طارق عبدالواحد وحسن خليفة – «صدى الوطن»
أثار موضوع اللاجئين السوريين جدلاً عميقاً بالولايات المتحدة، وعلى مختلف المستويات السياسية التي كان على رأسها الحملات الرئاسية للبيت الأبيض، كما طالت التشكيكات عمليات التدقيق الأمنية على ملفات اللاجئين بذريعة التخوف من تسلل المتطرفين والإرهابيين.
«صدى الوطن» أجرت مقابلات مع عدد من اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى أميركا مؤخراً، للتعرف على طبيعة الفحص الأمني ومضامين المقابلات التي تجرى معهم، قبل أن يتم قبول طلباتهم، وهؤلاء أكدوا جميعهم أن عمليات التدقيق الأمني، والمقابلات المتكررة معهم، بالإضافة إلى الفحوصات الطبية وبصمات الأصابع، كانت دقيقة وتفصيلية للغاية، بحيث لا يتم تجاهل صغيرة ولا كبيرة، كما أنها كانت تمر عبر عملية طويلة تمتد إلى عدة شهور، وفي بعض الحالات كانت تستغرق أكثر من سنتين.
وفي هذا السياق، أشار اللاجىء السوري عبد الفتاح الجعفري (27 عاماً) الى أنه خضع لأربع مقابلات مطولة تراوحت مدة الواحدة منها ٣-٤ ساعات، مؤكداً أن الأسئلة التي وجهت إليه كانت تتكرر بحذافيرها في كل مرة، للتأكد من دقة الأجوبة وعدم تناقضها.. والتي في حال حدوثها كانت سبباً كافياً لرفض المتقدم لطلب اللجوء.
صورة كاملة
في شقته ذات الأثاث المتواضع، بمدينة ديربورن هايتس، تحدث الجعفري عن معاناته من جراء الصراع الدامي في سوريا الذي دفعه في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار نهائي بمغادرة بلده الأم في 2012 بعد تعرضه لحادث انفجار سيارة مفخخة، وهو في طريقه لزيارة إحدى عماته في أول أيام عيد الأضحى من ذلك العام.
الجعفري، الذي ما زالت الشظايا تنتشر في عدة أجزاء من جسده ووجهه، يعاني اليوم من قصر في ساقه اليمنى بطول 7 سم وكذلك من ضعف وهشاشة في ساعده الأيمن بسبب فقدان إحدى عظمتي الذراع، ولكنه مع ذلك يضع في رأس أولوياته -بعد وصوله إلى أميركا منذ خمسة أسابيع- أن يحصل على فرصة عمل لكي يعيل عائلته الصغيرة المؤلفة من زوجته وطفلتيه الصغيرتين.
هو لا يريد أن يكون «عالة على أحد»، ويريد الاعتماد على نفسه رغم كل المعوّقات الصحية، وقد أكد أنه وبعد خروجه من سوريا إلى مصر التي عاش فيها لمدة سنتين كان يعمل في أحد المطاعم السورية التي أخذت بالانتشار في عدة مدن مصرية، واضعاً حينها التفكير بعلاجه الصحي في «ثلاجة الانتظار، ريثما تتحسن الظروف».
لحظة تعرضه للانفجار، الذي توجد مقاطع منه على موقع «يوتيوب»، رأى الجعفري الموت بأم العين. وقبل ذلك الحادث بـ20 يوماً كان الشاب الدمشقي قد رزق بطفلته الأولى، وكانت صورتها ماثلة في مخيلته وهو في الطريق إلى مستشفى المجتهد الذي تم إسعافه إليه، وقبل أن يسقط بغيبوبة استمرت لخمسة أيام، كانت آخر جملة قالها للممرضة: «بنتي عمرها عشرين يوم.. ما بدّي أموت».
بعد عدة شهور من الحادث الذي كاد يودي بحياته، وبعد تعافيه جزئيا قرر الجعفري أن يغادر مع عائلته إلى مصر طلباً للأمان، وبعد إقامته هناك بفترة قصيرة، أُبلغته «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة» بأنه قد تم قبول طلب لجوئه مبدئياً، وأن بلد اللجوء سيكون الولايات المتحدة، كما أبلغته بإحالة طلبه إلى «المنظمة العالمية للهجرة» (آي أو أم).
أجرى محققون من «المنظمة العالمية» مقابلتين مع الجعفري، وصفهما بأنهما كانتا «مقابلتين قاسيتين» تضمنتا أسئلة تفصيلية عن كامل حياته، بما فيها عنوان سكنه، ودراسته، وعائلته، وجيرانه، وأقاربه، والأعمال التي زوالها، والخدمة العسكرية، وكانت أجوبته تترجم بشكل حرفي وفوري.
وبعد تلك المقابلتين، خضع الجعفري لمقابلتين أخريين مع محققين أمنيين أميركيين، وجهوا له الأسئلة ذاتها، بهدف التأكد من صحة الأجوبة وعدم تناقضها أو اختلافها.
أسئلة مفاجئة
لم تكن الأسئلة عامة أو روتينية بحسب ما أكد الجعفري لـ«صدى الوطن» وإنما كانت تفصيلية جداً، حتى أنه سئل عن اسم الضابط الذي كان يرأسه خلال خدمته العسكرية في الجيش السوري، وكان السؤال مفاجئاً بالنسبة للجعفري حتى أنه لم يتذكر إسم ذلك الضابط، خاصة وأنه كان قد أنهى خدمته العسكرية منذ عدة سنوات.
وأكد أن المحققين الأميركيين كانوا على علم واسع بالكثير من المعلومات والتفاصيل في سوريا، ففي إحدى المرات سئل عن مكان إقامته، وأراد أن يجيب بشكل عام ظناً منه أن الأميركيين لا يعرفون أسماء الحارات والزورايب، ولكنه تفاجأ بأنهم «يعرفون كل شيء»، حتى أن المحققة الأميركية سألته إن يعيش بالقرب (أو يعرف) من شخص معين.. سمته له بالإسم. وحول هذه النقطة قال الجعفري، عندما ذكرت إسم ذلك الشخص، «وقف شعر رأسي، إذ لم يكن يخطر ببالي إطلاقا أنهم يعرفون مثل تلك التفاصيل».
وفي المقابلة الأولى، مع المحققة الأمنية الأميركية، سألته إن كان قد رأى شخصاً مسلحاً، فأجاب بأنه «رأى مسلحاً بالصدفة»، فكان السؤال الثاني حول ماذا إذا كان ذلك المسلح من الميليشيات المقاتلة في سوريا أم كان جندياً في الجيش السوري، فأجاب بأنه لا يعرف على وجه الدقة. وفي المقابلة الثانية، سئل نفس السؤال، ولكن جوابه اختلف قليلاً حيث قال: نعم لقد شاهدت مقاتلا من الجيش السوري الحر. هذا الاختلاف البسيط في الإجابة -بحسب ما أكد الجعفري- كان سببا في إطالة مدة التحقيقات.
وأضاف الجعفري أن إصابته في حادث السيارة المخففة كان سبباً آخر في تعقيد ملف لجوئه مع «اللجنة الأمنية الأميركية» التي كانت تريد التأكد من أن إصابته لم تنجم عن مشاركته في العمليات القتالية، ولهذا فقد كانت الأسئلة تطالب بأجوبة محددة ومفصلة للغاية.
كما كان لإقامته في مصر حيز خلال التحقيقات، إذ وجهت له أسئلة تفصيلية حول عمله وإقامته وفيما إذا كان له «أية مشاكل مع الحكومة المصرية».
ولم تقتصر التعقيدات على الأسئلة المتعلقة بالأوضاع الأمنية، فخلال تلك الفترة رزق الجعفري بطفلة ثانية، وكان عليه أن يضمها إلى ملف اللجوء، مما أدى إلى تأخير طلبه لمدة ثلاثة عشر شهراً إضافياً.
وبعد طول عناء وانتظار، قُبل طلب الجعفري وأبلغ بذلك، وطلب منه أن يباشر بإجراءات الفحوصات الطبية، هو وأفراد عائلته، خلال 15 يوماً.
وأشار الجعفري، إلى أن اللجنة الأمنية الأميركية قد رفضت بعض ملفات اللاجئين السوريين، بسبب عدم تطابق الأجوبة خلال المقابلات المتكررة. وفي حادثة رواها لنا عن أحد معارفه ممن رفض لجوؤهم إلى أميركا، فقال: «عندما سئل ذلك الشخص عن طبيعة عمله أجاب بأنه كان يعمل موظفاً إداريا في محافظة دمشق، لكن المحققين عرفوا أنه لم يعط الإجابة الدقيقة، فقد كانوا على علم تام بكافة التفاصيل مسبقاً، وقد عرفوا أن ذلك الشخص كان في الحقيقة يعمل في إحدى دوائر مجلس الشعب السوري، وكان مسؤولاً عن إسكان النواب السوريين».
وأضاف: «مع أن طبيعة عمله كانت إدارية محضة ولا علاقة لها بالسياسة، ورغم خلو ملفه من أية شبهات، إلا أن الأميركيين اعتبروا أنه كذب في الإجابة، وكانت كذبة صغيرة بيضاء، أو ربما سوء تقدير، كفيلين برفض طلب الشخص المتقدم… إلى هذه الدرجة كانت التحقيقات الأمنية دقيقة ومفصلية».
بعد سنتين وشهر
بعد سنتين وشهر، من الاتصال الأول من «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة» وصل الجعفري إلى ميشيغن، وهو يعيش الآن مع عائلته الصغيرة في مدينة ديربورن هايتس، في شقة قدمتها له إحدى العائلات الفلسطينية، لمدة سنة بدون مقابل، ريثما يتمكن من توضيب أوضاعه الصحية والمالية.
الانفجار الذي تعرض له الجعفري سبب له إعاقة متوسطة، ولكن اللاجئ السوري لا يضع في اعتباره حاليا أن يواصل علاجه الطبي، ويفضل الحصول على عمل في أي مجال لكي يتمكن من إعالة أسرته، وهنا يقول: «لا أريد أن أكون عالة على الآخرين.. إن وضعي الصحي يتطلب إجراء عدة عمليات جراحية وهذا سيجعلني جليس الفراش لعدة شهور، ولهذا أفضل مبدئيا العمل، وعندما تنصلح الأمور، سأتابع علاجي».
وكانت «صدى الوطن» قد التقت ثلاثة لاجئين سوريين، لمعرفة الآلية التي تتبعها الوكالات الأميركية في قبول طلبات اللاجئين، وأكد هؤلاء جيمعهم على دقة المقابلات التي أجريت معهم، وأجمعوا على أنها كانت «طويلة ومفصلة للغاية» فضلا عن أنها استغرقت أوقاتا طويلة للبت في قبول طلب اللجوء أورفضه.
حياة جديدة
من جانبها، أكدت نائبة رئيس «لجنة الإنقاذ السورية الأميركية» عائشة فاطمة على صحة المعلومات التي أدلى بها الجعفري، وقالت الناشطة التي عملت خلال الفترة السابقة على مساعدة آلاف اللاجئين السوريين على إعادة التوطين في الولايات المتحدة: «حسبما أعلم، لا يوجد عمليات فحص أمني أكثر دقة وتشديداً من الآلية التي تتبعها الولايات المتحدة مع عائلات اللاجئين السوريين». وأضافت: «من اللحظة التي يغادر فيها أي شخص سوري بلده سوريا وينتقل للعيش في أحد مخيمات اللجوء، فإن عملية من البحث الدقيق والتحري المفصل تُجرى عليه، وقد تمتد فترة البحث والتحري إلى سبع سنوات، مؤكدة على وجود تعاون وثيق بين مختلف الوكالات الأمنية، ووزارة الأمن الداخلي (دي أتش أس) إضافة إلى الوكالات الحكومية الأخرى التي تعتبر موافقتها ضرورية لقبول طلبات المتقدمين للجوء إلى أميركا.
وعزت فاطمة بطء الإجراءات إلى أن المحققين الأميركيين قد يقومون بإجراءات ثلاث مقابلات في اليوم الواحد، وأكدت أن على اللاجئين الخضوع للفحوصات الجسدية والعقلية، لضمان خلوهم من الأمراض والمشاكل النفسية، وإذا كان أي واحد منهم لديه أعراض مرضية فسوف يرفض طلبه.
وبعد وصول اللاجئين إلى أميركا تتكلف المؤسسات الحكومية ذات العلاقة بدفع إيجار مساكنهم لمدة ثلاثة شهور فقط، حيث يُتوقع منهم الاعتماد على أنفسهم بعد تلك الفترة، بحسب ما أكدت فاطمة التي أضافت: إن هؤلاء اللاجئين قد تعرضوا للإرهاب والقمع والتعذيب والذبح على أيدي أفراد تنظيم «داعش».. هم لم يختاروا الفرار من بلدهم ولكنهم يبحثون عن فرصة لتجميع شظايا حياتهم وحياة عائلاتهم التي فقدوها في سوريا.
Leave a Reply