أثارت استقالة الدكتورة الأردنية ريما خلف –الأسبوع الماضي– من منصب الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) ضجة إعلامية كبيرة ترددت أصداؤها في العالم كله، وذلك إثر رفضها الامتثال لطلب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غتيريش بسحب تقرير أصدرته اللجنة يتهم إسرائيل بانتهاج سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.
ورغم أن استقالة خلف لم تأت في سياق «إدانة» الأمم المتحدة وأمينها العام، كما أشارت في أحد أحاديثها الإعلامية، إلا أن خطوتها الجريئة –وإن لم تمنع الأمم المتحدة من حذف التقرير عن موقعها الالكتروني– نجحت في تسليط الضوء على نظام الاحتلال الإسرائيلي وإفشال محاولات طمس الحقائق والمعاناة التي يعيشها الفلسطينيون يومياً تحت وطأة الظلم والاضطهاد الذي يحرص على تطبيقه نظام الفصل العنصري الإسرائيلي القائم على الأراضي المحتلة.
وصفُ إسرائيل بدولة الفصل العنصري ليس جديداً في الأدبيات السياسية، ولكنه يصدر لأول مرة عن منظمة أممية، فسارعت تل أبيب وحلفاؤها إلى الضغط وممارسة البلطجة السياسية لإخفاء ما يحتويه من أدلة ومعطيات تؤكد انتهاج الدولة العبرية نظام «أبارتهايد» عنصري يقوم على تسلط جماعة عرقية (اليهود) على أخرى (الفلسطينيين). كما يؤكد أن الوقائع والأدلة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن إسرائيل بسياساتها وممارساتها ترتكب «جريمة الفصل العنصري»، التي تعرّف حسب القانون الدولي بأنها «أية أفعال لا إنسانية ترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وتُرتكب بنيّة الإبقاء على ذلك النظام».
والهيمنة العرقية، بحسب التقرير المحذوف، تبدو ظاهرة في عدد من القوانين والممارسات الإسرائيلية، لدرجة يبدو معها أن «النظام الإسرائيلي مصمم لهذا الغرض بشكل جليّ في مجموعة القوانين الإسرائيلية، وخاصة في مطلب إعلان يهودية الدولة». يورد التقرير بعض الأمثلة على ذلك، منها قانون تملك الأراضي، فالدستور الإسرائيلي ينص على أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال بيع الأراضي التي تحتفظ بها إسرائيل أو هيئة التطوير الإسرائيلية أو الصندوق القومي اليهودي، مما يضع إدارة هذه الأراضي تحت سلطة هذه المؤسسات بصورة دائمة. وتدير «سلطة أراضي إسرائيل» كافة أراضي الدولة، التي تمثل 93 بالمئة من الأراضي المحتلة ضمن حدود إسرائيل المعترف بها دولياً. وهي، بحسب القانون الإسرائيلي، مُحرّم على غير اليهود استخدامها أو تطويرها أو امتلاكها.
ويضيف التقرير أن الهندسة الديموغرافية تمثل أحد المجالات التي تخدم سياسات إسرائيل كـ«دولة يهودية». وأشهر قانون في هذا الصدد هو «قانون العودة» الذي يمنح اليهودي أيا كان بلده الأصلي حق دخول إسرائيل والحصول على جنسيتها، في حين يُحجب عن الفلسطينيين أي حق مماثل بصرف النظر عن الوثائق والإثباتات التي بحوزتهم.
والتقرير يستنتج أن استراتيجية تفتيت الشعب الفلسطيني هي أسلوب إسرائيل لفرض نظام الفصل العنصري الذي ما زال يؤدي إلى تقسيم الشعب الفلسطيني على مناطق جغرافية معزولة، حيث تعمل هذه التجزئة على تثبيت نظام الهيمنة الإسرائيلي وإضعاف إرادة الشعب الفلسطيني وقدرته على المقاومة الموحدة والفعالة.
ويوضح التقرير أنه منذ عام 1967، يعيش الشعب الفلسطيني في أربعة «فضاءات»، حيث يعاملون معاملة مختلفة في الظاهر، لكنهم في الواقع يتشاركون اضطهاداً عنصرياً واحداً في ظل نظام الأبارتهايد.
وهذه الفضاءات هي: القانون المدني المطبق على الفلسطينيين الذين يعيشون كمواطنين في الداخل الإسرائيلي، وقانون الإقامة الدائمة المطبق على الفلسطينيين الذين يعيشون في مدينة القدس، والقانون العسكري المطبق على الفلسطينيين الذين يعيشون منذ عام 1967 في ظل الاحتلال العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة، ومنهم من يعيش في مخيمات اللجوء، وأما الفضاء الأخير فتمثله السياسات التي تحرص على عدم تحقيق حق العودة للفلسطينيين، سواء للاجئين أم المنفيين خارج المناطق الواقعة تحت سيطرة إسرائيل.
وللتقرير بحسب ما أفادت خلف لوسائل الإعلام تداعيات خطيرة، محذرة بعض الدول العربية من تعاملها ودعمها لإسرائيل، لأن ذلك العمل هو مشاركة في «جريمة الفصل العنصري»، والتي هي جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
كما يدحض التقرير بعض المغالطات، ومنها أن الظلم الواقع على الفلسطينيين منذ العام 1967 حيث أنه يثبت في الواقع أن الظلم واقع على الفلسطينين منذ تأسيس الدولة العبرية (١٩٤٨) التي قامت أساساً على نظام التمييز العنصري ضد الفلسطينيين.
تستحق ريما خلف كل التحية والتقدير على خطوتها الشجاعة بالاستقالة من منصبها وتضحيتها بموقعها لتبقى منسجمة مع ضميرها وإنسانيتها، رغم كل الضغوط التي مورست عليها لحذف التقرير الذي أزيل بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش.
والجدير بالذكر أن التقرير يمكن متابعته واعتماده من قبل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لكشف حقيقة النظام العنصري الإسرائيلي وفضح جرائمه ضد الإنسانية، والتأكيد على أن حل الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني على قاعدة «الدولتين» غير واقعي، ولا يمكن للسلام الحقيقي أن يتحقق من دون تفكيك نظام الفصل الذي تفرضه إسرائيل على جميع أبناء الشعب الفلسطيني في كل أنحاء العالم.
Leave a Reply