نبيل هيثم – «صدى الوطن»
في خضم النقاشات التفصيلية بين الولايات المتحدة وروسيا لصياغة اتفاق جديد حول سوريا، يفضي إلى إعادة تثبيت اتفاق وقف اطلاق النار، ودفع العملية السياسية مجدداً، تبدو معركة الموصل، التي أوحت التطورات الميدانية بقرب انطلاقها، رهناً بالخلافات السياسية الداخلية، والتنافس الإقليمي حول سوريا والعراق.
خلال الأيام الماضية، بدا وكأن معركة الموصل قد باتت قريبة. المؤشرات الأولى على ذلك، استشعرها المراقبون من خلال تطور ميداني مهم، تمثل في سيطرة القوات العراقية على مدينة عراقية استراتيجية، هي القيارة، التي أدت دوراً مهماً ومحورياً في أحداث العراق خلال العقد الأخير، ما دفع تنظيم «داعش» إلى جعلها أحد أهم معاقله في محافظة نينوى، حين اتخذها مقراً للقيادة والسيطرة.
وتكمن الأهمية الاستراتيجية لتحرير القيارة في كونها ستصبح القاعدة الأساسية للهجوم المحتمل على مدينة الموصل، المعقل الرئيسي لـ«داعش» في شمال العراق.
ولكن التفاؤل الذي أبداه البعض، سرعان ما كبحته التطورات السياسية في العراق، فبعد ساعات قليلة على تحرير القيارة، هزّت البلاد أزمة سياسية جديدة، حين صوّت البرلمان العراقي على سحب الثقة من وزير الدفاع خالد العبيدي، بعد سلسلة اتهامات بملفات فساد قدّمها ضده النواب.
أزمة سياسية
ويأتي هذا التطور السياسي الخطير، في سياق ازمة سياسية مستدامة، جعلت منصب وزير الداخلية في العراق شاغراً منذ فترة، وكادت تطيح برئيس البرلمان سليم الجبوري في مطلع شهر آب، بعد اتهامه أيضاً، من قبل وزير الدفاع نفسه، بملفات فساد، وهذه الاتهامات تتعلق، وفقاً للعبيدي، بمحاولة الاستيلاء على عقد، قيمته مليار دولار، لتأمين طعام الجيش العراقي، وعلى أثر ذلك، مُنع الجبوي من السفر، وأحيل على القضاء، الذي اسقط اكل التهم عنه، في جلسة تحقيق مقتضبة أثارت جدلاً واسعاً في البلاد لجهة سرعة حسم ملفات فساد كبيرة!
يذكر أن وزير الداخلية محمد الغبان، كان قد قدم استقالته في تموز الماضي، وذلك على أثر الانتقادات الواسعة التي وجهت للجهات الأمنية عقب تفجير الكرادة الدامي، وبشغور منصب وزير الداخلية وسحب الثقة من وزير الدفاع، تصبح الوزارتان من دون وزير، وتداران، بالتالي، بالوكالة.
وفي جميع الأحوال، فإن الأزمة السياسية التي تضرب العراق قد تشكل عاملاً كابحاً لمعركة تحرير الموصل، بالنظر إلى الحساسيات الطائفية المرتبطة بهذه المعركة الفاصلة.
وتكمن عوامل الكبح تلك، في جانبين، الأول أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد خسر، عبر التصويت على سحب الثقة من وزير الدفاع، أحد أبرز حلفائه السنة في الحكومة العراقية، مع ما يثيره ذلك من مخاوف على مرحلة ما بعد انطلاق الهجوم على الموصل. والثاني أن هذه الخطوة البرلمانية سيكون لها تأثير كبير على معركة الموصل نفسها، وأيضاً على العمليات الجارية حالياً ضد «داعش»، لأن وزارة الدفاع ستكون بقيادة نائب الوزير، الذي يمتلك صلاحيات محدودة.
صمام الأمان المفقود
وثمة إجماع داخل العراق وخارجه على أن الوحدة في صفوف السنة من جهة، وبين السنة والشيعة من جهة ثانية، مطلوبة وأساسية للتحضير لهجوم الموصل، ثاني أكبر مدن العراق الذي يخضع لدستور طائفي وضع إبان الاحتلال الأميركي، فيما يقر مسؤولون عراقيون بأن المخاوف من صراعات طائفية في مرحلة ما بعد القضاء على «داعش» في الموصل تبدو واقعية، لا سيما في غياب الرؤية الموحدة بين الأطراف المعنية بإدارة الملف الأمني والسياسي في المدينة.
وثمة من يعتقد بأن إجراءات سحب الثقة من وزير الدفاع، في هذا الوقت بالذات، هي مسألة سياسية وليست مسألة فساد، لا سيما أنه من أهالي الموصل، والمعركة ضد «داعش» هناك على الأبواب، ما يشي بأن إصرار البعض على إقالته الهدف منه تأخير معركة تحرير الموصل، أو على الأقل جعلها تتم من دون قيادة قوية، أو ربما من دون صمّام، تنفيذاً لأجندات إقليمية بإثارة أعمال عنف طائفية عقب تحرير المدينة من قبضة التكفيريين.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن بوادر الخلاف السياسي حول معركة الموصل بدأت قبيل انطلاق العملية العسكرية، بإعلان حيدر العبادي مشاركة فصائل «الحشد الشعبي» في المعركة برغم الرفض الواسع للقوى الإقليمية وفي مقدمتها المملكة السعودية.
ومعروف أن غالبية سكان الموصل من العرب السنة وينحدرون من خمس قبائل رئيسية هي شمر والجبور والدليم وطي والبقارة، ويوجد أيضا مسيحيون، وأقليات ينتمون إلى عدة عرقيات أكراد وتركمان وشبك وغيرها، ولذلك فإن المخاوف التي أطلقت من إمكانية حدوث صراعات طائفية لمرحة ما بعد تحرير الموصل من قبضة «داعش» تبدو واقعية، وترتبط أسبابها بعدم وجود رؤية موحدة لإدارة المدينة بعد التحرير.
تعقيدات ما بعد التحرير
من الناحية العملية، وبعد اقالة وزير الدفاع، لم يعد يوجد أي صمام أمان يجنب الموصل خطر الانزلاق نحو مواجهات طائفية وعشائرية بعد تحريرها من قبضة «داعش»، علاوة على أن الحكومة العراقية نفسها لا تملك أية خطة واضحة المعالم لإدارة المدينة.
ولعلّ ما يعقّد مرحلة ما بعد تحرير الموصل أيضاً، هو عدم وجود أي نوع من التقارب بالأهداف للأطراف الرئيسية في استعادة الموصل (الجيش العراقي، الحشد الشعبي، قوات البيشمركة، والتحالف الدولي)، حيث تتمسك بعض الأطراف بموقفها الرافض لإشراك «الحشد الشعبي» خشية وقوع اشتباكات مماثلة لتلك التي شهدتها مدينة تكريت على خلفيات طائفية العام الماضي، في حين تثير «مطامع» حكومة إقليم كردستان في المدينة، وما يحيط بها، قلقاً كبيراً حول مشاركة قوات «البشمركة» المدعومة أميركياً في عملية التحرير.
علاوة على ذلك، فإن ملف الثارات العشائرية سيكون حاضراً بشكل كبير بعد تحرير الموصل، بسبب تعدد الجهات الأمنية، كما أن ملف المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل سيكون أحد أبرز التحديات التي تواجه المدينة بعد تحريرها.
وفي هذا الإطار، فإنّ الخلافات بين قوات البشمركة والحشد الشعبي، والتي تعد امتداداً للخلافات السياسية بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة اقليم كردستان العراق، تثير قلقا واسعا في أوساط عراقية وغربية ترى أن ليس من المصلحة في الوقت الراهن الدخول في خلافات قد تؤدي إلى صراع عسكري من شأنه عرقلة عملية تحرير الموصل.
ولعلّ هذا ما دفع الوسطاء الى تحريك عملية تفاوض صعبة على خط بغداد-أربيل، أفضت الى التوصل الى اتفاق بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة اقليم كردستان بشأن عملية استعادة الموصل، قضت بعدم دخول قوات البشمركة الى مركز مدينة الموصل، اي أن تبقى على اطراف المدينة، ودخول الجيش العراقي والشرطة المحلية والحشد الشعبي إلى الموصل. ولكن هذا الاتفاق الميداني لا ينهي، بطبيعة الحال، الخلافات المستمرة بين البشمركة والحشد الشعبي، والمستمرة منذ أكثر من عامين، على قضايا تتعلق بتوزيع السلطات، وتقاسم الموارد، كما لا ينهي الخلافات الأكثر تعقيداً بين حكومتي بغداد واربيل حول القضايا الخلافية العالقة منذ إقرار المادة 140 من الدستور العراقي في العام 2005 للتوصل إلى حلول حول الأراضي المتنازع عليها بين العرب والأكراد.
أبعاد دولية
وفوق كل ذلك، تنظر عدّة دول إلى معركة الموصل باعتبارها مهمّة في رسم خريطة النفوذ داخل العراق في مرحلة ما بعد تنظيم «داعش». وتعكس هذه الظاهرة من جهة أخرى سهولة التدخلات الأجنبية في العراق مع اشتداد أزمته على مختلف الصعد، ووجود حكومة ضعيفة متهمة بجعل العراق ساحة مشرعة أمام التدخلات الأجنبية ومسرحاً للصراعات الاقليمية والدولية.
وعلى غرار الحالة السورية، فإن الحالة العراقية تشهد بدورها حروباً بالوكالة، ومحاولة من هذا الطرف الإقليمي أو ذاك لاكتساب مناطق نفوذ، بدءاً بالولايات المتحدة، ومطامعها القديمة في بلاد الرافدين، مروراً بإيران، التي أظهرت أنها رقم صعب في المعادلة العراقية منذ الغزو الأميركي-البريطاني في العام 2003، وصولاً إلى تركيا، التي سبق تدخلها العسكري في العراق مغامرتها العسكرية الأخيرة في سوريا بسنوات، الى المملكة السعودية، الراغبة في مقارعة النفوذ الايراني عبر بوابة الفتنة المذهبية، ودول غربية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا وكندا الراغبة في الاستحواذ على مشاريع اقتصادية كبرى… ألخ.
على هذا الأساس، يمكن القول إن معركة الموصل لن تكون بالسهولة التي يتصوّرها البعض، واللاعب الأساسي فيها لن يكون «داعش»، بقدر ما سيكون مجمل الأجندات الاقليمية والدولية في الساحة العراقية، ما قد يجعل الترتيبات المرتبطة بتحرير «عاصمة الخلافة» أكثر تعقيداً، من الترتيبات الجارية حالياً على الساحة السورية.
Leave a Reply