صبحي غندور
مرّت منذ أيامٍ قلائل الذكرى الخامسة عشر لأحداث «11 سبتمبر» في الولايات المتحدة، والتي تتزامن في هذا العام مع الحملات السياسية والإعلامية الأميركية الممهّدة لانتخابات شهر نوفمبر القادم. وهذا التزامن جعل موضوع الإسلام والمسلمين في أميركا جزءاً من القضايا الانتخابية التي يستغلّها التيّار اليميني المحافظ، كما فعل ويفعل المرشح دونالد ترامب بأجندته السياسية، وكذلك بعض المرشّحين لعضوية الكونغرس من الحزب الجمهوري.
ونلاحظ الآن في سياق حملات اليمين الأميركي المحافظ تركيزاً على قضايا ثلاث يرمز لها وجود باراك أوباما في موقع الرئاسة: المهاجرون الجدد لأميركا، الوجود الإسلامي في أميركا، والقضية العنصرية المزمنة بين السود والبيض. فباراك أوباما هو، ابن مهاجر أفريقي حديث، ذو أصول دينية إسلامية، وهو جزء من الأقلّية السوداء في أميركا التي عانت الكثير حتى حصّلت حقوق المواطنة في المجتمع الأميركي. فمن لا يتضامن مع حملات التيّار المحافظ على أساس عنصري ضدّ السود يجد نفسه مدفوعاً بمشاعر سلبية ضدّ المسلمين بسبب ربطهم بمسألة الإرهاب، أو ضدّ المهاجرين الجدد ومعظمهم من دول أميركا اللاتينية.
ما حدث في نيويورك وواشنطن في العام 2001 كان حتماً عملاً إرهابياً كبيراً ومأساةً إجرامية بكلِّ التفاصيل والأبعاد والنتائج، ولم تجد واشنطن دولاً أخرى تختلف معها حول ذلك، وعلى ضرورة معاقبة من خطَّط لهذا العمل الإرهابي الذي لم يسبق له مثيل في داخل أميركا أو خارجها، لكن وجدت واشنطن من اختلف معها في ظلّ إدارة بوش السابقة حول كيفيّة الردّ وحدوده وأمكنته، وأيضاً حول مدى شمولية مفهوم الإرهاب لدى السلطات الأميركية. فقد دخلت أميركا بعد «11 سبتمبر» 2001 حربها ضدَّ «الإرهاب» كعدوّ، دون تحديد ماهيَّة «العدو» ومفهوم «الإرهاب» نفسه، فاختلطت تسمية الإرهاب إمّا مع الدين الإسلامي أو مع حقّ المقاومة لدى الشعوب الخاضعة للاحتلال، والذي هو حقٌّ مشروع بكافّة المعايير الدولية.
الملفت للانتباه، في تلك الأعوام الماضية الخمس عشرة التحوّلية التي عاشتها أميركا والعالم كلّه، أنّ أصوات العداء بين «الشرق الإسلامي» وبين «الغرب المسيحي» ازدادت، بينما كانت إسرائيل (التي هي «جغرافياً» في الشرق، و«سياسياً» في الغرب، وتنتمي إلى حالةٍ دينية «لا شرقية إسلامية ولا غربية مسيحية») المستفيد الأكبر من صراعات الشرق والغرب في «عالم ما بعد 11 سبتمبر»!
فيوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كان يوم انتصار التطرّف في العالم كلّه. يوماً انتعش فيه التطرّف السياسي والعقائدي في كلِّ بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح بعده «المتطرّفون العالميّون» يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحات مختلفة.. وضحاياهم جميعاً هم من الأبرياء.
كان هذا اليوم رمزاً لعمل إرهابي لا يفرّق بين مذنبٍ وبريء، كما كان ذلك هذا اليوم تبريراً لبدء سياسة «أميركية الشكل»، «إسرائيلية المضمون»، قادها «محافظون جدد» في واشنطن اعتماداً على تغذية الشعور بالخوف من ناحية، ومشاعر الغضب الموصوفة بالكراهية من الناحية الأخرى.
السياسة الحمقاء في البيت الأبيض بواشنطن استغلّت لتنفيذ خططها آنذاك ما حدث من أسلوب إرهابي قامت به مجموعة من شباب عرب ومسلمين يوم 11 سبتمبر، فنشرت الخوف لدى الأميركيين والغربيين من عدوّهم الجديد «التطرّف الإسلامي»، وشكّل ذلك بحدّ ذاته فائدةً كبيرة لمن ينتهجون أسلوب الإرهاب وفكر التطرّف أينما كان، فكرّروا أعمالهم في أكثر من مكان استناداً إلى مبرّرات وذرائع وفّرتها الإدارة الأميركيّة من خلال حربها على العراق، بدلاً من الحرب على الإرهاب وأسبابه السياسيّة. فالإدارات الحاكمة بواشنطن، خاصّةً تلك التي تكون مدعومة من مصانع وشركات الأسلحة، تحتاج دائماً إلى «عدوّ خارجي» يبرّر سياسة الانتشار العسكري ويحافظ على التفوّق الأميركي، ويضمن تبعيّة الدول الأخرى لمن يقود الحضارة الغربيّة المعاصرة.
فهل كانت أحداث «11 سبتمبر» بدايةً لحقبةٍ زمنيةٍ جديدة في العالم، أم أنَّها كانت حلقةً في سلسلةٍ من وقائع عاشتها بلدان العالم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، وبعد سيل الكتابات في حقبة التسعينات عن «العدوّ الجديد» للغرب القادم من الشرق؟.
وهل هو من قبيل الصدفة أن تكون المنطقة العربية، ومنطقة الخليج العربي تحديداّ، هي محطّ تفاعلات مع بعد أحداث «11 سبتمبر»، حيث قادت الإدارة الأميركية السابقة حربها على العراق بذريعة الردّ على ما جرى من إرهابٍ على أميركا؟.
لكن لو لم تكن هناك جهاتٌ محليّة تتحرَّك بأسماء عربية أو إسلامية، هل كان ممكناً حدوث مثل هذه الصدمات أو الزلازل التي هزّت أركان الأرض العربية تحديداً؟ وكيف يمكن تفسير ظاهرة «جماعة القاعدة» التي خرجت إلى الوجود خلال عقد التسعينات، في حين أنَّ مؤسّسها والعديد من عناصرها كانوا أصلاً خدّام السياسة الأميركية طوال سنوات حرب «المجاهدين الأفغان» ضدَّ النظام الشيوعي والقوات السوفييتية في أفغانستان؟.
هذه أسئلةٌ مهمّة، لأنَّ «المهندس الغربي» استخدم ويستخدم «مقاولين» عرب ومسلمين في إعداده لبناء «شرقٍ أوسط جديد»، بل لبناء نظامٍ عالميٍّ جديد تحدَّث عنه جورج بوش الأب في مطلع عقد التسعينات، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
إنّ أميركا «الداخل» تعيش حاليّاً مرحلة تحوّل بمختلف أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. وفي أميركا يتصارع الآن اتجاهان: الأوّل، عنصري رأى بأنَّ الهجوم الإرهابي الذي حصل على أميركا في العام 2001 كان هجوماً «إسلاميّاً» من حيث الدين، و«عربيّاً» من حيث الجنسية، ويشمل في تبعاته بلدان العالم الإسلامي كلّها. أمّا الاتجاه الثاني، فرأى ما حدث من إرهاب في أميركا أشبه بصفَّارة إنذار تدعو الأميركيين إلى فهمٍ أفضل للعالم ولِما يجري حولهم، بعد عقودٍ من الجهل بـ «الآخر» الموجود خارج أميركا. اتجاه يدعو إلى التساؤل عن ماهيّة الأسباب التي تجعل أشخاصاً يقدمون على الانتحار بتفجير أنفسهم من أجل قتل أكبر عددٍ من المدنيين في أميركا.
15 سنة مضت على صدمة «11 سبتمبر» في أميركا، ورغم ذلك لم يقدِّم أيّ مسؤولٍ سياسي أو أمني استقالته بسبب هذه الأحداث، كما هو التقليد الأميركي المعهود بإعلان بعض الأشخاص تحمّل المسؤولية بعد وقوع حوادث ما، ترتبط بوجود تقصير بشري. فأحداث «11 سبتمبر» كانت لها نكهة خاصَّة، إذ الملامة الأميركية الرسمية كانت على «الإرهابيين فقط وما خلفهم من أصولٍ دينية أو إثنية»!.
عسى أن تكون ذكرى أحداث «11 سبتمبر» هذا العام مناسبة أميركية للتقييم وللتقويم معاً.. مناسبة لتقف أميركا مع نفسها أولاً، ولتراجع فيها المؤسّسات الحاكمة مخاطر توظيف الدين والحركات الدينية في الصراعات السياسية، وهو أمرٌ مطلوب التوقّف عنده أيضاً من قبل كلّ حكام وحكماء العالم!
Leave a Reply