مريم شهاب
هذه أيام مباركة، فبعد أيام سوف يحلُّ شهر ذي الحجة، الشهر الذي أعزَّ الله فيه الإسلام بالوحدانية، وأذلَّ الشرك بتحطيم الأصنام والأوثان التي كان يعبدها ويتبرك بها العرب وغير العرب في الجاهلية، قبل أن تنزل الرسالة على الرسول محمَّد عليه الصلاة والسلام، وينتشر نورها ليعم أرجاء العالم، فلا حاجز ولا وسيط بين العبد وخالقه.
في كل عام تتطلع ألوف الأفئدة إلى مكة، المدينة المكرَّمة، التي تستلقي في وادٍ موحش تطوقها أعماق وأسرار الصحراء، محصورة بين سلسلتي جبال مدبَّبة الذرى قاحلة، كما لو أن الطبيعة تآمرت مع العقيدة الإسلامية كي تخبِئ أسرارها عن العالم، حتى بعث الله رسوله ليدعو الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، «ويؤيده بنصرٍ مبين» ليحطم الأصنام والتي كانت «أكثرها أنثوية» و«منصوبة» حول حوض الكعبة المشرَّفة. ذلك كان «الحسم» الذي غيَّر وجه التاريخ والرحمة للعباد للخروج من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام العظيم.
مكث النبيُّ محمَّد، الصادق الأمين، في قومه سنين عديدة يدعوهم لترك عبادة الأوثان وتوحيد الله الذي لا إله إلا هو. تحمّل المهانة والتسفيه والتنكيل حتى اضطُرَّ لتركهم يأساً من أرستقراطية وجبروت سادة قريش، الذين عزَّ عليهم الإفلات من الوثنية المظلمة.
لكن إرادة الله عزَّ وجل، أبت إلاَّ أن يتم نوره وينجز وعده وينصر عبده ومن معه من الرجال، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يبدلوا تبديلا. حين دخلوا مكّة شاكرين الله على نِعَمِه ومتسامحين مع من آذوهم وأذلوهم قبل سنين. وبعد تطهير البيت العتيق من رجس الأصنام ودنس الأوثان، طاف الرسول وأصحابه شكراً لله الذي هزم الأحزاب، داعياً إلى التسامح والتسامي فوق الأحقاد. وعند وقوفه عليه السلام عند جبل عرفات، في مشهدٍ مهيب وسط حشدٍ من الرجال والنساء يضم أسياد قريش وأعيان الصحابة، لبُّوا النداء، لبيك اللهم لبيك، سائلين الله تعالى العفو والغفران عن كل ما اقترفوه من ذنوب وآثام، الجميع متساوون أمام الخالق العظيم.
كان دخول النبي محمَّد إلى مكة سلمياً، وهذا ما عزَّز النهج المدني للإسلام كدولة. وسارع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اعتماد «عفا الله عما سلف» عندما خاطب المشركين المتكبرين متسائلاً: ما تظنون إني فاعلٌ بكم”؟ فأجابوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. وعفا عن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، التي خططت لقتل الحمزة بن عبد المطَّلب، عم الرسول الأمين، ومثَّلت بجثته.
وشمل عفوه عليه الصلاة والسلام، الشاعر كعب بن زهير الذي سبق وأفحش في مهاجمة النبي، عندما وقف في حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وألقى قصيدته الشهيرة والمعروفة بالبردة وقال فيها:
أُنبئتُ أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
وقد أتيت رسول الله معتذراً
والعذر عند رسول الله مقبول
هذه رسالة الدين الحنيف الذي أظهره الله على الدين كله. هذه الرسالة التي بلغها النبي محمَّد عليه الصلاة والسلام، رسالة العفو والجهاد المدني الإسلامي. الكثير ممن هاجموا النبي وعفا عنهم ساروا بكتائب المسلمين بعد مدة ونشروا الإسلام في العالم أجمع تحت راية النبي الأكرم، عليك الصلاة والسلام يا رسول الله، يا من تحمَّلت الأذى والمعاناة مع قومٍ كفرةٍ جهلة، نسألك الشفاعة يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون!
Leave a Reply