياسات تجاه سوريا، وإجراء مزيد من المصالحات مع جهات أخرى.
عودة الى «صفر مشاكل»
ومع ذلك، فإن محاولة تركيا إنتاج «موجة ثانية» من استراتيجية «صفر مشاكل»، التي وضعها أحمد داود أوغلو، تبدو محفوفة بالمخاطر؛ حيث أن سياقات التهدئة التركية لم تختلف عن سياقات التصعيد حيث ما زالت التناقضات المصرية–التركية سائدة، وثمة تضارب شبه مقصود في التصريحات بين مؤسسة الرئاسة ورئاسة الوزراء التركية بشأن «تطبيع منخفض المستوى» مع مصر التي تقابل بدورها الطروحات التركية بفتور رسمي، وتصعيد «شبه رسمي» للتأكيد على أن بحث أولويات تركيا الاقتصادية لا يمكن أن يسبق مناقشة أولويات مصر الأمنية.
ومع ذلك، فإن التهديد الكردي يدفع أردوغان نحو المضي قدماً في هذه الوجهة التصالحية، وإن اتخذت هنا وتيرة سريعة ومفاجئة، وظلت تتخذ منحى بطيئاً في أماكن اخرى. ولا شك أن العوامل الداخلية تلعب دوراً كبيراً في هذا الإطار، خصوصاً مع محاولات أردوغان اختراق الخطوط الحُمر للنظام «الكمالي»، عبر اسلمة المجتمع التركي على حساب العلمانية الأتاتوركية من جهة، وتحويل نظام الحكم إلى رئاسي تنفيذي، وهو ما قد يثير «الدولة العميقة» المتجذرة في السياسة التركية، ولعل هذا ما يدفعه الى النزول عن شجرة الغرور السلطاني، والتعامل بـ«براغماتية» مع القضايا الخارجية، بما يسمح له بتحصين الجبهة الداخلية.
Leave a Reply