يواجه المهاجرون والمقيمون من أبناء الأقليات في الولايات المتحدة صعوداً ملحوظاً للاستهداف العنصري، حتى أصبحت بعض الفئات مثل العرب والمسلمين والأفارقة الأميركيين تعيش تحت وطأة سياسات عنصرية فاضحة وتكاد تكون ممنهجة. فكما يتعرض الأفارقة الأميركيون للاستهداف من الشرطة فإن العرب والمسلمين يتعرضون هم الآخرون للتنميط من قبل الوكالات الفدرالية، لاسيما في المطارات وعلى المعابر الحدودية، فإن الدور قد جاء على الآسيويين في هذه الأيام وعبر شركة خطوط جوية تجارية في انتهاك صارخ ليس فقط لحقوق الإنسان والمستهلك بل أيضاً لكرامته وسلامته!
فقد أظهر مقطع مصوّر –الاثنين الماضي– تعرض أحد المسافرين الآسيويين للسحل والطرد من طائرة تابعة لأسطول شركة «يونايتد إيرلاينز» في مطار «أوهير» الدولي في شيكاغو، إثر إطلاق الشركة نداء يدعو بعض الركاب للتخلي عن مقاعدهم والتوجه إلى طائرة أخرى، إفساحاً في المجال لأعضاء آخرين من طاقم الرحلة، ولكن الركاب لم يستجيبوا لنداء الشركة، الأمر الذي دفع رجال الأمن إلى طرد أحد الركاب بطريقة عنيفة ومذلة، على مرأى ومسمع جميع المسافرين الآخرين، وبشكل يفضح وحشية رأس المال وعنف رجال الأمن بحق الطبيب ديفيد داو الذي رفض مراراً وتكراراً مغادرة الطائرة بناءً على اختيار عشوائي، مؤكداً أنه مضطر للتوجه إلى لويفيل (كنتاكي) بسبب مواعيده مع المرضى هناك.
الفيديو الذي أشعل الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي وفضح ممارسات شركة الطيران ورجال الأمن، وثقته عدسة هاتف أحد المسافرين، الذي قام بنشره على موقع «تويتر»، مرفقاً بعبارة «ليس أسلوباً مناسباً لاقتياد طبيب يحاول أن يتوجه إلى عمله بسبب عدم وجود مقاعد شاغرة».
لقد أظهرت اللقطات، داو وهو يعود إلى الطائرة ويقول «اقتلوني فحسب. اقتلوني. يجب أن أعود إلى المنزل». كما قال «أنا طبيب ولدي مرضى يجب أن أراهم في الصباح وعلي العودة الليلة.. لا يمكنني التأخر».
مرة أخرى، يأتي الانتقاء العشوائي –الذي غالباً ما يستخدم كتبرير لتفتيش المسافرين العرب والمسلمين في المطارات الأميركية– ليستهدف ويذل مهاجراً من الأميركيين الآسيويين رفض الامتثال للتنميط العرقي، فكانت النتائج صادمة ووحشية على نحو لا يكاد يصدّق.
بالطبع لا يمكن لشركة الطيران الأميركية أن تبرر ما حدث، إلا من خلال المقولة التي تقول «إما أن تمتثل للأوامر، أو تواجه العواقب»، وهذه المقولة تنطبق على السياسات الوحشية التي ينتهجها رجال الشرطة بحق أبناء الأقليات. ويبدو أن هذه المقولة قد أصبحت عنصراً أساسياً في السردية الأميركية وإحدى المظاهر التي باتت تتكرر كل يوم في أنحاء البلاد، بشكل يثبت أن الامتثال للأوامر بدون طرح الأسئلة بات يحظى بالأسبقية والأفضلية على الحقوق المدنية الأساسية التي يوفرها الدستور الأميركي للجميع.
من المفارقات التي لا يجوز التغاضي عنها في هذا السياق، أن ضابط الطيران كان إفريقياً أميركياً، كما أن المدير التنفيذي لشركة «يونايتد إيرلاينز» أوسكار مونوز هو أميركي من أصل إسباني، وقد أبدى كلا الرجلين استعدادهما لتنفيذ الأعمال القذرة التي ما كانا ليجرؤا على القيام بها فيما لو كان المسافر من الأميركيين البيض.
من ناحية أخرى، تتصرف الشركات الكبرى وكأنها لا تعبأ بالمساءلة القانونية ولا بمشاعر الزبائن الذين هم في نهاية المطاف مصدر ثرائها واستمرارها في سوق العمل، ففي أعقاب الحادثة أشاد مونوز بسلوك الضابط المسؤول عن «إرضاء المسافرين» وساق تسويغات صارمة لتبرير ما حدث، مدعياً أن المسؤولين قاموا باتباع الإجراءات المعمول بها في حالات من هذا القبيل.
بالمثل، فإن العرب والمسلمين الأميركيين على دراية تامة بهذا النوع من الاستهداف المنهجي، وما الإكراه والإذلال الذي تعرض له الطبيب ديفيد داو، إلا عينة عن الحوادث المتكررة التي طرد خلالها العرب والمسلمون من على متن الطائرات، لأتفه الأسباب، ففي العام الماضي طُرد طالب جامعي مسلم من طائرة تابعة لشركة «ساوث وست» في كاليفورنيا «بجريمة» تحدثه بالعربية مع عمه الذي كان قد انتهى للتو من تناول الغداء مع الأمين العام للأمم المتحدة.
كما تم في العام نفسه طرد فتاة صومالية أميركية محجبة من طائرة تابعة لنفس الشركة بسبب رغبتها بتبادل المقاعد مع راكب آخر، وكذلك تم طرد عائلة عربية من طائرة لشركة «يونايتد» في شيكاغو بدون مبرر. وهذه الحالات ليست إلا أمثلة من حوادث كثيرة مشابهة تؤكد على غياب العدالة وتعكس الأوضاع التي آلت إليها الولايات المتحدة التي تنتهك شركاتها التجارية العملاقة الحقوق الأساسية للشرائح الأكثر تهميشاً في البلاد.
إن حادثة الأسبوع الماضي ليست وحدها التي تستحق الإدانة والشجب اللذين يجب أن يطالا كامل النظام الرأسمالي الممعن في التوحش، ضارباً عرض الحائط بالقيم والدستور دون أي وازع عن الهدف «الأسمى»، ألا وهو جمع الأرباح.
وأقل القليل أن يعبر المواطنون الأميركيون عن غضبهم واستيائهم إزاء هذا النوع من الحوادث التي تهين الكرامة الإنسانية، ولكن ما يصدم حقاً أن الثقافة الأميركية تعاني اليوم من شروخ وتشققات مخيفة تدل عليها بعض المواقف والآراء لمواطنين ومسؤولين يسارعون إلى لوم الضحايا والتشكيك بدوافعهم، بدلاً من تحميل المسؤولية للمتعصبين والموتورين والعنصريين.
وسائل الإعلام الأميركية كعادتها في مثل هذه الحالات، قفزت فوق الحادثة وقامت ببث تقارير عن تاريخ داو الجنائي، بينما كان الرجل لايزال راقداً على سرير أحد المستشفيات في انتظار التعافي من الإصابات البليغة التي تعرض لها من قبل عناصر الأمن، عوضاً عن فضح سلوك القائمين على إدارة الشركات الكبرى وانتهاكهم لكرامات البشر وحقوقهم دون وازع من ضمير.
وبدلاً من شن حرب إعلامية لا صلة لها بالموضوع ضد الضحية داو، كان الأحرى بوسائل الإعلام الأميركية –وكذلك الشعب الأميركي– أن يعبروا عن استيائهم وغضبهم من المعاملة غير اللائقة من قبل الشركات العملاقة لزبائنها، على الرغم أن تلك الشركات ما كانت لتكون وتنعم بالثراء الفاحش لولا الناس أنفسهم، وبالمقابل فإن أصحاب تلك الشركات والقائمين عليها باتوا يعتبرون الناس آخر همهم، وهو ما ظهر من خلال تصريحات مونوز الأولى التي أنحى فيها باللائمة على داو واعتبره سبب ما حدث لأنه قرر عدم الانصياع لأوامر مسؤولي أمن المطار وأثار الشغب بتصرفه العدواني والسلبي، قبل أن تصدر الشركة لاحقاً اعتذاراً متأخراً للطبيب وزبائن الشركة.
Leave a Reply