السلطة القضائية والهبّة الشعبية أجبرت الرئيس ترامب على إعادة حساباته والامتناع عن استئناف قرار الحظر أمام المحكمة العليا بسبب الثغرات القانونية التي شابت صيغته الأولية لاسيما في مساس حقوق حاملي بطاقات الإقامة الدائمة (غرين كارد)، ولكن الرئيس لجأ نحو مناورة ومغامرة جديدة تمخضت عن إصدار قرار تنفيذي ثانٍ استثنى بموجبه حاملي التأشيرات الصادرة قبل تاريخ ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧ وأصحاب البطاقات الخضراء من الحظر، إضافة إلى إزالة العراق من قائمة الدول الممنوعة التي تضم سوريا واليمن والصومال وإيران وليبيا والسودان.
وقبل ساعات قليلة من دخول القرار الرئاسي الجديد حيز التنفيذ، أصدر قاضيان فدراليان، ديريك واتسون (من هاواي) وتيودور شوانغ (من ماريلاند)، قرارين بتعليق مؤقت لقرار الحظر الجديد الذي كان من المقرر أن يبدأ تطبيقه منتصف ليل الخميس الماضي.
القاضي واتسون لم يقبل المبررات التي ساقتها الإدارة الأميركية تحت عنوان حماية أمن البلاد من الإرهابيين القادمين من الخارج مؤكداً أن القرار ينطوي على تمييز ضد المسلمين، فيما أكد القاضي شوانغ أن منع دخول مواطني الدول الست ذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة يعدّ انتهاكاً للتعديل الأول للدستور الأميركي.
وبغض النظر، عما إذا كان القضاء الأميركي سينجح بإجهاض قرار الحظر الثاني أم لا، فإن السؤال يبقى متمحوراً حول الأسباب الحقيقية التي تدفع الرئيس الجمهوري إلى الإصرار على هذا الموقف المعادي –بادىء ذي بدء– للمهاجرين واللاجئين لاسيما من الدول التي تنهشها المجاعة والحروب والصراعات المسلحة، بذريعة حماية الأمن القومي، رغم أن لا شيء يدل على أن نهج الحظر الذي يصر عليه ترامب كفيل بتوفير الأمن والحماية للأميركيين سواء من الإرهاب الداخلي أو الخارجي.
وإذا كان الأمن الأميركي سيتحقق من جراء قرارات ترامب التنفيذية بظر سفر المسلمين، فما الداعي إذن لإنفاق 54 مليار دولار إضافية ضمن ميزانية وزارة الدفاع الأميركية لتتجاوز عتبة ٦٠٠ مليار دولار للسنة المالية ٢٠١٨ علماً بأنها أصلاً الأكبر في العالم.
من اللافت أيضاً في ميزانية ترامب الأولى، إلى جانب تعزيز الإنفاق العسكري والبدء ببناء جدار حدودي مع المكسيك وإنفاق المزيد من الأموال على ترحيل المهاجرين غير الشرعيين.. أنها تتضمن تخفضيات جذرية في ميزانية وزارة الخارجية ووكالة حماية البيئة، تفادياً لتفاقم العجز الفدرالي.
وهل بالزيادة غير المسبوقة في الإنفاق العسكري، ستنجح الولايات المتحدة فعلاً في تحقيق أمنها الوطني وتعزيز السلم العالمي وتأكيد ريادتها بين الدول، أم أن الزيادة التي وصفت بالتاريخية ليست إلا تمهيداً لتدخلات عسكرية، مباشرة أو غير مباشرة، في شؤون البلدان الأخرى، كما حدث في تجارب سابقة لا تزال آثارها المدمرة ماثلة في العراق وليبيا وسوريا والصومال وغيرها من البلدان التي دخلت في صراعات أهلية وأزمات إنسانية قادت إلى موجات من النزوح واللجوء لم يشهدها العالم منذ قرون.
أما فيما يتعلق باستثناء العراق من قائمة الدول الممنوع مواطنوها من دخول أميركا، فقد عزا مسؤولون في البيت الأبيض ذلك الاستثناء إلى موقف الحكومة العراقية التي فرضت إجراءات فحص جديدة وزيادة الرقابة على تأشيرات السفر وتبادل البيانات، إضافة إلى تعاونها مع الولايات المتحدة في مكافحة التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم «داعش»!
وإذا كانت الأسباب التي ساقتها إدارة ترامب إلى استثناء العراق من قائمة الحظر، حقيقية، فكيف تبرر الإدارة الأميركية إذن إبقاء دول تبذل منذ سنوات عديدة أقصى الجهود في محاربة التنظيمات والجماعات الإرهابية في سوريا، وفي مقدمتها الحكومة السورية وإيران؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تتخلص فيما كشفه مراقبون من أن رفع العراق من قائمة الحظر جاء نتيجة التحسب الأميركي من تنامي النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، والتخوف من أن منع العراقيين دخول الولايات المتحدة سيساهم في غياب التنسيق المشترك بين واشنطن وبغداد.
وكخاتمة، ندرك جميعاً أن الأمن القومي لا يتحقق بإغلاق الحدود وتشييد الجدران ومعاقبة الشعوب، وإنما يتحقق عبر تعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية وحماية الحقوق الأساسية للأفراد والمجموعات، فهل يدرك ترامب ذلك؟
Leave a Reply