غالباً ما ترتبط الغربة بالمهاجرين، ومن أجل امتصاص الشعور بالاغتراب، فهم يحاولون إحياء وإبراز الملامح التي تسم شخصية مجتمعاتهم الأصلية.
في بداية عهد الهجرة كم تكون لكلمة الغربة من وقع قاس على النفس وتجريح للقلب الذي تحمّل عناء فراق البلد الأم وأهليه، فراق أناس وأحبة وأصحاب تعوّدت عيوننا أن تصبّح بمحياهم المألوفة وقلوبهم الصافية الخالية من الضغائن، حين يمدون أياديهم للمصافحة كل صباح تشعرنا بالأمان وتمنحنا جرعة الحنان الدافئ النابع من قلب ينبض بعاطفة لا تضاهيها أموال العالم.
ولأنّ لكل شيء ثمن ولكل حالة ما يوازيها من حيازة شيء مفتقد أو خسارة مصاحبة، فإنه عندما تدقّ ساعة الرحيل ونحزم أمتعتنا ونتجه صوب العالم الآخر تبقى قلوبنا معلّقة بمن تركناهم وراءنا لا نريد أن نفقدهم، وقد تصل حالة الحنين إلى أن نذرف الدموع تلو الدموع، ذلك لأنّ القلب معلق بحبال الحب ومرتبط بماضي الألفة، فيتصاعد الشعور بالاشتياق إلى الأهل والأصحاب والجيران وإلى الأماكن التي ترعرعنا فيها وإلى الشوارع والأزقة التي شهدت (شقاوتنا) يوم كنا صغاراً وتنتصب أمامنا شجرة الجوز التي كنا نرشق أغصانها بالحجارة لترمي لنا شيئاً من ثمارها، تركض بنا أقدامنا نحو النبع الذي شهد تزاحمنا للفوز بإبريق من الماء البارد، أمّا شجرة الرمان المعربشة أغصانها على الحائط متدلية بحملها تنتظر من يقطف بعضاً من ثمرها وهي مسترخية لحين انتهاء موسم القطاف.
لكننا ما إن نغادر تلك الطبيعة الغنّاء، حتى تصبح أشبه بلوحات جميلة مرسومة تستعيدها الذكريات، ليبدأ المنعطف الذي تتغير فيه ملامح الحياة بحيث تضرب الغربة في المشاعر والأحاسيس فتصبح الطباع القديمة غريبة هي الأخرى، إنه شعور لا يحسه إلا المغترب، خصوصاً في بداية العهد حيث تشتد الكراهية للغربة مثل كره المظلوم لظالمه، حتى إذا عدنا لبلدنا الأم اشتقنا لتلك الغربة وهي تعاود مبادلة الأدوار.
في مرحلة الاغتراب الأولى ونحن نندمج في المجتمع الجديد، نقابل شتى الاثنيات والأجناس وكلّ له معتقداته وطقوسه وتقاليده حيث يتمتع الجميع بحرية الدين كما حرية الرأي، فيمارسون طقوسهم بحرية كاملة ذلك أن الجميع سواسية أمام القانون كما التساوي في الحقوق والواجبات، الأسس التي هي أعظم ما يميّز الدستور الأميركي، إذ أنّ الكل يحاول المحافظة على هوية الانتماء والاعتزاز بالإرث النوعي الانساني المتراكم عبر تاريخ كل مجتمع من المجتمعات.
عند زيارتي إلى بوسطن شاهدت الحيّ الصيني الذي يزخر بكل المنتوجات الصينية والمطاعم ذات الطراز الصيني وواجهات المحلات وحشود الناس جلهم من العرق الأصفر وحتى الأطفال يرتدون الزي الصيني، حتى يخيل للقادم من مدخل الحيّ أنه يتجول في بقعة من بقاع الصين. كم شعرت بالغبطة حين تأكد لي هذا الانتماء للمحافظة على هويتهم مثلما الاحتفاظ بالطابع الذي يميزهم عن باقي المجتمعات، كما شاهدت مثل هذه الظاهرة أيضاً عندما زرت مدينة تورنتو في كندا، حيث وجدت العديد من الأحياء التي تتميّز بمزايا إثنية خاصة، إذ يحمل كل حيّ طابع وسمات بلدٍ بعينه ممّا أشعرني ذلك بأنني قد زرت عدة بلدان داخل مدينة واحدة.
وجرياً على هذه الحصيلة من التجارب الحياتية هنا في المهجر والمشاهدات الواقعية الحية، وباعتباري من المنحدرات من أحد البلدان الشرق أوسطية، كم يحزّ في نفسي بأنني لم أر حيّاً عمرانياً واحداً ذا ملامح شرق أوسطية ينقل حضارتنا الثرّة إلى بلاد المهجر رغم أن حضارتنا الضاربة في عمق التاريخ يقصدها الغربيون للتعرف إليها والاطلاع على معالمها والنهل من إنجازاتها العظيمة، بينما نحن نتجاهلها ولا نعطيها قيمتها الحقيقية التي تستحق منا كل الاهتمام في إبراز ملامحها على هذه الأرض التي حملنا القدر لأن نحيا عليها جيلاً ستتبعه أجيال، ولم نحمل معنا سوى وصفات الطبخ حيث تنتشر المطاعم في كل مكان بأسماء عربية مختلفة وكأننا شعوب لا تفكر إلا ببطونها.
ومن المؤسف أن نصدم بأنّ حتى لغتنا أصبحت غريبة عنا، فأطفالنا لا يفضلون التخاطب بها بسبب تغاضي الأهل عن تعليمها لهم بجدية وعدم الاهتمام بترغيب أبنائهم والتعلق بها مع أنّها لغتنا الأم فضلاً عن كونها لغة كتابنا السماويّ، لغة القرآن الحكيم. وهنا أضع اللوم على الأمهات، لأنهن من يعشن الوقت الأطول مع الأبناء، فلو أعطت الأم ساعة واحدة يومياً من وقتها لكي تعلمهم لغة بلادهم وتعزز فيهم حب الانتماء لوطنهم الأم وترغيب اليافعين منهم لزيارة بلدانهم والتعرف على حضاراتها وزيارة الأماكن التي عاش في جنباتها أهلهم وترعرعوا فيها، أليس ذلك أفضل من تمضية الوقت في تدخين الأركيلة و«طق الحنك» على الفيسبوك أو الثرثرة عبر الهاتف بأشياء لا تفيد المجتمع بشيء؟
إنه مهما منحت الجنسية الثانية إنساناً ما من المميزات ومهما منحت أرض المهجر من سبل العيش المرفهة، يبقى البلد الأم هو موطن الحنان وله قدسية المنحدر وكم صدق الشاعر حين قال:
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنّوا عليَّ كِرامُ
Leave a Reply