نبيل هيثم – «صدى الوطن»
مجدداً تعود حلب الى الواجهة. الأهمية الاستراتيجية للمدينة تجعل استعادتها من قبل الجيش السوري وحلفائه، لا سيما الروس، معركة حسم لا يحتمل نصف انتصار، ذلك أن أنصاف الحلول في الحالة الحلبية يعني الخسارة الكاملة.
الأمر ذاته ينطبق على الفصائل المسلحة التي، وللمرة الأولى ربما، اتحدت كلها في «حلف مقدس»، على حد التعبير الماركسي، في محاولة بائسة لفك الحصار الذي فرضه الجيش السوري على معاقل المسلحين في حلب، غداة سيطرته على محور الكاستيلو وحي بني زيد، في خطوة تستهدف التمهيد لاقتحام الاحياء الشرقية، وبالتالي تحرير كامل المدينة.
تحرير حلب بات بحكم الأمر الواقع، وهي مسألة لا تتطلب بذل جهد كبير لقراءتها بين سطور التصريحات الرسمية للمسؤولين الروس من جهة، ومعلقي وسائل الإعلام الروسية من جهة ثانية.
المعادلة بالنسبة الى الروس بسيطة جداً: ثمة حاجة الى تحقيق انجاز عسكري استراتيجي على الأرض قبل الخريف المقبل، بما يضع الكل أمام مسؤولياته، فإما أن يقود تحرير حلب من قبضة الفصائل المسلحة إلى فك الجمود الحاصل في العملية السياسية، بعد تعثر جولات جنيف المتتالية، وإما أن يكون هناك امر واقع جديد في المعادلة الميدانية، يصبح معها المسلحون بين فكي كماشة في محافظة إدلب، لتبدأ في مرحلة لاحقة معارك قضم تدريجي لمعاقلهم… في عملية طويلة ستؤدي بطبيعة الحال الى الحسم الميداني، ولو بعد حين.
ومنذ اللحظة الأولى لاستكمال الطوق العسكري حول مناطق سيطرة المسلحين في حلب، كان واضحاً أن الاستراتيجية الروسية قد أثارت قلق الكثيرين، ولا سيما الجانب الأميركي، الذي سارع الى التشويش على الانجاز النوعي الذي تحقق بإحكام الطوق على المسلحين في أحياء حلب الشرقية.
تشويش أميركي
كان واضحاً، منذ اللحظة الأولى لاكتمال الطوق أن ثمة تقاطعاً في مصالح الأميركيين والمسلحين على إفشال الانجاز العسكري السوري-الروسي. على هذا الأساس، بدأ التحريض الأميركي على روسيا، عبر رفض فكرة المعابر الإنسانية، التي دُعي السكان الى التوجه اليها، بما يسمح باستكمال المعركة العسكرية بأقل قدر من الخسائر في صفوف المدنيين.
التشويش على المسعى الروسي أتى من جهات متعددة، كلها تدور في فلك واشنطن، من الأمم المتحدة وفرنسا، وصولاً إلى المنظمات الدولية غير الحكومية المدعية الحرص على حقوق الإنسان… إلى ان جاءت تحذيرات مباشرة وغير مباشرة من قبل دوائر أميركية رسمية، تحذر الروس من خطورة المضي قدماً في هذا التوجه.
ولكن حسابات الدوائر الديبلوماسية لم تكن مطابقة لحسابات الميدان، ففي خضم الضغوط السياسية التي كانت تمارس على روسيا، كانت الفصائل المسلحة، ولاسيما «القاعدية» منها، تعمد الى مغامرتين –أو قل مقامرتين– عسكريتين، ستغيران من دون شك المشهد العسكري لصالح الروس، عاجلاً أم آجلاً، ويشل قدرة الأميركيين على فرض المزيد من الضغوط السياسية على روسيا.
المقامرة الأولى، تمثلت في إسقاط المروحية الروسية، فوق أجواء إدلب، وهو أمر لن يمر من دون حساب، كما أظهرت تجارب مماثلة أقل دموية في السابق.
وللتأكيد على ذلك، يمكن العودة الى السلوك العسكري الروسي في حرب الشيشان الثانية، حين كانت كل انتكاسة عسكرية للجيش الروسي تقابل بانتصار عسكري بعد فترة قليلة، وهو أمر يبدو غريباً عن المنطق العسكري العام، لكنه ليس بغريب عن المنطق الروسي، وهو ما تبدّى مجدداً خلال الصراع الجاري في سوريا.
وللتذكير، فإن أولى الخسائر العسكرية في سوريا كانت في تشرين الثاني العام 2015، أي بعد أقل من شهرين على بدء الحملة الجوية، حيث قتل الضابط فيودور جورافليوف أثناء مهمة استطلاعية، فكان مقتله شرارة لعملية جوية واسعة أدت الى تدمير ما يقرب من 150 موقعاً للتكفيريين.
وفي الشهر ذاته أيضاً، أسقطت تركيا طائرة السوخوي في ريف اللاذقية الشمالي، وقد قُتل قائد القاذفة أوليغ بيشكوف برصاص مسلحين تركمان عند هبوطه بالمظلة، فيما قتل جندي آخر، خلال عملية إنقاذ الطيار الثاني، وهو ما فجر بركاناً روسيا في وجه مسلحي الريف اللاذقي الشمالي، الذين تكبدوا سلسلة ضربات قاتلة.
الأمر ذاته تكرر في مطلع شهر شباط من العام الحالي، حين ردت روسيا على مقتل المستشار العسكري إيفان تشيريميسين في حمص، بشن عدد هائل من الطلعات الجوية، التي افضت الى تدمير مئات المواقع التابعة للمسلحين.
وفي شهر آذار، حين وقع ضابط وحدة العمليات الخاصة ألكسندر بروخورينكو تحت حصار مسلحي «داعش»، أثناء مهمة قتالية انفرادية، فقام بتوجيه غارة للطيران الروسي إلى المنطقة التي حوصر فيها، فقُتل في تلك الغارة الى جانب الإرهابيين. وفي الأيام اللاحقة، قام الطيران الروسي بتوجيه ضربات مكثفة استهدفت عشرات المنشآت التابعة لتنظيم «داعش» في ريف تدمر.
وفي الثامن من تموز الماضي، قُتل الضابطان الروسيان رفعت حبيبولين ويفغيني دولغوف إثر إسقاط مروحيتهما من قبل إرهابيي «داعش». وردا على مقتل الطيارين، وجهت قاذفات «تو-22 إم 3» بعيدة المدة عدة ضربات ساحقة إلى مواقع التكفيريين.
الانتقام الروسي
انطلاقاً من ذلك، فإن ثمة انطباع لدى المحللين الروس، بأن اسقاط المروحية العسكرية في ريف إدلب، من قبل المسلحين، لن يمر من دون حساب. لا بل إن الصمت الروسي إزاء الرد المحتمل على ما وصف بالخسارة الروسية الأكبر حتى الآن في سوريا، يدفع الى القول بأن الرد هذه المرة سيتخذ بعداً استراتيجياً، وهو أمر تشي به التصريحات الروسية حول ملابسات الحادث.
وفي هذا الإطار، كان ملفتاً أن الروس قد ربطوا اسقاط المروحية، ومقتل العسكريين الخمسة الذين كانوا على متنها، بامرين أساسيين:
الأمر الأول، هو الكشف عن أن المروحية المستهدفة انطلقت من قاعدة حميميم الى حلب تحديداً، وذلك في مهمة انسانية أولاً، وضمن إطار مسعى لتحقيق المصالحة بين الجيش السوري وبعض الفصائل المسلحة ثانياً.
الأمر الثاني، هو الإشارة الى أن النيران التي استهدفت المروحية أتت من مناطق تخضع لسيطرة «جبهة النصرة» –التي كانت تحاول قبل يومين من الحادث تغيير جلدها عبر عملية فك الارتباط المزعومة بتنظيم «القاعدة»- وفيها أيضاً تواجد لما يسمّى «المعارضة المعتدلة».
ولعل الترجمة العملية لهاتين المعلومتين توحيان بأن الجانب الروسي لن يعود بعد اليوم مكبلاً بأية قيود في ما يخص العمليات العسكرية التي يخوضها الى جانب الجيش السوري في الميدان، ذلك أن استهداف جنود كانوا في مهمة «انسانية» لديه تبعات أكثر قسوة من اسقاط مروحية كانت في مهمة عسكرية من جهة، والإشارة الى أن النيران أتت من مناطق سيطرة «جبهة النصرة» و«المعارضة المعتدلة» تعني أن مسرحية «فك الارتباط» لن تغير الموقف من التكفيريين، وثانياً أنه لم يعد هناك لدى الروس تمييز بين «إرهابي» و«معارض معتدل»، ما يعيد الى الأذهان العبارة الساخرة التي قالها الرئيس فلاديمير بوتين قبل أشهر: «لم نعثر على أي معارضة معتدلة في سوريا».
صمود الجيش السوري والحلفاء
وأما المغامرة الثانية، التي قام بها المسلحون، فتمثلت في «الزحف» الذي اطلقوه مؤخراً لفك الحصار عن حلب، والذي اتحدت من اجله معظم الفصائل المسلحة المتناحرة أصلاً في ما بينها.
بدا الأمر محاولة يائسة لتجنب الكارثة الميدانية، وهو ما تأكد بعد ثلاثة أيام من إطلاق الحملة، حين أحبط الجيش السوري وحلفاؤه الأسبوع الماضي أوسعَ هجومٍ شنَّته الجماعاتُ الارهابية المسلحة على محاور غرب حلب ومناطق الريف الجنوبي.
وبعد اشتباكاتٍ عنيفة تمكّن الجيشُ وحلفاؤه من استيعاب الهجوم وايقاع أعدادٍ كبيرة من القتلى والجرحى في صفوف المسلحين، واستعادة السيطرة على العديد من النقاط التي دخلها المسلحون.
وفيما يواصل الجيش السوري تثبيت مواقعه الدفاعية في المناطق التي استعاد السيطرة عليها مؤخراً، وهي خطوة أساسية للانتقال الى مرحلة عسكرية متقدمة في وقت لاحق، فإن بعض الخبراء العسكريين الروس يرون أوجه شبه مثيرة للانتباه بين معركة حلب ومعركتي غوديرميس وغروزني في الشيشان أواخر العام 1999، حين وجهت السلطات الروسية نداء إلى المدنيين في المدينتين للخروج الآمن، قبل ان تبدأ بعد نحو شهر معركة كبرى للسيطرة عليهما، مما كرّس نهاية حرب الشيشان.
وإذا كان ذلك صحيحاً من الناحية العسكرية التكتيكية، فإن حلب من الناحية الاستراتيجية تبدو في مكان آخر، عبّر عنه الرئيس السوري بشار الأسد في البرقية التي ارسلها الى الرئيس فلاديمير بوتين في عيد النصر على الفاشية في التاسع من أيار (مايو) الماضي، والتي قال فيها حرفياً: «مدينة حلب اليوم تشبه ستالينغراد بالأمس.. وبغض النظر عن وحشية العدو وحجم الضحايا وآلام مدننا وقرانا وشعبنا وقواتنا المسلحة، فإننا سوف نحقق الانتصار لخير سوريا والسلام في المنطقة».
Leave a Reply