كمال ذبيان – «صدى الوطن»
71 عاماً على انفصال الجيش اللبناني عن الجيش الفرنسي المستعمر، استكمالاً لمعركة الإستقلال الذي ناله لبنان في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1943، وقد عهدت قيادته حينها الى اللواء فؤاد شهاب، الذي قام بتنظيم الجيش و«لبننته» بعد سنوات الفرنسة. وهكذا أصبح للبنان جيشه الوطني، والذي كانت أول مواجهة له مع العدو الصهيوني بعد اغتصابه لفلسطين في العام 1948، ووقعت معركة بينه وبين العصابات الصهيونية في المالكية، القريبة من الحدود اللبنانية، وسقط شهيداً، النقيب محمد زغيب من بلدة يونين البقاعية في قضاء بعلبك-الهرمل، وسميت ثكنة الجيش في صيدا باسمه، ثم إنسحب الجيش مع الجيوش العربية الى داخل حدود كياناتها، وبقيت فلسطين تحت الإحتلال الإسرائيلي بدعم غربي، وتكرّست إسرائيل دولة في الأمم المتحدة في 15 أيار من العام 1948، واعترفت فيها دول ومنها الإتحاد السوفياتي.
كانت معركة المالكية تحديداً لعقيدة الجيش، إلا أن بعض القوى السياسية والحزبية، حاول إلغاء هذه العقيدة، ورفع مقولة «قوة لبنان في ضعفه»، وأن حمايته تؤمنها صداقات لبنان الخارجية ودبلوماسيته، وبدأ هذا الخلاف يظهر بعد نكسة حزيران (يونيو) العام 1967، عندما انهزمت جيوش الأنظمة العربية أمام الجيش الإسرائيلي الذي بات من أقوى جيوش المنطقة بالدعم الأميركي والغربي له تسليحاً ومساعدات مالية، وبرزت المقاومة الفلسطينية التي حصدت تأييداً شعبياً عربياً، وأن بندقيتها ستحرّر فلسطين، وتمركزت فصائل من هذه المقاومة، لاسيما التنظيم الأقوى حركة «فتح»، في العرقوب الذي سمي بـ«فتح لاند»، وبات هناك سلاح غير سلاح الجيش اللبناني، تحت اسم «الكفاح المسلح الفلسطيني»، وانتشر في المخيمات لحمايتها من الإعتداءات الإسرائيلية، فكانت فصائل المقاومة تصطدم بالجيش اللبناني الذي كان يرفض تجاوزاتها على القانون إذ أصبحت بعض المخيمات الفلسطينية، ملجأً للفارين من وجه العدالة، ومُنعت القوى الأمنية والعسكرية من ملاحقة المطلوبين، فكانت تقع مناوشات بين الجيش والفصائل التي طردت أجهزة الدولة الأمنية من المخيمات، وسيطر «الكفاح المسلح»، الى أن تمّ التصدي لموكب بحركة «فتح» ناقلاً شهيداً له وقُتل مَن قُتل، وقد أتّهمت الأحزاب الإنعزالية بتدبير الحادث، الذي كان من تداعياته إشتباكات مع الجيش، وظهور مسلح لحزب «الكتائب» الذي بدأ يتدرّب لمواجهة الوجود الفلسطيني، ولحقه «حزب الوطنيين الأحرار».
لا انقلابات
وفي أول تجربة له في الأزمة التي وقعت بين أول رئيس للجمهورية بشارة الخوري والمعارضة، وقف الجيش على الحياد، ومع دعوة المعارضة للعصيان المدني، الذي استجاب الرئيس الخوري لمطالبها باستقالته، وشكّل حكومة برئاسة قائد الجيش فؤاد شهاب الذي أمّن انتقال السلطة بانتخاب الرئيس كميل شمعون، ولم يستغل الأزمة السياسية والدستورية وينقلب على المؤسسات الدستورية، ويستلم السلطة، وهذه سُجلت للجيش وقائده، في وقت كانت الدول العربية تشهد انقلابات عسكرية، بدأت في مطلع العام 1949 في سوريا، ثم في «ثورة الضباط الأحرار» في مصر برئاسة جمال عبدالناصر واللواء نجيب الذي عزله عبدالناصر وتسلّم الحكم بعد إزاحة الملك فاروق، وترأس أول جمهورية، في 23 تموز 1952، وسُميت «ثورة 23 يوليو»، وهو ما لم يفعله الجيش بقيادة فؤاد شهاب، الذي كان على مسافة واحدة من الجميع، وهذا حصل اثناء ازمة الرئيس كميل شمعون ومعارضيه الذين رفضوا التمديد له، على غرار ما فعل الخوري في العام 1949، ولم ينه ولايته الثانية إلا بثورة شعبية بيضاء، وهي الثورة التي واجهت شمعون الذي ردّ عليها بالسلاح، فوقعت ضحايا وجرحى، ولم ينفذ الجيش أوامره بالتصدي للثوار، فأوعز الى قيادة الدرك، التي حصلت معارك بينها وبين الثوار الذين كان يقودهم صائب سلام في بيروت وكمال جنبلاط في الجبل، وصبري حمادة في بعلبك، ورشيد كرامي في طرابلس، وحميد فرنجية في زغرتا، وكان في صف شمعون حزبا الكتائب والسوري القومي الإجتماعي.
ففي العام 1952 و1958، حيّد شهاب الجيش عن الصراع الداخلي، فأمّن وحدة الجيش التي خُرقت من بعض الضباط الموالين للثورة وللرئيس عبدالناصر الذي كان أعلن الوحدة بين مصر وسوريا، في وقت كان الحكم الشمعوني مع «حلف بغداد» و«مشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور».
وتحييد الجيش أوصل شهاب الى رئاسة الجمهورية بإتفاق أميركي-مصري، لكن لم يمضِ نحو ثلاث سنوات، حتى حصل إنقلاب قام به ضباط من الجيش هم فؤاد عوض وشوقي خيرالله وعلي الحاج حسن، بتخطيط ومشاركة الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي ينتمي إليه الضباط الثلاثة، حيث أمّن رئيس الحزب الدكتور عبدالله سعاده، الغطاء للإنقلاب من البطريركية المارونية وشمعون الذي كانت له مصلحة في الإطاحة بالشهابية، التي حاولت القضاء عليه سياسياً، لكن الإنقلاب فشل واعتقل قادة الإنقلاب، وزج بآلاف القوميين وأنصارهم وعائلاتهم في السجون التي لم تستوعبهم، فنقلوا الى المدينة الرياضية والثكنات العسكرية، وهكذا نجا شهاب من الإنقلاب، وتحوّل الجيش الى استخدام القوة والعنف مع القوميين الذين تمّت تصفية نحو 35 منهم، كما جرى استغلال الإنقلاب العسكري، لتشديد قبضة الجيش على الحياة السياسية، وتدخلت مخابراته (المكتب الثاني) في كل شيء، فكان يتم اختيار النواب والوزراء والمدراء العامين والموظفين من قبل ضباط المخابرات الذين واجهوا الطبقة السياسية الفاسدة، التي وصفها شهاب بـ«آكلة الجبنة»، وحاول الحد من نفوذها بإجراء إصلاحات إدارية، وإقامة المؤسسات، ومنها مجلس الخدمة المدنية لاإلغاء الزبائنية في الوظائف من قبل السياسيين، وأنشئ التفتيش المركزي وديوان المحاسبة، ومجلس القضاء الأعلى، وتعززت العدالة الإجتماعية عبر إنشاء الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، والى جانبه المشروع الأخضر لمساعدة المزارعين.
من المكتب الثاني.. الى انقسام الجيش
فهذه الثورة الإصلاحية التي لم يعرفها لبنان في بناء الدولة ومؤسساتها، قضى عليها أداء مخابرات الجيش (المكتب الثاني)، وبدأت النقمة الشعبية، وهذا خطأ أرتكب من قبل «الشهابية» التي استخدمت الجيش ضد خصومها السياسيين، فانحدرت هيبة الجيش الذي انحاز الى فريق سياسي ضد فريق، الى أن جاء عهد الرئيس سليمان فرنجية وأنهى «حكم العسكر» في ظل رئيس جمهورية مدني ضعيف، وبدأت حملة تطهير في الجيش من ضباط المكتب الثاني، وعلى رأسهم أنطوان سعد وغابي لحود وسامي الخطيب وغيرهم، حيث لجأ قسم منهم الى سوريا، ومعهم قائد الجيش العماد إميل البستاني الذي وقّع إتفاق القاهرة في عام 1969، الذي نظّم العلاقة بين الجيش ومنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، الذي بدأ يتمدد عسكرياً تحت ظل الإتفاق الذي سمح بـ«الأمن الذاتي» في المخيمات عبر الكفاح المسلح، وانتقال المسلحين الفلسطينيين الى قواعدهم في الجنوب وتحديداً في العرقوب، وقد زاد من النفوذ الفلسطيني على الساحة اللبنانية، أن قوى سياسية وأحزاباً وطنية وتقدمية وشخصيات سنّيّة، استقوت بالسلاح الفلسطيني لتغيير النظام، وجاء اغتيال قادة المقاومة الثلاثة في نيسان من العام 1972، كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار في بيروت شارع فردان، على يد «الموساد الإسرائيلي» بقيادة إيهود باراك الذي أصبح لاحقاً رئيساً للحكومة الإسرائيلية، ليزيد من تأييد الوجود الفلسطيني المسلح، حيث وقعت مواجهات مع الجيش في العام 1973، إلى أن كان انفجار الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، إثر تعرّض «باص» ينقل فلسطينيين في عين الرمانة الى إطلاق نار من عناصر كتائبية، فقتل ركاب الباص، وبدأت الحرب التي لم يُسمح للجيش بالتدخل لوقفها، مع رفض فريق سياسي من القوى اليسارية والفاعليات الإسلامية والسنية تحديداً نزول الجيش الى الشارع وبقائه في الثكنات لابعاده عن صراع داخلي حول مطالب سياسية ومنها ما يدعو الى أن يكون رئيس الحكومة السنّي شريكاً في السلطة فعلياً مع رئيس الجمهورية، حيث فجّرت الإصلاحات السياسية أزمة دامت حوالي 15 سنة دموية وحرب اهلية، إنقسم الجيش خلالها الى ألوية طائفية ومناطقية، فتمرّد عليه الملازم أول أحمد الخطيب وخرج منه وأنشأ «جيش لبنان العربي» بدعم من «حركة فتح»، وظهرت «طلائع الجيش العربي» في البقاع وبغطاء سوري، وانفصل أنطوان بركات وفؤاد مالك وآخرون، وقاتلوا مع «الجبهة اللبنانية»، فيما أسرع اللواء عزيز الأحدب ليعلن عن انقلاب، لم يدم طويلاً، حيث تشرذم الجيش وانقسم، وتوزّعت ألويته في منتصف الثمانينات وفي عهد أمين الجميّل، الى ألوية طائفية ومذهبية، وقاتلوا الى جانب الأحزاب الطائفية والمذهبية.
جيش وطني.. بإجماع وطني
ومع إنتهاء الحرب عام 1990، وبدء تطبيق اتفاق الطائف الذي أرسى عقيدة قتالية ثابتة للجيش تفرق بين العدو والصديق، نجح قائد الجيش العماد إميل لحود بدمج ألوية الجيش الذي ساعدته سوريا تدريباً وتسليحاً، وسلّمته القوات السورية في لبنان، الأرض بإلغاء الميليشيات المسلحة ودورها.
وخلال الأعوام الـ25 الذين مرّوا بعد إتفاق الطائف، ظهرت عقيدة الجيش القتالية الى جانب المقاومة، والتنسيق مع الجيش السوري، فانتخب منه رئيسان هما العماد إميل لحود وميشال سليمان، وإن إسم العماد جان قهوجي مطروح كأبرز المرشحين، والذي نجح في التصدي للإرهاب، فلفت أنظار الدول التي سارعت الى دعمه في التسليح والتدريب وزادت المساعدات له، بعد معركة عرسال ضد تنظيمي «داعش» و«النصرة».
وفي ظل الأزمات السياسية والدستورية، وعبء النزوح السوري، والفراغ في رئاسة الجمهورية، وغياب التشريع في مجلس النواب، وتعثر عمل الحكومة، فإن المؤسسة العسكرية، تبقى الضامن للأمن والإستقرار، ومحاربة الإرهاب، والتصدي للعدو الصهيوني، حيث يقف الجيش على مسافة واحدة من كل الأطراف، ويحيّد نفسه عن كل التجاذبات السياسية،، وهي المرة الأولى في تاريخ الجيش الذي لم يحصل خلاف عليه وعلى دوره، لا بل ثمة إجماع وطني حوله، مما شجّع على التمديد لقائد الجيش ورئيس الأركان، حيث يصادف مع عيد الجيش الذي غابه الإحتفال الرسمي به، وتخريج الضباط وتسليمهم السيوف، إذ عاد التمديد للعماد قهوجي الى الواجهة وسيحصل لعام واحد، فيما رئيس الأركان اللواء وليد سلمان سيحال الى التقاعد.
Leave a Reply