جوليا قاسم – «صدى الوطن»
اختطف الموت فجأة، المربّي عماد فضل الله من بين أفراد أسرته في مدينة ديربورن، الاثنين الماضي، حيث كان مدير ثانوية فوردسون السابق يخضع لفترة نقاهة واستشفاء بعد إجراء عملية قلب مفتوح في وقت سابق بمستشفى «هنري فورد».
الرحيل المبكر لفضل الله (57 عاماً) لم يشكل فقط صدمة قاسية لزوجته وأولاده الأربعة أو لعائلته الكبيرة وأصدقائه ومعارفه، وإنما كان خبراً صاعقاً ومفجعاً لكامل مجتمع الجالية العربية الأميركية في مدينة ديربورن، التي عرفته وخبرته طوال العقود الأخيرة كمرّبٍ وناشط مجتمعي، ساهم في تعزيز الهوية والثقافة العربيتين وحمايتهما لدى الأجيال الجديدة من الطلبة العرب الأميركيين، لاسيما خلال توليه إدارة ثانوية فوردسون.
لقد عكس سلوك الفقيد المهني والاجتماعي وعياً تربوياً نافذاً وفهماً حصيفاً لجوهر العملية التعليمية وأهميتها في أكثر الأوقات حساسية وضراوة، خاصة في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، فواظب فضل الله على التواصل والتنسيق مع «اللجنة العربية الأميركية للعمل السياسي» (أيباك)، التي وضعت التعليم على رأس أولوياتها لترسيخ الحضور العربي في ديربورن، فتحققت منذ مطلع الألفية الحالية نقلة نوعية في مدارس شرق ديربورن حيث تتركز الكثافة العربية في المدينة، بعد أن كانت قد بلغت حالة يرثى لها أكاديمياً ولوجيستياً حيث كانت بعض الدروس تقام في حاويات الترايلر لعدم توفر المباني الكافية لتلبية متطلبات أطفال الجالية وتطلعاتهم العلمية.
قصة مهاجر
مثله مثل معظم اللبنانيين الأميركيين، غادر فضل الله وطنه الأم بحثاً عن الحلم المنشود في الولايات المتحدة التي وصلها عام 1980 بعزيمة قوية وإمكانات مالية هزيلة.
استطاع خلال سنوات قليلة تحقيق حلمه الأول بإكمال دراسته الجامعية، مشكلاً قدوة يحتذى بها لأخوته الستة الأصغر منه سناً.
درس في جامعة «إيسترن ميشيغن» وتخرج منها عام 1987 حائزاً على شهادتي البكالوريوس والماجستير في «الإدارة والقيادة التعليمية». وعمل بعد تخرجه معلماً في مدارس ديربورن العامة لمدة خمس سنوات، كما عمل خمس سنوات أخرى مساعداً لمدير مدرسة «ستاوت» ثم مديرا لها.
وفي العام ٢٠٠٥ تم تعيين فضل الله كأول مدير عربي أميركي لثانوية فوردسون التي شهدت تغييرات جذرية في عهده الذي امتد حتى العام 2010.
استطاع فضل الله خلال تلك الفترة، بجهوده ومثابرته، تغيير صورة المدرسة المتعثرة إلى واحدة من أنجح مدارس ديربورن العامة. وبات طلاب المدرسة القادمون من خلفيات مهاجرة وأسر عربية ذات دخل محدود، يحققون أعلى الدرجات العلمية ويفوزون بالمنح الدراسية التي مكنت الكثيرين منهم من الانتساب إلى أفضل الجامعات الأميركية من «ميشيغن–آناربر» إلى «ميشيغن ستايت»، وصولاً إلى هارفرد وستانفورد وبرينستون وغيرها من الجامعات المرموقة.
الهوية والتعليم
مسيرته المهنية التي امتدت على مدار ثلاثة عقود لم تخلُ من المشاكل والصعوبات، لاسيما وأن فضل الله ظل متمسكاً بالربط بين العملية التعليمية والهوية المجتمعية، مما جعله مثار جدل وعرضة لبعض الاتهامات في الحقل التعليمي، كان من بينها دعاوى حقوقية تتهمه بالتمييز ضد الديانة المسيحية، ولكن تلك الدعاوى التي حاولت تشويه صورة المدير العربي الأميركي باءت بالفشل. وفي لقاء أجرته «صدى الوطن» مع فضل الله بعد تقاعده، أفاد في هذا السياق بأن «تجاهل ألوان وأديان وخلفيات الطلاب هو تصرف أحمق»، وقال: «لا يمكنك أن تتصرف وكأنك مصاب بعمى الألوان، فوراء كل لون وعرق وثقافة توجد قصص، وإن كنت لا تعرف تلك القصص، فكيف ستتمكن من الإيفاء بحاجات الطلاب؟».
شهادات
لقد حظي فضل الله بتقدير مجتمع الجالية العربية الأميركية في مدينة ديربورن لدوره المحوري في رفع المستوى التعليمي في المدينة، كما يكن له الطلاب والخريجون وعائلاتهم الكثير من الود والاحترام، والاعتراف بالفضل والامتنان.
وفي هذا السياق، أفادت الناشطة سهيلة أمين لـ«صدى الوطن» بأن فضل الله أرسى قاعدة «الفرص المتساوية والعادلة» بين الطلاب الذكور والإنات، مما مكّن الكثير من الطالبات من تحقيق أفضل الإنجازات.
وقالت «كمراهقة كنت أتحضر لدخول معترك الحياة الشخصية والمهنية، وقد لعب فضل الله دوراً كبيراً في تكويني لأكون المرأة والقيادية التي أنا عليها الآن». وأضافت «لقد كان القيادي الوحيد في جاليتنا الذي سعى من أجل تمكين النساء وحفزهن لتجاوز إمكانياتهن واحتلال مواقع القيادة».
من ناحيته، وصف رجل الأعمال علي جواد الراحل فضل الله بالرجل «صاحب المبادئ»، وقال «أعرفه منذ وقت طويل، وقد عملنا معاً سنة 1978 في إحدى محطات الوقود بأجرة 2.5 دولار في الساعة.. لقد عرفته منذ ذلك الحين كشخص صاحب مبادئ عالية»، مؤكدأً أن الفقيد قد حافظ على تمسكه بالأخلاق مع تقدمه الاجتماعي والمهني حتى غدا شخصية معروفة ومحترمة، وقال «لقد ظل على الدوام الشخص الذي عرفته في الماضي».
وأكد النائب في كونغرس ولاية ميشيغن العربي الأميركي عبد الله حمود (ديمقراطي–ديربورن) على تفاني مديره السابق في ثانوية فوردسون، وقال: «إنك تحظى بمقابلة الأشخاص من أمثال السيد عماد فضل الله مرة واحدة في العمر» مضيفاً «لقد كنت –إضافة لكثيرين غيري– محظوظاً بوجود مرّبٍ ضحى بكل شيء من أجل ضمان الأفضل والأنجع لطلابه».
التزام فضل الله بثقافته الأم لم يدفعه لغض الطرف عن تأثيرات الثقافة الأميركية الحاضنة وتجاهلها، فهذه الصيغة الثقافية الثنائية التي تسببت بتصدعات في بعض الأسر العربية المهاجرة، كانت حاضرة في رؤى فضل الله الذي استطاع بكثير من الحكمة والصلابة حل هذه الإشكالية، وإنقاذ أجيال متعاقبة من النشء العربي الأميركي، عبر خلق المواءمة بين القيم العربية والغربية، التي تحصن الأفراد من الانزالاق نحو مهاوي الفشل والرذيلة.
ومن هذا المنطلق، لم يكتفِ فضل الله بالعمل المكتبي والإرشادي، وإنما كان يحرص على متابعة شؤون الطلاب وتحرّي عوالمهم وعلاقاتهم وسلوكياتهم، والعمل على حل مشاكلهم، حتى خارج المدرسة، وهو ما دفع فاطمة، وهي إحدى خريجات ثانوية فوردسون إلى وصفه بأنه «واحد من أعظم المرشدين الذين عرفهم مجتمعنا.. بطبيعته الحازمة وغير المتسلطة في آن».
وقالت: «لقد كان يعاملننا مثل عائلة.. وإنني لأعجز عن إحصاء أعداد الطلاب الذين بسببه تغيرت حياتهم نحو الأفضل».
التمييز ضد العرب
في خضم معركة الحريات المدنية ومكافحة ثقافة التمييز ضد العرب والمسلمين، لم يتراجع فضل الله إلى الصفوف الخلفية، وإنما لعب دوراً مشهوداً في تلك المعركة، ولعل خطابه في إحدى حفلات تخريج الطلاب في ثانوية فوردسون يبقى دليلاً شاهداً على ذلك.
ففي خطاب حفل التخرج لعام 2010 عقد فضل الله مقارنة بين حادثتين، الأولى وقعت معه قبل 25 عاماً حين اتهمه أحد المعلمين بسرقة آلة طباعة من المدرسة لمجرد كونه عربياً، وبين حادثة تجريم طالبين عربيين، أسامة وعلي، لشرائهما ثلاثة هواتف من متجر «راديو شاك» وسجنهما لمدة عشرة أيام.
وأضاف في الخطاب: «الأمر واضح.. لقد تم تجريمي بذنب السرقة وكان كل ذنبي أنني شاب عربي.. ما زلت أتذكر حتى الآن مدى الانكسار الذي شعرت به». وأضاف «بعد 25 سنة.. فإن أسامة وعلي هما في رأيي مذنبان بكل تأكيد.. مذنبان لأنهما شابان عربيان يصلحان لصورة الإرهابي النمطية، فأي دليل تريدونه على ذلك الذنب أكثر من بطاقة شخصية يلمع فيها إسم كإسم أسامة».
ومن هنا نفهم صدق الكلمات التي أدلت بها عضو مجلس ديربورن التربوي ماري لاين التي وصفت فضل الله بعد وفاته بأنه «بطل حقيقي من أجل الطلاب» ومدافع شرس عن التعليم العام، كما وصفت قدرته على الدفاع عن كل طالب بـ«الهدية».
وقالت «آلاف العائلات تأثرت به.. لقد كان يصوب انتباهه على الأولاد الذين بإمكانهم أن ينجزوا أفضل، ولكنهم لسبب ما كانوا يفعلون ذلك». وأضافت لاين «لقد مكنه ذكاؤه العاطفي من فهم الاحتياجات والمصاعب التي يواجهها كل طالب، وقد ساعده ذلك على تغيير عقولهم وقلوبهم وحياتهم» فنجح في «جمع الأساتذة والموظفين الإداريين والطلاب إلى النظام ونجح في تغيير الثقافة في ثانوية فوردسون نحو الاجتهاد والانضباط والكياسة بدل التسيب والفوضى».
في عام 2010 قبلت «جامعة ميشيغن–آناربر» 120 طالباً من ثانوية فوردسون، 80 منهم التحقوا بها، فيما فضل البعض منهم الانتساب إلى جامعات أخرى. وكان العديد من هؤلاء الطلاب قد حصلوا على منح رفيعة.
إن الكثيرين ممن تأثروا برؤية وإنجازات فضل الله الإدراية يتطلعون إلى الاحتفال بتراث المربي الفقيد وصونه، بحسب ما أكدت لاين التي ختمت بالقول «علينا أن نتعلم الدروس التي استقيناها من فضل الله والاستمرار قدماً».
Leave a Reply