لم تكن موفقة التعليقات الساخرة التي استقبل بها ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي تعثر الرئيس اللبناني العماد ميشال عون، على منصة الصورة التذكارية، أو حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم على سلّم الطائرة.
ولم يكن موفقاً على الإطلاق تركيز الفضائيات العربية على هاتين الواقعتين، بالشكل التسطيحي، الذي طغى على الواقع المرير، لجامعة أرادها مؤسسوها جامعة للعرب، لتتحول على مدار تاريخها إلى منبر للتصريحات الرنانة في أفضل الأحوال، وتجمّعاً لمؤامرات تحاك في كواليس ذروة الانحدار.
التعثر الحقيقي كان، في الواقع، تعثر العرب من محيطهم الذي كان هادراً، فاستكان على وقع الخيبات المتلاحقة، وخليجهم الذي كان ثائراً، وإذ به يقع فريسة أكثر الأنظمة رجعية في العالم. وما بين الخليج والمحيط، سوريا والعراق واليمن وليبيا، التي تنزف شعوبها دماً، ومصر ولبنان، الملامسان للخطر التكفيري المدعوم من مشايخ النفط، وقضية «مركزية» لم تلق من القادة العرب، سوى بضع كلمات في خطابات مستهلكة وقرارات باهتة، لا تحرّر أرضاً، ولا ترفع حصاراً.
خيبة متجددة
على هذا المشهد، جدّد القادة العرب خيبة شعوبهم، فالقمة العربية، في دورتها الحالية، والتي انعقدت على ضفاف البحر الميت في خضم التأزم العربي، بدت، وقبل انعقادها، عاجزة عن تصحيح أخطاء قاتلة، دفعت بالعالم العربي إلى قعر الجحيم، في واحدة من أسوأ المراحل التي يشهدها، منذ دكّ هولاكو، على رأس جيش المغول، أسوار بغداد، وما بعدها، أو منذ رسم مسؤولان بريطاني وفرنسي خطوطاً وهمية على خريطة فرشوها على مكتب فاخر، لتقسيم مناطق النفوذ بين القوتين الاستعماريتين السابقتين.
بالأمس، كانت الشعوب العربية شاهدة على خيبتها إزاء حكامها، وما قالوه على منابر الطقس السنوي المتكرّر، منذ قمة أنشاص، والأهم، أنها كرّست مجدداً عجزها عن منع بعض من حكامها، في المضي قدماً في تآمرهم، الذي تبدّى موقفاً باهتاً في مشاريع القرارات التي لا تساوي قيمتها الحبر الذي كتبت به، ومشاريع التحالفات الجديدة، التي يجري تكريسها في الأجنحة الملكية الأردنية الفخمة، التي حل الزعماء العرب ضيوفاً عليها.
استبدال العدو
في قمة التعثر العربي، بدا القادة العرب أكثر إصراراً على استبدال العدو بالصديق، والصديق بالعدو.
بدا واضحاً، في ظل استمرار الخلافات على البديهيات، والتخلي عن الثوابت، أنّ مشايخ النفط، والزعماء الخاضعين للبترو–دولار، ماضون في التصعيد ضد إيران، عبر إقامة تحالفات جديدة. وليست مصادفة في هذا السياق، أن تنعقد قمة العرب، فيما الطائرات السعودية والسودانية تناور عسكرياً على مقربة من حدود مصر، كرسالة ضغط على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تباعدت المسافة بينه وبين الحاكم بأمر النفط، الملك سلمان بن عبد العزيز، بعد تعثر استيلاء السعودية على جزيرتي «تيران وصنافير. كما أنها ليست مصادفة أن يلتقي القادة العرب، فيما الطائرات الإماراتية والإسرائيلية تشارك في مناورات مشتركة، برعاية أميركية، في اليونان.
تلك التحركات تشي بالكثير، لا سيما إذا ما اقترنت برسائل الود المباشرة وغير المباشرة بين الأنظمة الخليجية، وفي القلب منها نظام آل سعود، وبين إسرائيل، التي من المؤكد أن ابتسامة ساستها وقادتها العسكريين والأمنيين، قد ازدادت، فيما هم يستمعون إلى مقررات قمة عمّان، بما فيها من استعداد للتطبيع الكامل مع الكيان الإسرائيلي، في مقابل اعتراف الأخير بـ«حل الدولتين»، الذي بات مستحيلاً في ظل تنامي الهجمة الاستيطانية، لا بل أن ورقة نعيه كتبت في اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، قبل أسابيع.
مصالحة تاريخية!
هذا الواقع عبرت عنه صحيفة «معاريف» حين علّقت على القمة العربية بافتتاحية حملت عنوان «شرق أوسط قديم»، وأشارت فيه، بتهكم مبطن، إلى أن القادة العرب لم يملكوا في اجتماعهم سوى المواقف «الهجومية» تجاه السياسات الإسرائيلية.
وفي الواقع، فإن القادة العرب، ولا سيما الخليجيين، لا يملكون سوى المزايدات في القضية الفلسطينية لإخفاء تآمرهم عليها، وهو ما يتبدّى في الإسراع إلى تقديم أوراق الاعتماد إلى سيّد البيت الأبيض، فبيان القمة عرض بوضوح «مصالحة تاريخية» مع إسرائيل شرط انسحابها إلى حدود ١٩٦٧، في ما يعد تماهياً مع توجهات واشنطن الجديدة بإحياء عملية السلام.
وفي المقابل، لم يفت القادة العرب أن يتناولوا إيران، باعتبارها عدوّا – بدل إسرائيل – ومع ذلك، فإن المواقف العامة إزاء الجمهورية الإسلامية لم تكن بالقدر الذي يرضي السعودية، وهو يعود إلى أمرين، إما الرغبة في المراوحة بانتظار رصد مسار العلاقات بين طهران وواشنطن من جهة، أو أن ثمة قادة عرب قد أحبطوا جهود السعوديين في هذا الإطار، متسلحين بمبدأ «الإجماع» في اتخاذ القرارات.
فبين عشية وضحاها عاد الخطاب الرسمي إلى ما قبل قمة سرت عام 2010، فلم يذكر الملك السعودي إيران بتهمة الإرهاب، كما هو دأب السعودية ووزير خارجيتها منذ الأزمة في سوريا. غير أن أمير الكويت ذكرها بالاسم في دعوتها «لاحترام سيادة الدول وأسس حسن الجوار»، لكنه خصّ القمة بالدعوة «للحوار البنّاء من أجل تحقيق الأمن والاستقرار» مع إيران. وهو أمر يكسر المحرّمات الخليجية طوال السنوات الماضية.
تمخّض الجبل
غير أن ما قد يميز هذه القمة عن غيرها من القمم هو تسابق الزعماء العرب بالتصريح بأنها ستشهد قرارات مهمة، وذلك بالنسبة للقضايا المركزية مثل فلسطين وسوريا، وهو ما أكد عليه العديد من القادة العرب في كلماتهم حيث دعوا إلى رفض التدخل الأجنبي في القضايا العربية والعمل من أجل تنسيق المواقف العربية ومواجهة التحديات بشكل مشترك.
وعلى هذا الاساس، اقتصر الحديث في إعلان عمّان على رفض «كل التدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية»، وإدانة «المحاولات الرامية إلى زعزعة الأمن وبث النعرات الطائفية والمذهبية أو تأجيج الصراعات».
ولعل هذا يفتح الباب على ملاحظة قد تكون من السمات الجوهرية لقمة عمّان، وتتمثل بتراجع النفوذ الخليجي في رسم القرارات العربية، فقبل خمس أو ست سنوات سيطرت دول الخليج على المشهد العربي وكانت هناك توقعات عربية بحدوث تغييرات، إلا أن شيئاً لم يحدث. وهو ما ساهم في ضعف الموقف الخليجي بشكل عام. فحرب اليمن لم تحسم، والأوضاع في سوريا تجري بعكس ما تشتهيه سفن الخليج.
انطلاقاً من ذلك، كان ملفتاً انكفاء الهجوم على «حزب الله» حين ميّز البيان الختامي بين الإرهاب بكافة أشكاله، وحق الشعب اللبناني في المقاومة، فيما يشكل تراجعاً عن النهج التصعيدي الذي فرضته الانظمة الخليجية على الاجتماعات العربية السابقة.
أما في الشأن السوري، فاقتصر الموقف في إعلان عمان على التذكير بضرورة «إيجاد حل سلمي للأزمة السورية»، باعتبار أن «لا حلّ عسكرياً للأزمة»، فيما فضل أمير قطر تميم بن حمد التغريد خارج السرب، في تجديد الهجوم على الرئيس السوري بشار الأسد، واتهامه بشن «حرب شعواء» على شعبه.
وبدا أمير قطر الأكثر تشدّداً في إشارته إلى «اتخاذ إجراءات ملزمة للنظام السوري لتنفيذ قرار جنيف 1»، والأكثر التزاماً بالخطاب الخليجي المعهود في تلميحه إلى «حزب الله» وفق تعبير «ميليشيات طائفية من مذاهب مختلفة». وهو ما تتداوله الدول الخليجية في محاولة مقايضة المقاومة بـ«داعش» و«النصرة».
ولعلّ السلوك القطري في القمة العربية يؤشر مجدداً إلى تضعضع التحالف الخليجي، لا سيما أن كلمة الملك سلمان، لم يكن سقفها مرتفعاً في مقاربة المسألة السورية، وهو ما يشي بتباين الموقف بين الإمارة والمملكة النفطيتين، في ظل التحولات التي طرأت على المشهد السوري، منذ التدخل العسكري الروسي في أواخر العام 2015.
يمكن القول إن خطاب التهدئة في قمة بحر الميت هو بمثابة نفس عميق بانتظار أن يتبيّن ترامب الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وهي تهدئة لا تُلزم دول القمة بأكثر من كلام من دون سمّ زعاف حتى إشعار آخر.
وفي إطار هذا التباين بدا ملفتاً للانتباه أن تميم قطع الطريق على المصالحة الكاملة مع مصر، وهو ما تبدّى في كلام الأمير القطري حين قدّم رؤية مغايرة للموقف المصري بالنسبة إلى الحرب على الإرهاب، قائلاً إن «الجدية» في هذا السياق، تستدعي أن «نبذل جهداً لاعتبار تيارات سياسية نعتبرها إرهابية، على الرغم من أنها ليست كذلك»، في إشارة واضحاة إلى جماعة «الإخوان المسلمين».
تحالف جديد
وفي المقابل، فإن قمة عمان اثمرت على ما يبدو «تفاهمات» بين القاهرة والرياض، حول الملف السوري، وجزيرتي تيران وصنافير، والتراشق الإعلامي، بعد أشهر من «الخلاف المعلن».
وكان اللقاء بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك سلمان الأول بين الجانبين بعد نحو عام من زيارة سلمان للقاهرة، في نيسان من العام الماضي، والتي تلتها تباينات في وجهات النظر حول عدد من القضايا الإقليمية (الملف السوري على وجه الخصوص)، وتلك المرتبطة بالعلاقات الثنائية (أزمة تيران وصنافير).
وأثمر اللقاء الذي خرجت فيه صور الرئيس المصري والملك السعودي بابتسامات عديدة على هامش القمة العربية، عن ترحيب الرئيس المصري، بدعوة سلمان للسيسي إلى زيارة للسعودية، خلال الشهر المقبل. ويبدو واضحاً، بحسب مصادر دبلوماسية، أن الملك الأردني قد لعب دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر بين سلمان والسيسي، وهو ما يؤكد تقارير سابقة، تحدثت عن تحالفات جديدة ترغب فيها إدارة ترامب، بين الأنظمة «السنية» في المنطقة العربية، سواء للدفع بعلاقات أفضل مع إسرائيل، من جهة، أو لخلق جبهة عربية يمكن الاستفادة منها في الحرب الباردة ضد إيران من جهة ثانية.
انطلاقاً مما سبق، فإن قمة عمان جاءت بمثابة شهادة طبية لموت سريري تعانيه الجامعة العربية، كإطار موحد للعرب، وشهادة ولادة لتحالفات جديدة، خارج الإجماع العربي، لتقديم واجب الطاعة والولاء للسيد الأميركي، وخلفه الإرادة الإسرائيلية.
إلى السعودية
ولعل مشهدين رمزيين على هامش أعمال قمة عمّان يكادان يلخصان حال الجامعة العربية.
المشهد الأول، هو سلسلة الاعتذارات عن استضافة القمة العربية نفسها. فقد اعتذرت الإمارات عن استضافة الدورة التاسعة والعشرين، لتصبح رابع دولة عربية ترفض استضافة القمة، بعد اليمن، وموريتانيا، والمغرب. وتنازلت الإمارات عن حقها بالاستضافة إلى السعودية حيث ستعقد القمة العربية المقبلة في الرياض، بدل أن تذهب إلى الجزائر بحسب الترتيب الأبجدي.
ولهذا التوجه دلالات عدة بينها رغبة السعودية بإبقاء سوريا خارج الجامعة العربية على الأقل لعام آخر.
فخطاب التهدئة في قمة بحر الميت قد يكون مجرد نفس عميق بانتظار أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في السياسة الأميركية في عهد دونالد ترامب. وهي تهدئة لا تُلزم دول القمة بأكثر من كلام حتى إشعار آخر.
المشهد الثاني، كان في الشارع، وتحديداً في استطلاع رأي المواطنين أجرته إحدى القنوات العربية، إذ لم تجد امرأة مصرية من إجابة على سؤال حول رأيها في القمة العربية سوى عبارة «كلّمني عن الطماطم والبطاطس».
Leave a Reply