نبيل هيثم – «صدى الوطن»
من مصادفات التاريخ أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب سيتسلم مفاتيح البيت الأبيض قبيل حلول المئوية الأولى على دخول الولايات المتحدة المتحدة الحرب العالمية الأولى (نيسان العام 1917)، لتحسم بانخراطها العسكري تلك الموقعة الكونية إلى جانب معسكر الحلفاء.
وإذا كان الانخراط الأميركي في تلك الحرب الكونية، التي جرت الدمار على الانسانية جمعاء، قد مثل نقطة محورية في التاريخ المعاصر، فإنه يكتسب أهمية كبرى للولايات المتحدة، التي انتصرت نزعتها التدخلية على مبدأ العزلة الدولية الذي انتهجه وودرو ويلسون، ليشكل ذلك، بداية لعصر التدخل الأميركي في كافة بقاع العالم، وأبرزها الوطن العربي.
اليوم، وبعد انتخاب دونالد ترامب، تستعيد الولايات المتحدة جدلية النزاع بين التدخل الخارجي والانكفاء الداخلي، في ظل المواقف المثيرة التي طرحها الرئيس الجمهوري خلال حملته الانتخابية، وفي طليعتها حديثه عن تجنيب الولايات المتحدة الأثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن انخراطها في النزاعات الدائرة عالمياً.
ولكن في الجوهر، فإن لا اختلاف بالنسبة إلى الولايات المتحدة بين فكرتي التدخل والانكفاء، فهي قادرة على المفاضلة بين الاثنتين، طالما أن إحداهما تلبي مصالحها بالقدر الأقصى. وإذا كان تدخل ويلسون قد جاء لقطف ثمار الحرب الكونية الأولى، فإن الانكفاء المحتمل لترامب سيأتي لقطف ثمار الحرب الكونية المشتعلة في المنطقة العربية.
لا شك في أن سوريا والعراق يمثلان الميدان الأهم، الذي ينبغي على الرئيس الأميركي الجديد التعامل معه بحذر.
ومن الواضح، بحسب التصريحات المعلنة، أن الإدارة الأميركية الجديدة ستعمد إلى تطبيق رؤية براغماتية، تقوم على فكرة الانتفاع من العملية العسكرية الروسية ضد الإرهاب في سوريا، وربما فتح المجال أمام إيران لتصفية «داعش» في العراق، أي التربّح من دون المخاطرة برأس المال، طالما أن الحديث يدور عن رئيس أميركي وافد من قطاع الأعمال.
ولعلّ ما يؤكد على التوجهات الجديدة لإدارة ترامب، هو تعيينه مايكل فلين مستشاراً للأمن القومي في البيت الأبيض.
وللتذكير، فإن فلين كان يشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات العسكرية في عهد باراك أوباما، وقد أثارت مواقفه العلنية والخفية حول ضرورة الاستفادة من روسيا –وحتى الرئيس بشار الأسد– لحل الأزمة السورية، انتقادات حادة في البنتاغون ووزارة الخارجية، وبقي تحت وطأة الضغوط السياسية، إلى ان تنحى جانباً، وفقاً لما كشف عنه الصحافي الاستقصائي الشهير سيمور هيرش في تحقيق مطوّل نشره في دورية «لندن ريفيو أوف بوك» في أواخر كانون الأول العام 2015، بعنوان «جيش لجيش».
فشل في اليمن
ولكن الأيام القليلة الماضية، أظهرت أن ثمة جبهة إقليمية لا تقل أهمية عن الجبهتين السورية والعراقية، في المقاربة الأميركية الجديدة، والمقصود بها الجبهة الخليجية، وفي قلبها المشتعل الجبهة اليمنية، حيث فشلت، قبل أيام، آخر المحاولات التي تقوم بها الولايات المتحدة لفك الاشتباك في هذا البلد، الذي يواجه أكثر الحروب السعودية علنية ووحشية.
على هذا الأساس، أتت زيارة جون كيري وزير خارجية باراك أوباما المنتهية ولايته الأخيرة إلى العاصمةَ العمانية مسقط، وما رشح عنها من التباسات في ما خص الملف اليمني.
وبدا أن دخول كيري على خط الأزمة اليمنية في لحظة مفصلية، يمثل محاولة من إدارة أوباما لإغلاق ملف افتتح في عهدها، حتى لا يبقى على ما هو عليه مع دخول ترامب إلى البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني (يناير) المقبل.
ولعل كيري قد سعى في زيارته تلك لتحقيق نجاح سياسي دبلوماسي في أسابيعه الأخيرة، حيث لم يعد أمامه سوى الملف اليمني ليحقق فيه شيئاً، بعدما تعذّر الحل في سوريا، خصوصاً أن أطراف الحرب في اليمن منهَكة، فيما الميدان يراوح مكانه، منذ أكثر من عام، في ظل اخفاق العدوان السعودي في تحقيق أي من أهدافه.
على العموم، فقد سعى كيري جاهداً لتحقيق انجاز ديبلوماسي ينهي فيه سنوات خدمته في الادارة الاميركية، وقد لقي ما يكفي هذه المرة من استجابة من جانب الحوثيين وانصار الرئيس السابق، ولكنه اصطدم بتعنت حكومة عبد ربه منصور هادي، وهو ما جعل المبادرة التي حملها ميتة قبل ان تبصر النور في الهدنة السابعة، التي كان مصيرها الانهيار، كما سابقاتها.
وسواء كان الحراك الأميركي يهدف إلى إنهاء الحرب حقيقةً، أو مجرد محاولة للقول إن إدارة أوباما فعلت ما أمكنها لإنهاء حرب لا يريد طرفاها إنهاءها، فقد كان ملفتاً الموافقة السريعة التي ابدتها المملكة السعودية على تلك المبادرة الأميركية، ما يعكس اعترافاً بهزيمة العدوان المستمر.
وبصرف النظر عن التفاصيل التي ادت الى سقوط الهدنة لاحقاً، وبالتالي المبادرة، فإن ثمة سبباً جوهرياً كان يحول دون تحقيق أي تقدم على طريق الحل في اليمن، وهو أن كل الأطراف ترغب بداية في معرفة ما يجول في ذهن دونالد ترامب وفريقه الرئاسي، الذي بدأ يتكون، بشأن الشرق الأوسط.
بانتظار ترامب
وبانتظار أن تتكشف نوايا ترامب الشرق أوسطية، يبقى ان ثمة زاويتين يمكن الركون إليهما لرصد بعض عناصر السياسات الأميركية الجديدة تجاه الملف اليمني.
الأولى، يمكن قراءتها بالعلاقات الأميركية – السعودية، التي ستنعكس بشكل مباشرة على ملف الصراع في اليمن.
الثانية، يمكن قراءتها من خلال إدارة ترامب للحرب على الإرهاب، وهو أمر سينعكس حكماً على الحالة اليمنية.
يعود ولي العهد السعودي إلى الواجهة من جديد، حيث لا يبدو أنه على استعداد للتخلي عن حقه في تولي العرش.
وفي جميع الأحوال، وطالما أن الغموض ما زال يلف سياسات ترامب المقبلة، فإن انتهاء عهد أوباما دون تحقيق أي متغير على الساحة اليمنية يشي بأن ثمة تحولات في هذا الملف تتجاوز الميدان اليمني نفسه لتطال الداخل السعودي، وهو ما يفسر حرص الولايات المتحدة، ممثلة بكيري، وقيادة «عاصفة الوهم»، ممثلة بمحمد بن سلمان، في التوصل الى تفاهمات، ولو أولية، تفرض نفسها على أجندة الرئيس الجديد.
عودة بن نايف الى الواجهة
ولأكثر من عام منذ تولي الملك سلمان الحكم، في كانون الثاني العام 2015، فإن محمد بن سلمان ظل يحتكر الأضواء ليصبح واجهة الإصلاحات الاقتصادية الطموحة للمملكة النفطية، فضلاً عن حربها لمقارعة النفوذ الإيراني في اليمن.
وفي الشق الأول، من خطة توريث محمد بن سلمان، يأتي الاقتصاد، وقد نجحت السلطات السعودية في ترويج خطة الأمير الشاب لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، المعروف باسم «رؤية 2030»، والذي يهدف إلى تقليل اعتماد المملكة على النفط، ولكنه يأتي مصحوباً بتحركات لا تحظى بشعبية نحو خفض الرواتب والإعانات وفرض الضرائب. وحتى الآن، وبحسب ما توضح البيانات الخاصة بالاقتصاد السعودي، فإن خطة بن سلمان تبدو اشبه بقصر يجري بناؤه على الرمال.
وأما في الشق الثاني، فهناك حرب اليمن التي وصفت منذ بدأت في وقت مبكر من العام الماضي، بأنها نهج جديد لاستعراض العضلات يقوده محمد بن سلمان، لترسيخ زعامته الإقليمية، ومع ذلك، فقد تعثرت السعودية هناك بشكل كبير، ولا يزال الحوثيون قادرين على إطلاق الصواريخ بعيدة المدى إلى قلب المملكة العربية السعودية، والاحتفاظ بالسيطرة على جزء كبير من بلادهم.
وليست مصادفة أن عودة محمد بن نايف، ولي العهد، الى الواجهة السياسية مجدداً، قد تزامن مع تبدّي اخفاقات ابن عمه. وعبر تواريه عن الأنظار حتى وقت قريب، كان محمد بن نايف حريصاً على عدم الربط بينه وبين حرب اليمن أو الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة في أذهان الجماهير. وبعدما أمضى فترة طويلة في الجزائر، وغيابه الطويل عن دوائر الحكم، لم تعد الامور كذلك، فمنذ أيلول الماضي، عاد ولي العهد ليظهر كثيراً، فمثّل السعودية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم سافر إلى تركيا لإجراء مفاوضات حساسة حول سوريا وإيران مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
ولم يعد يخفى على أحد أن محمد بن سلمان كان حصان إدارة أوباما وفريقه «الديمقراطي» في الملف السعودي. ولا يخفى أيضاً أن بن نايف كان ويبقى أقرب الى «الجمهوريين» منذ أيام الرئيس جورج بوش. لذلك، فإن عودته الى الواجهة، وبقوة، تبدو شبه محسومة، حال دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، وهو ما يعني بطبيعة الحال نهاية حلم التوريث العمودي الذي يعمل من أجله محمد بن سلمان. ولعل هذا ما يفسر استماتة ادارة أوباما في حفظ ماء وجه الأمير الصغير عبر طرح المبادرة اليمنية… علها تعيد تعويمه.
Leave a Reply