إذا كنت رجلا وتعيش في فرنسا فيمكنك أن ترتدي لباسا يغطي كامل جسمك ورأسك، ولكن إذا اختارت المرأة المسلمة أن تقصد الشواطئ الفرنسية وهي مرتدية حجابها فسوف تخالفها السلطات التي ستطالبها أيضا بخلع بعض ملابسها بما يتناسب مع «ثقافة البحر»!
متظاهرون ضد منع «البوركيني» أمام السفارة الفرنسية في لندن.(رويترز) |
إن الجدل والهستيريا المشتعلة في تلك البلاد، بعد قرار البلديات الفرنسية حظر «البوركيني» (لباس البحر الشرعي لدى المسلمات) يسلطان مزيدا من الأضواء على العنصرية والكراهية المتجذرة في بلاد لم تزل تتبجح بثورتها التي حملت شعارات «الحرية والمساواة والإخاء».
يوحي إسم «البوركيني» بإسم لباس البحر المعروف بـ«البيكني»، ولكنه ليس كذلك. إنه لباس للسباحة يغطي كامل الجسم، وهو بمثابة «لباس البحر الشرعي بالنسبة للمسلمات»، وقد صنعته شركة استرالية لكي يتناسب مع الحجاب الذي تتورع النساء المسلمات عن خلعه عند السباحة.
وفي الوقت نفسه، يوحي لفظ الإسم بالإنكليزية (Burkini) بالبرقع (Burqa)، ولكن هذا لا يبرر للسلطات الفرنسية منعه، بعدما قامت بحظر البرقع، وهو قرار يبدو في ظاهره أقل تعصبا ويمكن تفهمه في ظل الهواجس الأمنية التي تعيشها المجتمعات الغربية عموما.
ومدينة «كان» المطلة على البحر المتوسط، والتي تستضيف مهرجانا عالميا للسينما، كانت أول مدينة فرنسية تلجأ إلى حظرا «البوركيني» قبل نحو أسبوعين، لتشعل موجة جنون معادية للمسلمين في البلاد، خاصة حين أدلى رئيس بلديتها بتصريحات وصف فيها لباس البحر لدى المسلمات بأنه «لا يتناسب مع العلمانية والأخلاق الحميدة»!
وخلال وقت قصير، اقتفت 15 بلدة فرنسية أثر مدينة «كان» وقامت بالحظر، وتذرع مسؤولوها بالأسباب الأمنية مدعين أن الهجمات الإرهابية التي ضربت مدينتي باريس ونيس هي السبب وراء سن القانون الجديد.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق، هو: ما الخطر (الإرهابي) الذي يمكن أن تشكله امرأة مسلمة ترتدي «البوركيني» وتتمتع بشمس الشاطئ والسباحة في مياه البحر، في فرنسا التي أبرمت العام الماضي صفقات أسلحة بقيمة 12 مليار دولار مع المملكة العربية السعودية التي بدورها تجبر مواطناتها على ارتداء البرقع؟
وأية مفاجأة صادمة في العلاقة الوثيقة بين المملكة التي تعمل على تصدير إيديولوجيا الإرهاب وبين الجمهورية العلمانية، لاسيما وأن كلا الدولتين تقومان بخطف حق النساء في الاختيار وتخضعان المواطنين للمنظومة الأخلاقية التي تمليها الحكومتان على أفراد الشعب؟
لقد سبقت ثقافة الأحكام المسبقة ضد العرب والمسلمين في فرنسا صعود تنظيم «داعش» الإرهابي والهجوم على صحيفة «تشارلي إيبدو»، كما أن الجهود الرسمية التي تستهدف حقوق المسلمين في ممارستهم الدينية قد استمرت طوال العقدين السابقين تحت عناوين العلمانية، وقد أظهرت إحصائية نشرت في العام 2014 أن «المسلمين كانوا عرضة بشكل عادي للتمييز العنصري» في سوق العمل. وليس سرا أن مسلمي فرنسا محرومون اقتصاديا وأن الملايين منهم يعيشون في «غيتوهات» المدن ويعانون من ارتفاع مستويات البطالة والجريمة في مجتمعاتهم.
وعلى الرغم من جميع التحديات، فقد أثبت العرب والمسلمون ولاءهم لوطنهم الجديد، فرنسا، وساهموا في بناء مجتمعاتهم وتطويرها بشكل منقطع النظير، بدءا من أسطورة كرة القدم زين الدين زيدان إلى وزيرة العمل مريم الخمري. وذلك على الرغم من الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أن موجات الهجرة الكبيرة إلى فرنسا (وغيرها) كانت من بين أسبابها السياسة الفرنسية الاستعمارية في العالم العربي، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تم تقسيمها بموجب اتفاقية «سايكس بيكو»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ناهيك عن مئات آلاف الضحايا من الجزائريين الذين قتلوا في سياق مقاومتهم الوطنية للتحرر من نير المستعمر الفرنسي الذي كلف إخراجه من البلاد، ما يزيد عن مليون شهيد.
إن سياسات فرنسا العنصرية ضد مواطنيها العرب المسلمين هي صيغة عصرية ومعدلة عن شعارات التفوق الحضاري والعنصري التي رفعها الفرنسيون في السابق كي يبرروا احتلال الدول وانتدابهم على الشعوب الأخرى.. وكان ينبغي على باريس، «عاصمة النور والثقافة»، أن تعتذر عن ماضيها الاستعماري المديد بدلا من تماديها في إشاعة الثقافة العنصرية.
صراع حضارات
في تبرير السلطات الفرنسية لقرار حظر الحجاب على شواطئها فإنها بذلك تجعل من خمسة ملايين من مواطنيها المسلمين إرهابيين محتملين، لكن الجانب الأكثر مدعاة للقلق فيما يخص الجدل حول مسألة حظر «البوركيني» هو التعابير القومية لدى الفرنسيين التي ترقى إلى مستوى الشوفينية، مثل «القيم الفرنسية» و«الأخلاق الحميدة» و«قواعد النظافة» التي تعتمد لتأطير المسلمين بوصفهم أقل شأنا.
ومثل هذا الحظر الذي شرعته المدن والبلدات الفرنسية سوف يشجع منطق صراع الحضارات بدعم من باريس، وهو المنطق الذي يستند عليه تنظيم «داعش» في سياق شنه الحرب على «الكفار» و«الصليبيين»، وهو منطق لا يمكن تبريره في مختلف الأحوال.
لقد ناقش المفكر الراحل ادوارد سعيد هذه الظاهرة في سياق تعليقه على كتاب صموئيل هانتيغتون الذائع الصيت، والمعنون بإسم «صراع الحضارات»، وكتب: إننا جميعا -الغربيين والمسلمين- نسبح في المياه ذاتها، وبما أن المياه هي جزء من محيط التاريخ فإن أية محاولة لتقسيمها لن تكون مجدية، ومن الأفضل لنا في هذه الأوقات العصيبة أن نفكر في طبيعة مشاكل المجتعمات القوية والضعيفة، والمبادئ العالمية حول العدالة والظلم، بدلا من البحث في المفاهيم المفبركة التي قد تعطينا إحساسا آنيا بالرضا لكنها لن تعطينا أي تحليل حقيقي لطبيعة الصراعات.
رسالة إلى الجالية
من حسن حظ المواطنين الأميركيين أن دستور بلادهم يضمن لهم في تعديله الأول حرية ممارسة عقائدهم الدينية، ولكن السياسات المعادية للمسلمين في أوروبا ليست بعيدة جدا عن الشواطىء الأميركية، والحقوق التي يكفلها الدستور الأميركي غير مضمونة بالأخص في أوقات المحن. فقد قامت الولايات المتحدة باعتقال اليابانيين الأميركيين وزجهم في مخيمات معزولة إبان الحرب العالمية الثانية، وحينها لم يستطع القانون حمايتهم.
ومن هنا يجب على العرب والمسلمين الأميركيين أن يكونوا على بينة من مخاطر الكراهية والعنصرية التي يمارسها ضدهم أفراد متعصبون وكذلك بعض الوكالات الحكومية التي تعج سياساتها بالعنصرية.
إن التضييق الفرنسي على حريات المسلمين الدينية يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار لاتخاذ مواقف قوية ومتماسكة بوجه العواصف التي تهب عليهم، والتي يجب أن تدفعهم إلى المزيد من التماسك والتعاضد، بدل التفرق والشرذمة!
Leave a Reply