مات شيمون بيريز. لكن المفارقة الأكثر مرارة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لن تموت: أبو القنبلة الذرية الإسرائيلية رحل وفي سجله الشخصي جائزة نوبل للسلام!
عمال إنقاذ ينتشلون ضحايا مجزرة قانا الأولى عام 1996 |
هنالك ما هو أقسى أيضاً، وأكثر إيلاماً: قاتل الأطفال والرضع في المجازر الفلسطينية واللبنانية مات عن عمر يناهز الـ93 عاماً. والقول إنه كان يسرق أعمار الصغار لكي يتقدم في العمر أكثر فأكثر.. ليس مجرد إنشاء عاطفي. كان حقيقة ساطعة.. ففي عنق هذا المجرم الهرم آثام قتل مئات الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين. فالطاعنون في السن ليسوا دائما رحماء، خاصة إذا كانوا طاعنين في الإجرام والحقد والكراهية.
بيريز-الوريث السياسي لتراث الأب المؤسس للدولة العبرية دافيد بن غوريون- نعاه الإعلام الأميركي بوصفه رجل دولة ورجل سلام، مع أنه بدأ حياته إرهابياً، عبر انضمامه إلى عصابات الهاغاناه في بدايات شبابه، حيث كان مسؤولا عن الموارد البشرية وشراء العتاد للتنظيم، وظل حتى الرمق الأخير من حياته يعتبر بن غوريون راعيه ومعلمه السياسي! ومن يا ترى سيكون معلمه الإجرامي غير بن غوريون نفسه.. زعيم الاستيطان وصاحب مقولة «لو كنت زعيماً عربياً فلن أوقع سلاماً مع إسرائيل أبداً» في اعتراف مخاتل يفضخ حجم التناقض الأخلاقي والحضاري والحقوقي بين العرب والصهاينة.
ألم يكتب بن غوريون كتاب «المفارقة اليهودية»، ولكن كم عدد المفارقات في تاريخ الدولة اليهودية وفي تاريخ سياسييها القادمين جميعاً من المؤسسة العسكرية، على عكس أية دولة أخرى في العالم. بيريز الذي رحل إلى العالم الآخر وهو رئيس لدولة إسرائيل. «السياسي المحنك» تكفل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بمهمة جمع السلاح للدولة الوليدة، وهو نفسه الذي حصل على صفقة طائرات «الميراج 3» و«بناء المفاعل النووي في ديمونة». وإذا كانت السياسة في كل العالم تعني الاقتصاد المكثف، فإن السياسة في إسرائيل تعني «الحروب المكثفة»!
رجل السلام، الذي يعرف في الأوساط الدبلوماسية بالسياسي المخضرم، هو نفسه من أمر بعدوان عسكري شامل ضد لبنان في العام 1996، وأمر بقصف قراه ومدنه بما فيها العاصمة بيروت في عملية «عناقيد الغضب» التي تخللها قصف إسرائيلي لمركز تابع للأمم المتحدة لجأ إليه المدنيون اللبنانيون الهاربون من آلة القتل الإسرائيلية، وكانت حصيلة القصف 250 شهيداً وجريحاً مدنياً من الأطفال والنساء والمسنين، فيما بات يعرف بـ«مجزرة قانا الأولى». في ذلك الوقت، كان بيريز يذاكر دروسه لامتحانات «نوبل للسلام»!
في تلك المجزرة استشهد طفلان عربيان أميركيان من ديربورن، هما هادي بيطار وشقيقه عبد المحسن، وكلاهما دون العاشرة من عمره. بعدها بسبع سنوات، في شهر كانون الأول (ديسمبر) العام 2003 زار بيريز مدينة ديربورن بدعوة من منظمة «بذور السلام» التي تضم نشطاء عرباً ويهوداً، لتكريمه -بطبيعة الحال- بوصفه «رجل سلام». حينها أفشل عرب أميركيون تلك الزيارة، بعد احتجاجهم ورفعهم يافطات وصفت الزائر الإسرائيلي بـ«قاتل الأطفال»، كما قال حينها حيدر بيطار، والد الطفلين اللذين قتلا خلال زيارتهما لجدتهما في لبنان واصفا بيريز بأنه «مجرم حرب وليس صانع سلام».
في السياق الأميركي، أمر الرئيس باراك أوباما وكذلك حاكم ولاية ميشيغن ريك سنايدر بتنكيس الأعلام حدادا على رحيل الرئيس الإسرائيلي، من دون أن يخطر ببالهما أن اثنين من المواطنين الأميركيين قتلا بنيران بأوامر هذا السفاح. كما بعث السناتور غاري بيترز برسالة تعزية حارة للإسرائيليين، وكذلك من المقرر أن يحضر الرئيس الأميركي جنازة بيريز إلى جانب بعض السياسيين الأميركيين وفي مقدمتهم مرشحا الرئاسة، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، إضافة إلى أعضاء في الكونغرس الأميركي، من دون أن يخطر في بال أي من هؤلاء، لا في الماضي، ولا الآن، أن يحاسب إسرائيل على امتلاكها الأسلحة النووية، أو أن يسائلها عن برنامجها النووي السري، كما كانوا يفعلون مع إيران، وقبلها مع العراق.
وبالعودة، إلى العام 1996، فقد أصدر بيريز كتابا بعنوان «الشرق الأوسط الجديد»، مارس من خلاله «خدعته الأثيرة» حين تحدث عن فشل الحروب وأهمية السلام. وكان من الصعب على الباحثين أن يكتشفوا أن السياسي المخضرم كان يدس السم بالعسل، فدعوته الظاهرية للسلام لا تخفي الاستراتيجية التوسعية التي التزم بها قادة اسرائيل والحركة الصهيونية حتى من قبل قيام دولتهم على أرض فلسطين.
وفي ذلك الكتاب طالب شيمون العرب بنسيان تاريخهم ووأد ذاكرتهم، ويبدو أن الكثيرين منهم استجابوا لتلك الدعوة، وها هم يشهدون بأعينهم مخاض «الشرق الأوسط الجديد» الذي لن يقوم إلا على أنقاض الأوطان والشعوب في منطقة الشرق الأوسط.
ثمة آداب تحكم سلوك الناس في كل المناسبات. في الموت يقولون للموتى ارقدوا بسلام، فماذا نقول لـ«فقيد السلام الكبير».
أقلُّ ما يمكن قوله في هذه المناسبة: العالم برحيلك ورحيل أمثالك سيكون أكثر سلاماً..
Leave a Reply