ما بعد هجوم الـ«توماهوك» ليس كما قبله. هذا ما تشي به، على الأقل، المواقف العابرة للقارات، على خط موسكو–واشنطن، والتي انتقلت معها لهجة التصعيد، على خلفية الضربة الصاروخية على مطار الشعيرات، إلى مستوى أكثر تقدماً.
في الظاهر بدا أن إدارة دونالد ترامب قد حققت أهدافها، عبر إظهار استعداد للقيام بتحرك سريع، في الميدان السوري الشديد الحساسية في العلاقة المتوترة أصلاً مع موسكو، حتى وإن تطلب الأمر خوض مغامرة عسكرية، تتجاوز الصواريخ التسعة والخمسين، التي أطلقتها البحرية الأميركية من شرق المتوسط، باتجاه قاعدة الشعيرات الجوية السورية في حمص.
ولكن، في الواقع، ثمة من يرى الأمور على غير نحو، فالمواقف الصادرة عن القيادتين السياسية والعسكرية في روسيا، توحي وكأن رياح «توماهوك» قد جرت بعكس ما اشتهت آلة ترامب العسكرية.
الإجراءات التي اتخذتها روسيا رداً على الضربة الصاروخية لا توحي بالطمأنينة لدى الممسكين بزمام الحكم في الولايات المتحدة، فموقف الرئاسة الروسية، إلى جانب وزارتي الخارجية والدفاع، إزاء ما جرى، عكست امتلاك الكرملين هامش مناورة واسع، من شأنه أن يُسقط قيمة كافة الأوراق التي سعت إدارة دونالد ترامب إلى امتلاكها، من خلال هجمات «التوماهوك».
صحيح أن الحديث عن «حرب عالمية ثالثة» أو حتى «انفجار كبير» في الشرق الأوسط، على خلفية ضربة «التوماهوك»، يأتي في سياق الخيال العلمي السياسي، إلا أن جملة من المؤشرات تشي بأن قواعد اللعبة تشهد تعديلات جذرية، وهو ما يتبدّى على مستويين.
المستوى الأول، يتعلق بالولايات المتحدة ذاتها، ذلك أن تلك المرّة الأولى التي تستهدف بشكل صريح أحد المواقع الحساسة التابعة للجيش السوري (إذا ما سلّمنا بمقولة أن الغارة على جبل الثردة في دير الزور خلال شهر أيلول الماضي كانت «خطأ» كما ادعت إدارة أوباما).
انطلاقاً من ذلك، تبدو رسالة «التوماهوك» واضحة، وهي أن دونالد ترامب مستعد للذهاب بعيداً في المواجهة على الأرض السورية، عبر تصرّف أحادي، يكرّس القطيعة مع نهج باراك أوباما، الذي فضّل التريّث في استخدام ورقة الكيميائي في الغوطة الشرقية لشن ضربة عسكرية على سوريا، ويتجاوز حتى النهج العدواني لجورج بوش الابن، الذي شاور حلفاءه، وحاول ضمهم إلى صفوفه، قبل أن يباشر في تنفيذ خطته لغزو العراق.
رسائل داخلية
وعلى المستوى الأميركي أيضاً، لا شك في أن هجوم «التوماهوك» يعكس بداية تحوّل في حالة الشذوذ التي اتسمت بها الأسابيع الأولى من عهد دونالد ترامب، لجهة اختلال العلاقة الداخلية بين الرئيس الجديد والمنظومة الحاكمة (الاستابلشمنت)، والتي تبدّت في أكثر من محطة، لعلّ أبرزها موقعة مايكل فلين، مستشار الأمن القومي، الذي أرغم على الاستقالة، على خلفية مواقفه اللينة مع الجانب الروسي.
انطلاقاً مما سبق، فإنّ هجوم «التوماهوك» اعاد الانسجام إلى المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، ما يحرّر يد ترامب من القيود التي سعى إلى فرضها صقور «الاستابلشمنت» من الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
ولا يغير في الأمر كثيراً، أن يكون قرار توجيه ضربة صاروخية على مطار الشعيرات، ترويضاً لترامب من قبل المؤسسة الحاكمة، بما يعني أن قرار الحرب والسلم قد عاد إلى الـ«سي أي آي» و«البنتاغون»، أو أن يكون محاولة التفاف من قبل ترامب نفسه على هذه الدوائر الأمنية والعسكرية، لتكريس زعامته، مع فارق وحيد بين الاحتمالين، وهو أن الأول يعني أن الصراع مع روسيا مفتوح على سيناريوهات أكثر تصعيداً، في حين أن الثاني يبقي الباب مواربة أمام تسوية أو حتى تفاهمات موضعية بين البيت الأبيض والكرملين.
الموقف الروسي
أما المستوى الثاني، فيتعلق بروسيا، التي لا تبدو مستعدة للمساومة على مكانتها العالمية، التي ارتفعت على نحو غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، حين تحوّلت إلى طرف شرس في الصراع الدولي، الممتد من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وهو ما جعلها تستقبل الهجوم الصاروخي على سوريا بموقف حاسم، تجاه الإدارة الأميركية، لم يخفف من حدّته الإشعار المسبق، الذي أرسله البنتاغون لوزارة الدفاع الروسية، بشأن الضربة الصاروخية، وهو إجراء احترازي لمنع أي مواجهة مباشرة بين الطرفين.
وبالرغم من أن روسيا قابلت الإجراء الاحترازي الأميركي بإجراء آخر، تمثل في عدم تفعيل منظومتها الدفاعية في مواجهة «التوماهوك»، إلا أن سيل الردود السياسية والعسكرية على الضربة الصاروخية، ربما كانت أكبر مما توقعه الأميركيون.
على المستوى السياسي والعسكري في آن أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن تعليق العمل بالمذكرة الروسية الأميركية حول ضمان سلامة التحليقات في سماء سوريا، ودعت مجلس الأمن الدولي إلى عقد اجتماع طارئ لبحث الضربة الأميركية، قبل أن تمارس دورها المعتاد في استخدام حق النقض ضد مشروع قرار غربي جديد، يفتقد إلى الحيادية بشأن سوريا.
المواقف الروسية المتدرجة، اتخذت مستويات أكثر تقدماً، خلال الأيام التي تلت هجوم «التوماهوك»، فالمسؤولون الروس أصرّوا على اعتبار ما حدث «عدواناً على سيادة الدولة السورية»، لا بل راحوا يذكرون بأن تواجد القوات الغربية في شمال سوريا –الولايات المتحدة– ليس شرعياً، بخلاف الحال بالنسبة إلى القوات الروسية، المتواجدة بطلب رسمي من السلطات السورية.
الموقف الأهم، كان عسكرياً بامتياز، وأتى متدرجاً كذلك، إذ سارعت وزارة الدفاع الروسية إلى تفحص تداعيات الغارة، لتعلن أنها «متدنية المستوى»، بالنظر إلى عدم اصابتها أهدافها المفترضة في مطار الشعيرات – وقد تردد في هذا السياق استخدام القوات الروسية منظومة تشويش الكترونية سبق أن نشرتها في سوريا – ثم ألمحت إلى أن روسيا مستعدة لتزويد الجيش السوري بطائرات ومنظومة دفاع جوي حديثة.
وكانت ذروة المواقف العسكرية في البيان الرباعي، الذي حمل توقيع القيادة العسكرية في روسيا وإيران وسوريا، إلى جانب «حزب الله»، بإدانة هجوم «التوماهوك»، في رسالة ملفتة، قال المراقبون إنها موجهة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء. وعلى هذا الأساس، تأتي ضربة «التوماهوك» لتكرس مرحلة جديدة من مراحل المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، بما يتعدى الميدان السوري.
صراع الداخل الأميركي
كان ملفتاً أن الهجوم الصاروخي أتى بعد اقل من 72 ساعة من حادثة خان شيخون، أي أن تنفيذها بهذه السرعة المفترضة، يعكس أن ثمة تلازماً محكماً بين من قام بافتعال الحادثة الكيميائية وبين من خطط للضربة الاميركية.
ومن المرجح أن تكون الضربة الصاروخية قد أتت في سياق الصراع الداخلي الأميركي، سواء ضمن الحزب الجمهوري، أو بين الرئيس ترامب والمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، فهي إما عملية ترويض لدونالد ترامب من قبل الؤسسة الحاكمة والنخبة العسكرية، أو أنها خطوة استباقية من قبل ترامب لقطع الطريق على خصومه.
وللتذكير فإن ترامب متهم بعلاقته مع روسيا، ولهذا السبب فقد أسفرت الضغوط عن إسقاط أكثر من رمز في إدارته، أبرزهم على الإطلاق مستشار الأمن مايكل فلين. وربما الساعات القليلة التي تلت هجوم «التوماهوك» شكلت انقلاباً في المناخ الداخلي الأميركي، فقد كان ملفتاً أن الضربة الصاروخية عززت موقع ترامب في الداخل الأميركي، على كافة المستويات.
تأثير ميداني
ولكن ثمة تقديرات في روسيا تشي بأن الضربة الصاروخية ربما لا تقتصر على هذا الشق الداخلي وإن كانت في صلبه.
وينطلق التحليل الروسي من واقع أن الضربة الصاروخية على مطار الشعيرات بالذات، تعني أن الولايات المتحدة عازمة على تغيير الخريطة الميدانية التي فرضتها معركة حلب، لذلك يمكن أن يكون هجوم «التوماهوك» هو رسالة لروسيا وإيران بأن معركة الشرق السوري قادمة، وهو ما تبدى في اختيار مطار الشعيرات ذي الأهمية الاستراتيجية، والذي يعد موقع إسناد أساسي للجبهة الشرقية في سوريا.
ويعد هذا المطار الذي عاد للعمل بعد ساعات قليلة من الهجوم، من أهم المعسكرات التدريبية في المنطقة، حيث يشكل 25 بالمئة من قدرة سلاح الجو السوري. ويضم نوعين من الطائرات الحربية، ميغ وسوخوي، متوزعة على ثلاثة أسراب.
ويحتوي على 40 حظيرة إسمنتية، كما يتضمن عدداً كبيراً من طائرات «ميغ 23» و«ميغ 25» و«سوخوي 25» القاذفة، ولديه مدرجان أساسيان، طول كل منهما ثلاثة كيلومترات، ودفاعات جوية محصنة جداً من صواريخ «سام 6»، وفيه مركز قيادة اللواء 22، التابع للجيش السوري.
وانطلاقاً من ذلك، فالتقديرات العسكرية الروسية تشي بأن الضربة الصاروخية قد تكون مقدمة لفتح معركتي الرقة ودير الزور.
انطلاقاً من ذلك، فإن ما جرى يجعل الملف السوري من جهة، والروسي–الأميركي على نطاق أوسع، مقبل على احتمالين، لا ثالث لهما، وهما إما استغلال ما أفرزته الضربة الصاروخية من تعزيز لقوة ترامب في الداخل، فيما يمنحه الغطاء اللازم لخطوات انفتاح جديدة على روسيا – وسط مؤشرات تبدّت في اللقاء الأخير بين سيرغي لافروف وريكس تيلرسون، أم أنها بداية لضربات عسكرية، سرعان ما قد تتطور إلى انفجار كبير على مستوى الشرق الأوسط.
الأسد: قدرات الجيش السوري لم تتأثر بالضربة الأميركية
أكد الرئيس السوري بشار الأسد في أول حديث له بعد العدوان الأميركي على قاعدة الشعيرات الجوية أن القوة النارية للجيش السوري لم تتأثر بالضربة على القاعدة المذكورة، ويقول إنه يمكنه السماح بإجراء تحقيق دولي حول حادثة خان شيخون شرط أن يكون غير منحاز.
وأوضح الأسد في مقابلة حصرية مع وكالة «فرانس برس»، أنه يمكنه السماح بإجراء تحقيق دولي حول «الهجوم الكيميائي» شرط أن يكون «غير منحاز»، لتجنّب تسييسه من قبل الخصوم.
وقال «بحثنا مع الروس.. في الأيام القليلة الماضية بعد الضربة (الأميركية) أننا سنعمل معهم لإجراء تحقيق دولي. لكن ينبغي لهذا التحقيق أن يكون نزيهاً»، مضيفاً «يمكننا أن نسمح بأي تحقيق فقط عندما يكون غير منحاز، وعندما نتأكد أن دولاً محايدة ستشارك في هذا التحقيق كي نضمن أنها لن تستخدمه لأغراض سياسية».
وأكد الأسد أن «القوة النارية للجيش السوري لم تتأثر بالضربة» التي نفذّتها واشنطن في محافظة حمص وسط البلاد. وقال «منذ الضربة، لم نتوقف عن مهاجمة الإرهابيين في سائر أنحاء سوريا»، مؤكداً أن «قوتنا النارية وقدرتنا على مهاجمة الإرهابيين لم تتأثر بهذه الضربة».
وإذ اعتبر أن الولايات المتحدة «ليست جادة» في التوصّل إلى حل سياسي ينهي النزاع الدامي المستمر في البلاد منذ أكثر من ست سنوات، مضيفاً «يريدون استخدام العملية كمظلة للإرهابيين».
Leave a Reply