كمال ذبيان – «صدى الوطن»
تؤثر الإنتخابات الرئاسية الأميركية ونتائجها في العالم بأسره، فهي التي تحاول أن تفرض هيمنتها عليه، لتأمين مصالحها، وقد سعت أن تقوده بآحادية، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي كقطب دولي ثانٍ، خاضت معه حرباً باردة حوالي نصف قرن، على مساحة الكرة الأرضية. ولا شك أن الإمبراطورية الأميركية اليوم بدأت تتقلص مع ظهور دول أخرى تصارعها على النفوذ، ومنها الصين والهند ودول أميركا الجنوبية ودول في شرق آسيا، إضافة الى روسيا التي استعادت دورها مع الرئيس فلاديمير بوتين.
عناصر من قوات المارينز الأميركية خلال إنزال بحري في منطقة الأوزاعي جنوب بيروت عام 1958. (أرشيف) |
ولبنان، هو من الدول التي تتأثر بالسياسة الأميركية ومشاريعها في المنطقة، سواء كانت الإدارة التي تتحكم في واشنطن من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، حيث لكل منهما سياسته الخارجية، إنما يبقى الثابت لديهم في الشرق الأوسط، هو «إسرائيل أولاً»، والحفاظ على تدفق النفط، وحماية الأنظمة الموالية التي تؤمن المصالح الأميركية، ويخدم مشاريعها في المنطقة.
الدور الأميركي في لبنان
منذ خمسينات القرن الماضي، وبعد انحسار الدور الفرنسي عن لبنان، باتت أميركا هي صاحبة التأثير فيه، فربطته بتحالف سياسي معها، في عهد الرئيس كميل شمعون، بمواجهة المد الشيوعي من ضمن مشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور للشرق الأوسط الذي ساعد على قيام منظومة إقليمية عُرفت بـ«حلف بغداد» لمحاصرة الإتحاد السوفياتي من إيران الى تركيا وصولاً الى باكستان ومنع وصوله الى المياه الدافئة.
وكان لبنان ركيزة أساسية في المشروع الأميركي كقاعدة استخبارية، وما عُرف بـ«النقطة الرابعة»، إذ كانت فنادق بيروت وأبرزها «السان جورج» مرتعاً للجواسيس، وكانت في لبنان أشهر مدرسة لتخريج رجال المخابرات موجودة في شملان – قضاء عاليه في جبل لبنان.
لذلك يشكّل لبنان نقطة إرتكاز لأي مشروع أميركي في المنطقة، وكانت ساحته تشتعل عندما تصطدم المشاريع الدولية والإقليمية على أرضه، وقد خرج الصحافي والسياسي غسان تويني بمقولته الشهيرة عند اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 بمقولة «صراع الآخرين على أرض لبنان»، إذ كان وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، وبعد حرب تشرين 1973 بين إسرائيل من جهة، وسوريا ومصر من جهة ثانية، يحضّر لمشروع حل سلمي للصراع العربي–الإسرائيلي، بدأه مع النظام المصري برئاسة أنور السادات، وقرّر أن يشعل الحرب في لبنان، لتمرير مشروعه الذي يتجاهل حق العودة للفلسطينيين، ويدعو الى توطينهم حيث هم. حينها، كان يوجد على أرض لبنان حوالي 200 ألف فلسطيني لاجئ، تحولوا الى الكفاح المسلح بعد هزيمة الأنظمة والجيوش العربية في حرب العام 1967. فقد انطلقت الثورة الفلسطينية من الأردن لتمتد الى لبنان وسوريا وتؤثر في وجدان الشعب العربي، فكان لا بدّ من تصفية هذه الثورة، بحرفها عن أهدافها بمقاتلة الإحتلال الإسرائيلي، وزجها بحروب داخلية مع بعض الأنظمة، كما حصل في الأردن ثم لاحقاً في لبنان.
من هنا فإنه مع كل انتخابات أميركية يتطلّع اللبنانيون، الى الإدارة الجديدة، وكيف ستتعاطى مع بلدهم ثمّ مع المنطقة، وما هي مشاريعها فيها، وكانت نظرتهم دائماً غير متفائلة، لأن المشروع الأميركي لطالما كان من أسباب الحروب الداخلية التي عانى منها لبنان. فمثلاً حينما قرر الرئيس جيمي كارتر عقد معاهدة سلام بين النظام المصري، برئاسة أنور السادات ورئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحيم بيغن، في العام 1977، نال لبنان نصيبه من ذلك بتأجيج حروبه الداخلية، بعد أن تمّ التوصل الى اتفاق عربي ودولي نهاية عام 1976، بوقف الإقتتال في لبنان ونشر قوات ردع عربية على أرضه، ودعم الشرعية اللبنانية برئاسة إلياس سركيس. ثمّ تبع ذلك اجتياح إسرائيلي عام 1978 للجنوب حتى حدود نهر الليطاني وحملت اسمه، وإقامة «حزام أمني» تحرسه ميليشيا سعد حداد، الضابط المنشق عن الجيش اللبناني، بعد طرد الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية الحليفة لها منه.
لم تمضِ أربع سنوات على الإجتياح الإسرائيلي، حتى غزت إسرائيل لبنان في مطلع حزيران 1982، وبضوء أخضر أميركي، وتحت مظلة مشروع الرئيس الأميركي رونالد ريغان للسلام والذي يقوم على طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وإبعاد قواتها منه، بعد تطهير الجنوب حتى عمق 45 كلم، من المقاتلين الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين وأطلق على العملية اسم «سلامة الجليل»، إلّا أن القوات الغازية التي قطعت هذه المسافة بأقل من أسبوع، وصلت الى حدود العاصمة بيروت، وبدأت تضغط عسكرياً على القوات الفلسطينية، لتلقي سلاحها.
استمر القتال وحصار العاصمة نحو شهرين، الى أن انهارت دفاعات المقاتلين وجرى التفاوض عبر الموفد الأميركي فيليب حبيب، وقرّر رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات الخروج من بيروت مع باقي القادة الفلسطينيين والمقاتلين، وجرى انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية في ظل الإحتلال الإسرائيلي الذي كان متعاملاً معه، وشاركه في الحرب على لبنان، إلّا أنه وبعد شهر من انتخابه أغتيل الجميّل بإنفجار استهدف بيت الكتائب في الأشرفية، لينهار معه المشروع الإسرائيلي–الأميركي، الذي حاول شقيقه أمين استكماله، لكن المقاومة الوطنية اسقطته بدعم من سوريا، وانهزمت إسرائيل وأميركا التي سقط لها 250 جندياً من «المارينز» بتفجير مقرهم مع مقري القوات الفرنسية والإيطالية إضافة الى تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة، وقد قررت واشنطن الإنسحاب من لبنان عسكرياً، فخرجت قواتها عبر البحر، حيث تمّ تشبيه فرار جنودها من لبنان في العام 1983، كما حصل في فيتنام، وقد سبقهم جنود الإحتلال الإسرائيلي، أن هربوا من بيروت في أيلول العام 1982، بعد ضربات ناجحة للمقاومة الوطنية، فبدأوا عبر مكبرات الصوت يدعون الى عدم إطلاق النار عليهم لأنهم سيغادرون.
غابت أميركا عسكرياً عن لبنان في العام 1983، وهي المرة الثانية التي تأتي بقواتها إليه لتحمي مشاريعها وحلفائها، إذ كانت المرة الأولى عام 1958، عندما حصل إنزال أميركي في منطقة الأوزاعي جنوب بيروت لمنع سقوط عهد الرئيس كميل شمعون، وهو الأمر الذي تكرر في العام 1982 عندما جاءت القوات المتعددة الجنسيات لتحمي عهد أمين الجميّل وفشلت، فاضطر هذا الأخير، مع تغيير موازين القوى لصالح المشروع الوطني والقومي بإسقاط إتفاق 17 أيار، أن يسلّم بمشاركة القوى الوطنية معه في السلطة، بعد أن بدأ عهده حكماً كتائبياً.
لا تفاؤل بانتخاب ترامب
تجربة الإدارات الأميركية مع لبنان كانت سيئة وسلبية عليها، إذ لم تنجح في تمرير مشاريعها في هذا البلد، الذي تصدى لتلك المشاريع عبر القوى الوطنية والقومية والتقدمية، وآخر هزائمها مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي رسمه الرئيس جورج بوش الإبن، وحاول تسويقه عبر ما سمي «ثورة الأرز» وقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 الذي صدر في 2 أيلول 2004، وفشل حتى في العدوان الإسرائيلي صيف 2006، الذي صدته المقاومة وهزمته، ثم حجمت حلفاءه من قوى «14 آذار» في الداخل، فإن اللبنانيين لا يتطلعون بتفاؤل لأية إدارة أميركية، وهم ينظرون بقلق دائم الى المشاريع الأميركية التي كانت سبب حروبهم.
لذلك فإن إنتخاب الجمهوري دونالد ترامب، لم ينظر إليه اللبنانيون بتفاؤل، لأنهم يعتقدون أنه سيكون امتداداً لمن سبقه من رؤساء، يدّعون أنهم أصدقاء للبنان، ويقدمون مساعدات له، إلّا أنهم لم يكونوا الى جانبه أبداً، بل دائماً في صف إسرائيل التي كانت السبب في دمار بلدهم، إذ هي شنّت خمسة حروب عليه في أعوام 1979 و1982 و1993 و1996 و2006، واعتداءات دائمة، وكان موقف أميركا في مجلس الأمن الدولي استخدام «الفيتو» لصالح الدولة العبرية التي لم تنفذ أي قرار يلزمها الإنسحاب من لبنان، سواء القرار 425 أو 520 أو الأخير 1701، بل المقاومة هي التي كانت تفرض على الإحتلال الإسرائيلي الإنسحاب الذي تُوّج في 20 أيار 2000.
فأميركا كانت دائماً تتعاطى مع لبنان وفق مصالحها، وهي وقفت في كل المراحل ضده، لأنه كان ساحة للمقاومة سواء الفلسطينية أو اللبنانية، التي هزّت أمن إسرائيل، وكيف إذا بدأ الكيان الصهيوني يشعر بخطر وجودي مع امتلاك المقاومة لحوالي 150 ألف صاروخ، وآليات عسكرية من دبابات، وخبرة قتالية في سوريا، قد تستخدمها المقاومة في الجليل الأعلى المحتل إذا اضطرّت.
فلن يكون ترامب صديقاً للبنان، كما غيره من أسلافه الذين قدموا مصلحة إسرائيل عليه، فكانوا يمنعون تسليح الجيش اللبناني، بأسلحة ثقيلة ومتطورة ودفاعية، وتركوا أرضه مستباحة للإحتلال الإسرائيلي، الذي لقنته المقاومة درساً، لن يحاول المغامرة بأي حرب جديدة، يجري الحديث عنها في إسرائيل من قبل قادة العدو، الذي لن يُقدم عليها، إلّا إذا حصل على ضوء أخضر أميركي، فهل يفعلها ترامب الذي يركز اهتمامه على الشأن الداخلي الأميركي، وكيف سينفذ ما تعهّد به أمام الأميركيين، لجهة تخفيف الأعباء الضريبية عنهم، وتحقيق نمو اقتصادي لهم، والعودة الى الداخل الأميركي، وبناء جدران على الحدود الجنوبية، لمنع تسرب الهجرة غير الشرعية.
ولبنان إن لم يكن في اهتمام الرئيس الأميركي الجديد ولم يرد في برنامجه أو خطبه، إلّا أن الإيجابية التي يُنظر إليها نحو سياسته في سوريا، وهي محاربة «داعش» والتنظيمات الإرهابية، واعتبار الرئيس بشار الأسد أحد أعمدة الحرب على الإرهاب، وهذا الموقف سيكون له تأثير جيد على لبنان، بوقف الحرب في سوريا، التي شكّل النازحون منها عبئاً عليه وعلى دول أخرى.
Leave a Reply