كمال ذبيان – «صدى الوطن»
دخل «التيار الوطني الحر» بلعبة الصراع على السلطة بين قياداته منذ تولي صهر الجنرال، الوزير جبران باسيل، رئاسة التيار الجديد الذي أطلقه العماد ميشال عون بعد مسيرة نضالية طويلة من الدفاع عن السيادة والاستقلال.
الجنرال الذي لم ينعمه الله بولد ذكر -وإن كانت إحدى بناته الثلاث، قد أصبحت عضواً في المكتب السياسي للتيار الذي تحول من «حالة عونية»، الى مؤسسة حزبية، كان «العونيون» يطالبون بها، حتى تستمر مسيرة الجنرال بعد غياب مؤسسها الذي استطاع أن يشكل تياراً شعبياً ظهر مع تبوئه لمنصب رئيس الحكومة العسكرية، بعد إنتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في 27 أيلول من العام 1988، كمرحلة إنتقالية تؤمن إنتخاب رئيس للجمهورية.
من الجميل الى الهراوي
وفيما كانت الحرب الأهلية اللبنانية تلقي أوزارها، أصرّ عون على انتخابه هو رئيساً للجمهورية بعد الجميل، وقد نال حينها وعداً من الرئيس السوري حافظ الأسد بدعمه لهذا المنصب، وفق ما نقل مَن كانوا على إطّلاع حول هذا الموضوع، ومنهم رياض رعد المقرّب من القيادة السورية، وفايز قزّي وألبير منصور وآخرون، لكن ظروفاً دولية وإقليمية حالت دون وصول عون الى الكرسي، واتّفق الأسد مع المبعوث الأميركي ريتشارد مورفي على ترشيح النائب السابق مخايل الضاهر، فعطّله عون وكان قائداً للجيش آنذاك مع رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وفرضوا على القيادات المسيحية وعلى البطريركية المارونية رفض الإتفاق، فلم تحصل إنتخابات رئاسة الجمهورية، لا لانتخاب الرئيس سليمان فرنجية أو النائب فريد سرحال.
ومع تعطيل عون للإنتخابات الرئاسية وشغور موقع رئاسة الجمهورية حلّت الحكومة العسكرية مكانها واستخدمت صلاحياتها، وكانت من لون طائفي مسيحي واحد، بعد أن استقال الضباط المسلمون منها، واستمرت مقابلها حكومة «الأمر الواقع» برئاسة سليم الحص، حيث لم يتم الإعتراف بحكومة عون الذي سارع الى إعلان «حرب التحرير» ضد الوجود العسكري السوري، وسيطرة الدولة على مرافقها، فقرر إقفال اللاشرعي منها، حيث خاض حرب «الإلغاء» ضد «القوات اللبنانية» تحت عنوان السيادة وقيام الدولة، فاستقطب جمهوراً واسعاً من المسيحيين عموماً، وقد ضاقوا بتصرفات الميليشيات لاسيما «القوات» التي كانت قد أنشأت «دويلتها» وأسست جيشها وفرضت الضرائب والرسوم، وهذا ما ساهم في الإلتفاف الشعبي حول عون الذي سرعان ما نال تأييداً من «قوى إسلامية» هي على عداء مع النظام السوري، ففرض نفسه في المعادلة الداخلية كقوة وطنية مع تكاثر الحشد الشعبي حوله في القصر الجمهوري في بعبدا، الذي كان يلقي فيه خطاباً تعبوياً بلغ ذروته مع ذهاب النواب اللبنانيين الى السعودية للتوصل الى تسوية سياسية، حاول عون إسقاطها عندما منع نواباً من المنطقة الشرقية التي كان يسيطر عليها من الذهاب الى السعودية لحضور مؤتمر الطائف الذي نال دعماً دولياً وإقليمياً.
ومن ذهب منهم، خرّب له منزله، ومنعه من العودة الى منطقته، كما منع انعقاد مجلس النواب لإنتخاب رئيس للجمهورية، فكان أن أنتخب الرئيس رينيه معوض في مطار القليعات في الشمال، وبعد اغتياله، انتخب الرئيس إلياس الهراوي في شتورا.
إنهاء التمرّد
تمكّن عون من تكوين حالة شعبية مسيحية حوله، واستمر في معاندته لتطبيق إتفاق الطائف، والإنخراط في التسوية، وسعى موفد الجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي إلى أن يكون عون وزيراً للدفاع ويختار معه وزراء، لكنه رفض وتمرّد على الشرعية الجديدة، من قصر بعبدا الذي رفض تسليمه والإعتراف بها، إلى أن صدر القرار الدولي-الإقليمي، أو الأميركي-السعودي-السوري، بإنهاء العصيان العسكري، بعد أن تشكّلت حكومة جديدة برئاسة سليم الحص، وتعيين العماد إميل لحود قائداً للجيش، فكان 13 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1990، يوم إنهاء تمرّد عون واجتثاث وجوده من قصر بعبدا ووزارة الدفاع بالقوة. لجأ بعدها الى السفارة الفرنسية، لأن فرنسا دعمته بعد ان تحفّظت على إتّفاق الطائف الذي لم تشارك في صنعه، كما ساعده النظام العراقي برئاسة صدام حسين.
وبذلك انتهى تمرّد عون، وبدأت مرحلة جديدة مع أنصاره الذين قُتل بعضهم في المعارك العسكرية، وأسرت القوات السورية بعضاً منهم، وغادر بعضهم الى الخارج، فيما بقي عون لاجئاً في السفارة الفرنسية الى أن تمّ الإتفاق معه على خروجه من لبنان، لتستقبله فرنسا كلاجئ مع عائلته وبعض مساعديه.
في المنفى
كان المنفى لعون، مناسبة له لإعادة تنظيم صفوف مؤيديه، وأول عمل سياسي لجأ إليه، هو تشجيع المسيحيين على مقاطعة الإنتخابات النيابية في صيف 1992، وأعاد شد عصب «جماعته»، حيث تمّ تنظيم الطلاب في المدارس والجامعات، وبدأ نضال سلمي في رفض «الإحتلال السوري»، أو «الوصاية السورية»، وكان تصعيد عوني في الخطاب السياسي، دون أن يُسمح لعون شخصياً الإدلاء بأي تصريح كلاجئ سياسي، وفق الإتفاق مع فرنسا، التي عادت فبدّلت موقفها مع وصول الرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وتأميناً لمصالحها، فبات عون معزولاً سياسياً في منفاه، ولا غطاء دولياً وإقليمياً له، وكان الإتفاق الأميركي-السعودي-السوري، على إدارة سوريا للوضع في لبنان واستمرّ هذا الوضع الى مرحلة ما بعد 11 أيلول 2001 حين بدأت سياسة أميركية جديدة في المنطقة بعد احتلالها للعراق وإسقاط نظام صدام حسين، ففُتحت النافذة لعون ليطل منها ويبدأ بالمطالبة بالخروج السوري من لبنان، وفرض عقوبات على دمشق، وحصل عون على ما أراد، من خلال إتفاق أميركي-فرنسي على إخراج القوات السورية من لبنان، حيث صدر في قرار عن مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559 في 2 أيلول 2004. وقد تبنّى القرار الأممي رفض تعديل الدستور والتمديد للرئيس إميل لحود، حيث كانت أجواء سياسية داخلية، ترعاها بكركي بتوجيه من البطريرك نصرالله صفير، بالدعوة الى الإنسحاب السوري، فكان «لقاء قرنة شهوان» عام 2001، وبدأ جنبلاط يغازل صفير، وأنجز معه مصالحة الجبل، وكلا الطرفين ينسقان لإخراج سوريا من لبنان، وأيّدهما بأسلوب غير مباشر الرئيس رفيق الحريري الذي اتّهم بأنه وراء القرار 1559، الذي ساهم بإصداره صديقه الفرنسي جاك شيراك، وهو ما تسبّب باغتيال الحريري بحسب التحقيق الدولي.
عودة الجنرال
جريمة اغتيال الحريري، التي لا يزال يلفها الغموض بعد أكثر من ١١ عاماً على ارتكابها، سرّعت بإنسحاب القوات السورية بالتزامن مع إطلاق «ثورة الأرز» التي رفعت شعارات عون، فردّ مؤيدو سوريا بالتجمّع في ساحة رياض الصلح في 8 آذار من العام 2005 لشكرها على ما قدمته للبنان ومقاومته، فردّت «ثورة الأرز» باعتصام «14 آذار» الشهير، فانقسم اللبنانيون بين 8 و14 آذار.
عاد عون الى بيروت في مطلع أيار ٢٠٠٥، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخه السياسي، فجرت الإنتخابات النيابية في 27 أيار، ورفض فريق «14 آذار» التحالف مع عون، وفضّل جنبلاط والحريري التحالف مع «أمل» و«حزب الله» للحصول على الأكثرية النيابية، وتأمين رئاسة الحكومة، لكن الجنرال العائد من المنفى حقق فوزاً كاسحاً في الإنتخابات النيابية، بما يشبه «التسونامي» وفق توصيف جنبلاط، كما أن البطريرك صفير طوّبه الزعيم المسيحي الأقوى، ليدخل القائد العسكري، الميدان السياسي بكتلة نيابية، لم تعطه إجازة عبور الى الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة، التي عارضها، وانضمّ إليه «حزب الله» بعد إعلان ورقة التفاهم بين عون والسيد نصرالله، لتختلط الأوراق، وتتبدل التحالفات، فكان إسقاط الحكومة في 7 أيار 2008، ودخول ممثلي عون الى حكومة ثانية برئاسة السنيورة، إلا أن رئاسة الجمهورية ابتعدت عن الجنرال الذي كان ينتظرها منذ عقدين، واستقرت عند قائد الجيش العماد ميشال سليمان وفق اتفاق الدوحة.
في السلطة
في هذه الفترة، كانت شعبية «التيار العوني» تتزايد مسيحياً، لكنه تعرض لهجوم مضاد بعد العدوان الإسرائيلي عام 2006، حيث اتهمه المعارضون لـ«حزب الله» وسلاحه، أنه أمّن الغطاء المسيحي للمقاومة والذي كان ثمنه أن السيد نصرالله أعلن أنه سيبقى مع حليفه في السراء والضراء، وسيكون وفياً لمن وقف معه في الزمن الصعب، ورشّحه لرئاسة الجمهورية ومازال، وأعطاه أصواته في الإنتخابات النيابية، فكبرت كتلته التي باتت وازنة، غير أن ما حصل داخل التيار هو نشوب صراعات على المناصب (مَن سيكون نائباً أو وزيراً أو موظفاً في الفئة الأولى؟) كما أن رموزاً عونية خرجت من التيار، بسبب سياسات عون الجديدة التي حيث تصالح النظام السوري وتحالف «حزب الله» و«8 آذار»، وسّجّلت أول حالة إنشقاق مع اللواء عصام أبو جمرا رفيق درب عون، والذي سماه نائباً لرئيس الحكومة، لكن أبو جمرا لم يتمكن من أن يصبح نائباً في مرجعيون، الذي يحتل مقعدها الأرثوذكسي منذ العام 1992 النائب أسعد حردان، واعترض أبو جمرا على توزير شخصيات ليست من التيار، كالوزير شربل نحاس المعروف بإنتمائه اليساري وتحديداً الى الحزب الشيوعي، أو متمولين كالوزير فادي عبود وإلياس أبو صعب وهما من مؤيدي الحزب السوري القومي الإجتماعي، أو الوزير سليم جريصاتي المقرّب من الرئيس إميل لحود.
ولم يكن أبو جمرا الذي انشق وأسّس «التيار المستقل» الممتعض الوحيد، بل عشرات مثله في التيار الذي أمسك به جبران باسيل بدعم ورعاية العماد عون، الذي حصر فيه الإتصالات السياسية، وحجب أدوار آخرين، الذين بدأوا أمام ظاهرة باسيل الذي لا تتألف الحكومات من دونه، كما أن تسمية الوزراء أعطيت الحصرية فيها له، بحيث قيل أنه يسعى وراء المتمولين، لكسب التمويل.
هذه التطورات داخل التيار الذي سمّى كتلته النيابية بـ«الإصلاح والتغيير» وقدم نفسه نظيفاً في السياسة، فإذا به يقع في لعبة المحاصصة التي أتقنها السياسيون اللبنانيون، كما أنه لم يتمسك بكتابه «الإبراء المستحيل» الذي فنّد فيه إرتكابات وأخطاء السياسة الحريرية في المال والإقتصاد والسرقات التي حصلت خلال تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة مع وزارات مهمة كالمال والإتصالات…
باسيل والعائلة
فمع دخول «التيار الوطني الحر» السلطة بدأت تتغير معالمه وبات ينظر اليه على أنه شريك، ولم يعد يقدم نفسه نموذجاً جديداً نظيفاً، كما أن في داخله تغلغلت العائلية، فالعميد شامل روكز لقيادة الجيش، مع حقّه فيها وكفاءته ونزاهته في تبوئها، ولم يصل إليها، لأنه صهر الجنرال على طريقة باسيل، كما أن صهره الثالث روي الهاشم فله إدارة محطة OTV التلفزيونية، كما لإبن شقيقته آلان عون المقعد النيابي، ولسليم عون مقعد في زحلة وماريو عون وزارة الشؤون الاجتماعية، كما ظهرت المحاور في التيار، وبدأ صراع نفوذ بين النواب وكل منهم يريد الحفاظ على مقعده، وبرز جناح معارض برئاسة نعيم عون إبن شقيق الجنرال الذي اشتكى مع آخرين من هيمنة الوزير باسيل على قرار التيار والتفرّد به، ومباركة العماد عون له الذي استاء من تحرّك المعارضين ومن أقرب المقربين إليه، وفرض عليهم القبول بالنظام الداخلي الجديد للتيار، كما في عدم الترشح ضد باسيل لرئاسة التيار، فقبل به المعارضون دون أن يستسلموا، وقرروا المواجهة من الداخل، ففازوا بهيئات التيار في المناطق، وقد يتمكن المعارضون من الفوز بالترشح للإنتخابات النيابية، واختيار المرشحين من القاعدة الحزبية، بالرغم من أن القرار يعود في النهاية لباسيل الذي يمسك بالهيئات القيادية العليا، حيث عجّل باسيل في تعليق عضوية زياد عبس مع أربعة قياديين آخرين، لمنع ترشحه عن المقعد الأرثوذكسي في الأشرفية، وهو ما حرّك نعيم عون، ليخرج الى الإعلام، ويفضح تسلط باسيل، على التيار وإقصاء المناضلين فيه، بعد أن بدأ يفقد مؤيديه، ويتناقص عدد أعضائه من خمسين ألفاً عام 2005، الى 15 ألفاً في العام 2016.
إن ما يجري في «التيار الوطني الحر»، هو شبيه لما حصل في أحزاب أخرى، إلا أن الإنقسامات تحصل والعماد عون مازال على قيد الحياة، فيرى كيف يتصارع محازبوه على السلطة، وهذا ما قد يهدّد التيار بالإنقراض، وهو لا يحمل عقيدة واضحة بل يبني شعبيته على مواقف الجنرال المرحلية، ولا شيء يضمن استمرار الحزب على المدى البعيد.
Leave a Reply