نبيل هيثم – «صدى الوطن»
… وقالت الصناديق كلمتها: دونالد ترامب هو الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن انتخاب المرشح الجمهوري الشعبوي أمراً مفاجئاً تماماً، بالرغم من أن استطلاعات الرأي أعطت تقدماً بسيطاً، ضمن هامش الخطأ، لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون عشية الانتخابات. كان باستطاعة كثيرين، ممن باتوا يعرفون طبيعة المجتمع الأميركي، أن يتوقعوا فوز ترامب، برغم سهام الفضائح الجنسية التي وجّهها إليه الديمقراطيون، في أكثر الأوقات حساسية من الحملة الانتخابية، فثمة متغيّرات في اهتمامات الناخبين الأميركيين باتت تفرض نفسها على المشهد الانتخابي، بدءاً بالدفاع عن حق الأميركي في اقتناء السلاح الفردي، مروراً بالهواجس المرتبطة بالتهديدات الإرهابية الوافدة من الشرق الأوسط، وصولاً إلى القناعة العامة بأن ثمة تكاليف حربية عديمة الجدوى يتكبدها الاقتصاد الأميركي منذ عقود، لا بل أن ثمة قائل بأن النموذج المعولم الذي أنتج واحدة من أخطر الأزمات المالية في العام 2008، بات يحتاج إلى بديل.
على كل هذه القضايا بنى ترامب حملته الانتخابية، لا بل ذهب بعيداً في مقاربتها، بأسلوبه المثير للجدل، فلم يفوّت، على سبيل المثال، فرصاً مثل هجمات باريس وبروكسل وسان برناردينو، للتصويب على أخطاء منافسيه الديمقراطيين، فلم تكد دماء ضحايا تلك الهجمات تجف، حتى راح يسخر من الأوروبيين، الذين لم تشفع لهم قوانينهم المقيّدة لحمل السلاح، ولم يكد تنظيم «داعش» يتبنى الاعتداء الشهير على الملهى الليلي حتى راح يتهم هيلاري كلينتون وباراك أوباما بأنهما وراء «خلق داعش»، مدافعاً عن طروحاته الغريبة بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة… إلى آخر تلك الشعارات التي عزفت على الوتر الحساس لدى الناخب الأميركي المحافظ.
حتى في السياسة الخارجية، ذهب المرشح الجمهوري بعيداً، فهو لم يتردد في دعم إسرائيل، أملاً باكتساب دعم اللوبي اليهودي المستاء من الفتور الذي ميز العلاقات بين واشنطن وتل أبيب في الولاية الثانية لباراك أوباما، فراح يقدّم طروحات خطيرة دغدغت مشاعر الصهاينة، من قبل رفض عملية السلام، والاعتراف بـ«يهودية إسرائيل»، والتعهد بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وصولاً إلى التشديد على رفض الاتفاق النووي مع إيران… الخ.
وفي الداخل لم يجد ترامب حرجاً في تقويض الأسس العامة التي قامت عليها الولايات المتحدة، فربما كانت هذه المرّة الأولى، التي يعلن فيها مرشح رئاسي مسبقاً رفضه الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية، ما لم تكن لصالحه، وهي كذلك المرة الأولى التي توجّه فيها اتهامات لأجهزة الأمن الفدرالية بالتغطية على «جرائم» مرشح رئاسي آخر (مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون)، حتى باتت «الديمقراطية الأميركية» نفسها موضع شكوك.
ولعل ذلك، بدا كافياً بالنسبة لكثيرين، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، إلى اعتبار أن انتخاب دونالد ترامب يمثل في الواقع «نهاية العالم»، فالشعارات الشعبوية التي حملت المرشح الجمهوري الى البيت الأبيض تشكل انعطافة كبرى في مبادئ السياسة الأميركية، وأضف إلى ذلك، أن الرئيس الجديد قد أتى متحرراً من كارتيلات صناع السلاح والحروب، وعمالقة قطاع النفط، وأباطرة الإعلام، ما يشي، بالتالي، بأنه بات رئيساً متحرراً من القيود التقليدية المعروفة في السياسة الأميركية.
هواجس مبالغ فيها
ولكن في الواقع، فإن ما يُطرح هنا وهناك عن الحقبة الترامبية يبدو مجرّد هواجس مبالغ فيها، ولعلّ شخصية ترامب، وأسلوبه المثير للجدل، قد ساهما في تغذيتها.
ولعلّ مقاربة هادئة لسياسات المرشح الجمهوري تبدو كفيلة في إعادة الامور إلى نصابها، فحتى الأسلوب الغريب لترامب يمكن أن يكون مرتكزاً للقول أن «لا ساعة قيامة» قريبة في الولايات المتحدة، فقد قدّم الرئيس الجديد نفسه بصورة مقصودة، وهو رجل الأعمال البراغماتي، أي أن كل ما قاله ترامب خلال حملته الانتخابية قد لا يطابق بالضرورة سياساته المستقبلية.
ولكن ثمة تحولات، لا يمكن انكارها، ستصيب السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد ترامب، من دون أن تمس بجوهر المنظومة الأميركية، وهي تحولات تفرضها معطيات اقتصادية واضحة، طالما أن السياسة اقتصاد مكثف.
ولا شك في أن الوضع الاقتصادي لا يزال يشكل أولوية بالنسبة الى الولايات المتحدة، خصوصاً أن كافة التقارير الاقتصادية تشير الى أن ثمة أزمة اقتصادية هائلة ستنتظر الاقتصادالأميركي في العام 2017 أو العام 2018، وسط توقعات بأن الأزمة المقبلة ستكون أشد ضراوة من أزمة العام 2008، والتي ما زا لت تلقي بظلالها على الولايات المتحدة.
أمر كهذا يفسّر، بشكل أو بآخر، سبب جنوح الأميركيين نحو تبني مرشح مثل دونالد ترامب، بخطابه الداعي إلى الانكفاء نحو الداخل، وبالتالي جعل الأولوية الكبرى لمعالجة الوضع الاقتصادي المتردّي، عبر تخفيف الأعباء التي تكبّل الاقتصاد الأميركي.
على هذا الأساس، فإنّ كثيرين في الولايات المتحدة قد قابلوا بإيجابية شديدة مواقف لترامب من قبيل: لماذا يبقى الحلف الأطلسي عبئاً على الولايات المتحدة بعدما فقد دوره في تلبية المصالح الأميركية، ولماذا تتحمل الولايات المتحدة عبء تمويل حلفائها العاجزين عن حماية أنفسهم، والمقصود هنا طبعاً، السعودية وباقي الدول الخليجية، وليس إسرائيل.
ميزة ترامب أنه ليس مؤدلجاً، فالرئيس الجديد آت من قطاع الأعمال، ويمتلك عقلية براغماتية، تجعله قادراً على على تمييز المصالح، واتخاذ السياسات الملائمة لإدارة الأزمات الاقتصادية.
انكفاء
وإذا كان الاستقطاب الداخلي في الولايات المتحدة سيشهد مساراً تصاعدياً طوال عهد ترامب، أو على الأقل في الفترة الانتقالية التي تسبق تثبيث سياساته الاقتصادية، فإن الأمر قد لا يكون كذلك في السياسة الخارجية، فترامب سيحاول إبعاد الولايات المتحدة قدر الإمكان عن مجمل الملفات الدولية الساخنة، حتى أنه قد يجعلها تنكفئ إلى الداخل، ولكن في كل الأحوال، فإن مواقفه اتسمت في تناقض شديد، ما يجعلنا غير قادرين على معرفة خطواته المستقبلية، وكيف ستكون علاقاته مع دول الخليج، حيث تمتلك الولايات المتحدة مصالح كبيرة، ليس أقلها النفط، وقد رشح أن ثمة توجهاً لإلغاء صفقات استثمارية بقيمة 270 مليار دولار بين الولايات المتحدة والسعودية.
حتى اللحظة، ما زالت مواقف ترامب متناقضة، لكنها تحمل في طياتها جنوحاً نحو خطوة انعزالية في المستقبل، وهو ما لا يبشّر بالخير، فإذا حصل ذلك تكون الولايات المتحدة قد اختارت الهروب إلى الأمام، عبر ترك ملفات المنطقة العربية كما هي، بدءاً بسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن وليبيا، وهي ملفات شائكة لا يمكن حلها إلا في إطار الشراكة الدولية التي يبدو أن ترامب سيتنصل منها.
ولكن براغماتية ترامب قد تدفعه، في المقابل، إلى انتهاج سياسة أكثر عقلانية، وتتمثل في اختيار الشراكة الدولية، بدلاً من العدوانية أو حتى الانعزال.
والمفارقة في هذا الإطار، أن سياسة ترامب الحالية تنسجم بشكل أو بآخر مع الرؤية الروسية، علماً بأن الرئيس الأميركي المنتخب سبق أن شدد على أن التعاون مع روسيا ضروري جداً، ولاسيما في موضوع الإرهاب ومجمل الملفات التي تشكل اشكالية كبرى بين روسيا والولايات المتحدة.
وفي أدنى مستوى، فإن ثمة توجهاً في السياسية الخارجية الأميركية، خلال الفترة المقبلة، نحو تبريد الملفات العالقة بين روسيا والولايات المتحدة، بدءاً بالشرق الأوسط، مروراً بأوكرانيا وآسيا الوسطى، وصولاً إلى بحر الصين، والتي جعلت العالم، نتيجة لسياسات الإدارة الأميركية السابقة، على شفير حرب عالمية ثالثة.
شراكة مع روسيا والصين
وفي مستوى أعلى فإنّ انتخاب ترامب قد يدفع باتجاه تحقيق الشراكة بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، لا سيما أن الرئيس الجديد يدرك جيداً أن ثمة تحولاً عالمياً، لا يمكن وقفه،ويتمثل في انتقال المركز الاقتصادي في العالم من الغرب إلى الشرق.
وبانتظار أن تتضح ملامح سياسة ترامب الخارجية، يمكن القول إن ما شهدته الولايات المتحدة ليل الثامن من تشرين الثاني، هو في الواقع انقلاب انتخابي أبيض على السياسات المدمّرة لباراك اوباما وهيلاري كلينتون، اللذين كانا وراء خلق «داعش» لخوض حروب بالوكالة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ما صرّح الرئيس الجمهوري صراحة خلال حملته الانتخابية، ما يشي بطبيعة الحال، أن البوابة الرئيسية لتحديد ملامح السياسات الأميركية ستكون بوابة الشرق الأوسط، ولا سيما البوابة السورية، حيث عقدة العقد في كل الملفات الخطيرة على مسرح السياسة الدولية… وانطلاقاً من المقاربة المرتقبة للسياسة الأميركية الجديدة في سوريا، والتي لن تتأخر عن الظهور، يمكن تحديد ملامح المشهد الدولي الجديد الذي ستختار فيه الولايات المتحدة، مع ترامب، خياراً من اثنين: العزلة أو الشراكة.
Leave a Reply