نبيل هيثم – «صدى الوطن»
قاذفات روسية تنفذ غارات في سوريا بعد إقلاعها من قاعدة همدان في إيران! خبر استثنائي بكل المقاييس، يعكس تحوّلاً مثيراً للانتباه على مستويات عدّة، سواء في إطاره التكتيكي وما يشي به من تحوّلات مرتقبة في الميدان السوري، أو في إطاره الإستراتيجي وما يعكسه من تحوّلات في العلاقات الروسية- الإيرانية… أو ربما أبعد من ذلك.
التعاون العسكري غير المسبوق بين إيران وروسيا ينطلق من اعتبارات تكتيكية بالغة الأهمية، من دون شك، وإلا لما أقدمت روسيا على نشر قاذفاتها الاستراتيجية في قاعدة جوية لدولة ثانية في الشرق الأوسط، بعد سوريا، في سابقة ملفتة، أقلّه منذ انتهاء الحرب الباردة.
الطابع غير المسبوق للخطوة الروسية-الإيرانية ينسحب أيضاً على الجمهورية الإسلامية، إذ أن هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الأراضي الإيرانية كقاعدة لتنفيذ تحرّك عسكري خارجي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنها المرة الأولى التي تتواجد فيها قوات روسية على الأراضي الإيرانية منذ انتهاء ما يعرف بالأزمة الإيرانية-الأذرية في العام 1946، وانسحاب الجيش السوفياتي من إيران على أثر ضغوط ديبلوماسية في واحدة من الصراعات المبكرة للحرب الباردة.
والأهم من ذلك، أن هذه هي المرة الأولى التي تستضيف فيها إيران قوات عسكرية أجنبية منذ الثورة الإسلامية، التي سعى قائدها روح الله الخميني إلى تحييدها عن الحرب الباردة، برفعه شعار «لا شرقية ولا غربية»، أو حتى منذ أيام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي لم يسمح، حتى لحليفه الأميركي، سوى باستخدام عدد من المراكز في شمال شرق البلاد، كقواعد تنصت على الاتحاد السوفياتي.
وبالنظر إلى حساسية الموقف الإيراني من قضية القواعد الأجنبية، يبدو مؤكداً أن الخطوة الروسية –الإيرانية ما كانت ضرورية، لولا أن ظروفاً تكتيكية قد فرضتها، وهي مرتبطة بطبيعة الحال بالصراع الدائر في سوريا، في ظل اشتعال جبهة حلب، ولعلها تؤشر الى إمكانية الانخراط الروسي- الإيراني في معركة الموصل في العراق.
تلك الاعتبارات التكتيكية، وبحسب ما أعلن عنه حتى الآن، تتعلق بتقصير فترة تحليق القاذفات الاستراتيجية الروسية بعيدة المدى من طراز «توبوليف – تو 22 ام 3»، وزيادة فعالية ضرباتها الجوية.
وبرغم إدخالها من قبل سلاح الجو الروسي في العمليات العسكرية في سوريا، إلا أن تلك القاذفات الاستراتيجية الروسية كانت تعمل انطلاقاً من قواعد جوية في جنوب روسيا، بالنظر إلى عدم قدرة قاعدة حميميم في اللاذقية على استقبال هذا النوع من الطائرات الحربية.
هذا الأمر كان يتطلب من قاذفات «تو 22 ام 3» أن تقطع مسافة 2150 كيلومتراً من قواعدها في الجنوب الروسي لتنفيذ ضربات في تدمر، وكان يفرض عليها ذلك، تقليل حمولتها من الصواريخ، والتزوّد بالوقود في الجو.
هذه المعوقات اللوجستية تتلاشى اليوم، مع اعتماد قاعدة همدان الإيرانية، حيث باتت المسافة التي ينبغي على القاذفات الروسية قطعها لا تتجاوز 900 كيلومتر، ويوفر عليها 60 بالمئة من الفترة الزمنية المطلوبة لتنفيذ مهامها، ويزيد بالتالي من فعاليتها بمعدل ثلاث مرات، بالنظر إلى إمكانية تزويدها بكميات أكبر من الذخائر (22 طناً مقارنة بثمانية أطنان في السابق)، وبطبيعة الحال تقليل كلفتها المالية.
ولكن يبدو أن ثمة أسباباً أخرى، أكثر خطورة، بدأت تتداولها الصحافة الروسية، وآخرها ما ورد في صحيفة «فزغلياد» من أن السبب الحقيقي وراء نشر القاذفات الاستراتيجية الروسية في إيران يكمن في سعي موسكو لإخفاء تحركات طائراتها من “جواسيس” يعملون لصالح الإرهابيين.
وبحسب «فزغلياد»، القريبة من دوائر السلطة السياسية في روسيا، فإنّ المعطيات اللوجستية ليست هي الدفاع الوحيد للخطوة الروسية – الإيرانية، إذ أن «الجهاديين» يخترعون باستمرار طرقا جديدة لتجنب استهدافهم بالغارات الجوية، ولذلك بدأوا قبل أشهر باعتماد تكتيك جديد، إذ ينتقل المسلحون بمجموعات صغيرة، وفي معظم الحالات ليلا بالإضافة إلى استخدام أساليب التمويه المختلفة، وذلك بناءً على معلومات استخباراتية تصلهم عبر جهات تمتلك القدرة على مراقبة التحركات الروسية عبر الاقمار الاصطناعية!
في العموم، وأياً كانت الاعتبارات التكتيكية لنشر القاذفات الروسية في همدان، فإنّ الأهم في هذه الخطوة يكمن في طابعها الاستراتيجي.
وتكرّس الخطوة الروسية – الإيرانية تقارباً استراتيجياً بدأ يلوح في أفق العلاقات الثنائية، منذ توقيع الاتفاق النووي بين الجمهورية الاسلامية والدول الست الكبرى في اواسط العام 2015، والذي استتبع بزيارة مهمة قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، وهي الأولى منذ العام 2007، وقد نتج عنها توقيع الكثير من الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون الاقتصادية والعسكرية.
زيارة بوتين، وكما ورد على لسان المسؤولين الروس والإيرانيين على حد سواء، وضعت في إطار الشراكة الاستراتيجية، التي يعد الاقتصاد ركيزتها الأساسية… أما وأن التعاون بين الجانبين قد بلغ مستوى استخدام قواعد جوية، فالأمر يعني أن هذه الشراكة الاستراتيجية قد بدأت تتدرج باتجاه التحالف الاستراتيجي، المدفوع بعوامل عدة، منها اقتصادية، وتتضمن صفقات ضخمة على مستوى التبادل التجاري وقطاع النفط والغاز، ومنها عسكرية وترتبط بصفقات تسليح هائلة، ومنها السياسي، وفيه تتقاطع موسكو وطهران في الكثير من القضايا، بينها الموقف من الولايات المتحدة – أو بالأصح موقف واشنطن العدائي تجاه كل من روسيا وايران– والقواسم المشتركة في مقاربة الوضع في سوريا والحرب على الإرهاب.
وبشكل عام، فإنّ التعاون العسكري الروسي – الإيراني يفيد الطرفين في آن واحد.
ومن جهة أخرى، فإن إيران باتت تنظر بعين القلق إلى التحركات الأميركية الأخيرة تجاهها، لجهة السعي إلى مواصلة عزلها دولياً، برغم التوصل الى الاتفاق النووي، وهي تسعى بالتالي إلى البحث عن شركاء دوليين موثوقين، على غرار روسيا، لتعزيز حضورها على الساحتين الاقليمية والدولية، وهي المسألة التي كان من الممكن تلمسها في اللقاء الذي جرى بين بوتين والمرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية في ايران علي خامنئي في 24 تشرين الثاني الماضي.
أما روسيا، فهي تريد أن تكرّس دورها كلاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط، بعد أكثر من عقدين على محاولات الهيمنة الاميركية. وإذا كان الميدان السوري قد سمح لروسيا القيام بهذا الدور الريادي، فإن تكريس التدخل العسكري الروسي في سوريا بعلاقة عسكرية شبه تحالفية مع دولة إقليمية كبرى مثل ايران يعني انتقال روسيا إلى مرحلة متقدمة في ترسيخ حضورها الشرق أوسطي.
وتعني خطوة نشر القاذفات الاستراتيجية في همدان أن روسيا باتت قادرة على التحرك عسكرياً بحرّية كبيرة، بما يجعلها في هذا الإطار في موقع الندّية مع القوات الأميركية، وهو ما يعكسه تصريح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي أكد أن العراق سمح للطيران الروسي باستخدام أجوائه – بشرط أن يتم ذلك عبر ممرات محاذية للحدود وليس فوق المدن العراقية – لافتاً إلى أن هذا الإذن نفسه مُنح لطائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، والتي تعبر أجواء العراق انطلاقاً من قواعدها في الكويت.
كذلك، تعني هذه الخطوة أنه بات ينبغي على كافة الأطراف التنسيق مع روسيا لتجنب أي اشتباك جوي، وهو ما يؤكده قول المتحدث باسم عمليات التحالف الدولي كريستوفر هافر إن روسيا أبلغتهم بشأن طلعاتها، وفقاً لاتفاق سلامة الطيران.
الأهم من ذلك، أن الخطوة الأخيرة تقدم دفعاً للمقاربة الروسية القائمة على فكرة تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب، خصوصاً إذا ما استتبع التعاون الروسي – الإيراني، بتعاون روسي- تركي، ما سيمنح روسيا ورقة جديدة للتفاوض مع الغرب، وخصوصاً إذا ما اقترن التقارب الاقتصادي الأخير بين روسيا وتركيا، بتقارب سياسي، يفضي إلى تكوين مقاربة مشتركة تجاه الاوضاع في سوريا والحرب على الإرهاب.
وكان ملفتاً في هذا الإطار، أن الحديث بدأ يدور جدياً عن إمكانية حدوث تحول في الرؤية التركية إزاء الوضع في سوريا، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، الذي يعكس تحولاً تدريجياً في موقف أنقرة، لا سيما في تشديده على ضرورة «مشاركة جميع مواطني سوريا، في تحديد مصير بلادهم»، و«رفض تركيا تقسيم سوريا»، لا بل إشارته الى أن «أنقرة قامت بتطبيع العلاقات مع كل من إسرائيل وروسيا وحل المشاكل معهما، وانها ستحل أيضا المشاكل على صعيد سوريا والعراق».
وفي هذا السياق، لم يستبعد رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور اوزيروف إقدام تركيا على تغيير موقفها، بعد المحادثات التي جرت الأسبوع الماضي بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، الذي أبدى استعداد أنقرة لدعم موسكو في حربها ضد الإرهاب، لا بل إن اوزيروف ذهب أبعد من ذلك، حين قال ليس من المؤكد أن روسيا في حاجة إلى استخدام قاعدة إنجرليك، ولكن «هذا القرار سيكون ممكنا اعتباره دليلا على استعداد واقعي وليس كلاميا لتركيا للتعاون مع روسيا في مواجهة الإرهاب في سوريا».
هذان الموقفان ترافقا ايضاً مع إشارات من طهران، ضمن الوجهة ذاتها، حيث رأى مستشار السيد علي الخامنئي، علي أكبر ولايتي، أن التعاون بين إيران وروسيا وتركيا حول سوريا قد يسهم في تعزيز السلطة الشرعية والحفاظ على وحدة سوريا وإقصاء الإرهابيين.
تلك الإشارات تشي بتحوّل ما يحدث على المسرح الشرق أوسطي… ومن المؤكد أن تطور الاتصالات على خط طهران–موسكو–أنقرة قد يفضي بالحد الأدنى الى تعزيز التعاون لحل الأزمة في سوريا وضرب الإرهاب… وربما يتطوّر باتجاه إقامة تحالف إقليمي ثلاثي، ليعيد خلط الاوراق الجيوسياسية ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب، وانما على مستوى المسرح الدولي عموماً.
في الخلاصة قد يكون ذلك فاتحة لشرق أوسط جديد!
Leave a Reply