مريم شهاب
حين انسحب المعزُّون، قصة مختزلة كرأس دبوس، ومؤلمة مثله حين ينغرس في القلب. ترسم القصة أفراد أسرة فقدت غالياً: بكت البنت بحرقة لأن الميت طلب منها صبيحة رحيله جرعة ماء فرفضت إعطاءه. الصبي نادم لأنه ركل الراحل بكل خفة وطيش. الأم كوتها لوعة الندم، لأنها كانت تهمله وهو يتشبث بها. الأخت الكبرى أيضاً نادمة: ناداها مرات عدَّة وتجاهلته. والأب خجلان ودامع لأنه ضربه عدة مرات!
هذه قصة مؤثرة جداً لأنها تجسد شعوراً إنسانياً يتجاوز الزمان والمكان، إنه الندم. ندمنا البشري اتجاه الراحلين حين لا نتذكر غير تقصيرنا وعدم انتباهنا لهم. فكيف إذا كان الراحل شاباً أو شابة، خطفه الموت من بين أهله وأصدقائه بصورة صادمة وبدون إنذار. وكما سمعنا مؤخراً عن عدة شباب أحباء هنا في ديربورن، رحلوا فجأة وسببوا حزناً فاجعاً لأمهاتهم وآبائهم وفتحوا مزاريب وأقاويل الناس عن سبب الوفاة وإهمال الأهل في مراقبتهم والتقصير في تربيتهم وغيرها من النظريات والتحليلات للأسباب التي أدَّت لرحيل شباب قبل الأوان.
قد يبكي الجالس في العزاء بحرقة ويحمد الله أنه ليس في مكان والد أو والدة ذلك الفقيد. وعندما يعود إلى بيته ينسى من مات. لكن الحرقة ونار الفراق لا تخمد في قلب الأم والأب المفجوعين. ولوم الأب والأم على تقصيرهما في ضبط سلوك ولدهم الشاب، وتحميلهما ذنب وفاته الغامضة. هو رش الملح على الجروح، بدل تبريدها وتجفيفها وتخفيف المصاب الأليم الذي حلَّ بهما.
أحياناً، يعجز الأهل عن إقناع أبنائهم بما يرونه في صالحهم، ويستنفذون كل الحيل معهم ليتفادى الأولاد مضاعفة خسائرهم لفرص الحياة والسعادة، وقد يختلفون معهم حرصاً عليهم، حين يرون فلذات أكبادهم يسيرون كالمنومين إلى بحرٍ هائج الموج، ويرى الوالدان ببصيرتهم أنه يهددهم بخطر الغرق، بينما يرى الأولاد بغشاوة الطيش والعناد أن ذلك البحر يعدهم بنزهة سعيدة طوال العمر. فإذا فشل الأب والأم بعد ذلك في الحيلولة بين أولادهم وبين السير قدماً إلى المياه العميقة، ماذا يستطيعان فعله في اللحظة الأخيرة سوى إلقاء طوق النجاة لإعانة الأولاد على مغالبة الأمواج العاتية رغم مرارة الغضب منهم. فما هو الخيار الآخر أمام الأب والأم إذا تمادى الأبناء في عنادهم وأصمُّوا آذانهم عن النصيحة وأغلقوا عقولهم بوجه صوت الحكمة والحرص عليهم؟
تأثير التربية البيتية ضئيل جداً، في وجود الانترنت والسكايب والآي فون و«الفيسبوك» و«تويتر». اليافع عرضة لجميع التأثيرات السهلة والمباشرة، الدينية والسياسية والخلاعية والعنفية والأخلاقية والمعشر السيِّء. وقد يمضي وقت طويل جداً حتى يدرك الشاب أو الشابة أن عائلته أصدق من «الفيسبوك» وأن والديه أعمق وأخبر من تويتر، وأن رفاق السوء يعلمونه التعاطي مع الحياة بخفة وإهمال وهرج، بينما تعلمه عائلته المبادئ الأخلاقية والتمسك بمحبة الله والإيمان العميق بأن الخالق العظيم أعطاه العقل لكي يحيميه من الضياع والتهوُّر.
الرحمة لمن أغمض عينيه إلى الأبد وارتاح، والصبر والمواساة للعيون التي لن يغادرها الحزن والبكاء!
Leave a Reply