في الذكرى الـ42 لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان، بتاريخ 13 نيسان 1975، فإن الوضع السياسي فيه اليوم، لا يختلف كثيراً عن المرحلة التي سبقت وقوع الفتنة التي قتلت البشر ودمّرت الحجر، وتسبّبت على مدى 15 عاماً بإنهاك اللبنانيين، بأطول اقتتال بينهم، مارسوا فيه القتل على الهوية الطائفية والحزبية، وقاموا بعمليات تهجير متبادلة، إضافة إلى زرع الأحقاد داخل المجتمع اللبناني، كما استدرجوا كل الدول إلى حربهم الداخلية، التي استخدموا الأرض اللبنانية، لمشاريعهم وخططهم للبنان والمنطقة.
غير أن اللغة السياسية التي يتخاطب بها السياسيون اللبنانيون اليوم، هي نفسها التي سادت في فترة ما قبل الحرب–الفتنة، كونها تحمل عناوين طائفية بحتة، إذ يدور الحديث اليوم عن «حقوق المسيحيين» التي ينادي بها «التيار الوطني الحر» على لسان رئيسه الوزير جبران باسيل، كما قبله في مواقف مؤسسه العماد ميشال عون الذي أصبح رئيساً للجمهورية، وهو الذي قال بعد العودة للعمل بقانون الانتخاب للعام 1960، بأن «الحق عاد إلى أصحابه»، قبل أن يرفض أن تجري الانتخابات على أساسه مجدداً، باعتبار أنه لم يؤمّن «الحقوق للمسيحيين» إذ تبيّن أن نصف النواب المسيحيين لا ينتخبهم المسيحيون بأصواتهم، مما يعني أن تمثيلهم غير صحيح، فكان المشروع الأرثوذكسي، بأن تنتخب كل طائفة نوابها، لتحقيق المناصفة الفعلية التي تحدّث عنها الدستور.
هواجس طائفية
الكلام بلغة «حقوق المسيحيين»، أيقظ الشعور بالغبن الطائفي، الذي يتفاقم نفسه عند الطائفة السُنّيّة بحديث بعض أركانها السياسيين والروحيين، عن «مظلومية» تلحق بها، ليس بالصلاحيات التي عززها الدستور بعد اتفاق الطائف، بل بـ«السلاح غير الشرعي» الذي بحوزة «حزب الله» الذي سبق أن أسقط رئيس الحكومة سعد الحريري بالثلث الضامن باستقالة 11 وزيراً من حكومته (٢٠١١)، وهو الممثل السياسي للسُنّة ولديه أكبر كتلة نيابية، وقد تم استبداله بالرئيس نجيب ميقاتي، إضافة إلى اتّهام الحريري لـ«حزب الله» بالتورط باغتيال والده استناداً إلى قرار اتهامي صادر عن المحكمة الدولية، التي ساهمت بإثارة الغرائز المذهبية، واحتقان الشارع الذي شهد منذ العام 2005، توترات واشتباكات مسلحة واعتصامات، إلى أن تمّ إيجاد تسوية الدوحة بعد أحداث 7 أيار 2008، التي أدت إلى ربط النزاع بين «تيار المستقبل» و«حزب الله»، وفتح حوار بينهما قبل أن يتأجج الخلاف لاحقاً حول سوريا، حيث يقاتل «حزب الله» اليوم إلى جانب النظام منذ أربع سنوات ضمن محور روسي–إيراني، في وقت يناهض «تيار المستقبل» النظام ويدعو إلى إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، ويقدم كل ما يمكن لما يسمى «ثوار سوريا»، من ضمن محور خليجي–إقليمي–غربي.
وإذا كان السُنّة يتحدثون عن مظلومية يسببها لهم «حزب الله» بما يمثّل على الصعيد الشيعي، بتحالفه مع حركة «أمل»، وتلويحهما بالمثالثة التي تعطيهم حق المشاركة الفعلية في السلطة، والتي تمّ التعبير عنها بمرحلة عهد الرئيس إلياس الهراوي وما سمي بـ«الترويكا»، ثمّ بالثلث الضامن في حكومات ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي شارك فيها «حزب الله»، يتخوّف «تيار المستقبل» من الدعوة إلى المثالثة لأنها قد تطيح باتفاق الطائف، الذي أعطى مشاركة فعلية لرئيس الحكومة في السلطة، ولم يعد «باشكاتب» عند رئيس الجمهورية وما يمثّله من «مارونية سياسية».
وبالرغم من أن اتفاق الطائف أرسى السلم الأهلي، وفتح باب الإصلاح السياسي للنظام، فإن الطوائف مازالت تتحدث عن هواجس لديها، وهو ما ظهر لدى الطائفة الدرزية التي بدأ قادتها يشيرون إلى تهميش لهم، من خلال وزارات ليست سيادية، كانوا يحصلون عليها قبل الطائف، إضافة إلى محاولة تحجيم يشعر النائب وليد جنبلاط أنه مستهدف به، من خلال قانون انتخاب يطالب أن لا يكون على أساس النسبية.
إصلاحات الطائف
هذه اللغة الطائفية التي يتكلّم بها مَن هم في السلطة، تعيد إلى ذاكرة اللبنانيين، السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية، وهو ما يثير قلقهم في ظل الخلاف على قانون الانتخابات النيابية، الذي يريده كل فريق طائفي على قياس «حقوقه» و«هواجسه»، مما أفقد اللاعبين السياسيين في لبنان، وكلهم زعماء طوائف، القدرة على صناعة قانون انتخاب يُخرج لبنان من الحالة الطائفية، علماً بأن اتفاق الطائف ينصّ على أن يصدر قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، وأن ينشأ مجلس شيوخ، بدأ الخلاف حول رئاسته، إذ طالب الوزير باسيل بأن يكون لمسيحي، كي يتحقق التوازن أو المناصفة، إذ أن رئيسي مجلس النواب والحكومة هما مسلمين على مذهبي السُنّة والشيعة، ورئيس الجمهورية مسيحي–ماروني، فيكون رئيس مجلس الشيوخ مسيحياً والأرجح أرثوذكسياً، ليحصل التعادل الطائفي، وهو ما ترك ردّ فعل قوي من كل القيادات الدرزية على اختلاف مشاربها السياسية، على رفض طرح باسيل، والتأكيد على أن رئاسة مجلس الشيوخ أعطيت في الطائف لدرزي عُرفاً كما هي باقي الرئاسات موجودة في العُرف وليس بالدستور.
وهذا يبيّن على أن الطائفية التي طالب اتفاق الطائف، بتشكيل هيئة وطنية لإلغائها، فإن خطابها يرتفع، كما تتصاعد المطالبة باعتمادها في الوظائف التي طالب أيضاً إتفاق الطائف بإلغائها مع المحافظة عليها في وظائف الفئة الأولى، دون تقييد مراكزها لطوائف أو مذاهب حصراً، وجرت محاولات حصلت فيها عملية تبديل في بعض الوظائف، وأن تعتمد الدورية في التوزيع، إلى أن عادت لغة الغبن اللاحق بالطوائف تظهر، وبات الخلاف، على تعيين ضابط أو قاضٍ أو موظف في هذا الموقع أو ذاك وهذه المنطقة أو تلك.
حافة الهاوية
إنها حافة الهاوية التي تحدّث عنها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، وتخوّف من السقوط فيها، كما حذّر الرئيس نبيه برّي من المجهول، وأشار النائب وليد جنبلاط إلى المأزق، ويبدي الرئيس الحريري قلقه من الوضع في حين يهدّد «التيار الوطني الحر» باللجوء إلى الشارع مع قوى مسيحية أخرى كـ«القوات اللبنانية» و«الكتائب» وغيرهم إذا تمّ التمديد لمجلس النواب، في وقت يحذّر «الثنائي الشيعي» من الوصول إلى الفراغ في مجلس النواب، وتمّ إبلاغ رئيس الجمهورية من قبل «حزب الله»، أن فراغ السلطة التشريعية خط أحمر، فلجم عون تلويحه بالفراغ مع تصميمه على رفض العمل بالقانون الحالي للانتخاب، أو التمديد، والإصرار على إنتاج قانون انتخاب جديد، لم يتم التوصل إليه بعد.
وقد بدأ الرئيس عون تحركه بعقد جلسة للحكومة، لوضع قانون انتخاب، عسى أن يتم الإتفاق عليه قبل 18 نيسان، وهو الموعد الأخير لدعوة الهيئات الناخبة، وإلا التمديد القسري الذي بات امراً واقعاً بعد تقديم النائب نقولا فتوش اقتراح قانون معجل مكرر للتمديد لمجلس النواب للمرة الثالثة ودعوة الرئيس بري إلى جلسة تشريعية، الذي إذا تمّ الرد عليه في الشارع كما هدّد باسيل، فإن حركة «أمل»، لن تقف مكتوفة الأيدي، وإذا ردّ رئيس الجمهورية قانون التمديد وطعن به أمام المجلس الدستوري الذي أقرّ بدورية الانتخابات، وهو ما سيضع لبنان أمام حافة الهاوية.
مهلة شهر
وأمام الوضع السياسي المعقد استعمل رئيس الجمهورية الأربعاء الماضي نص المادة 59 من الدستور التي تعطيه الحق بتأجيل انعقاد مجلس النواب إلى أمد لا يتجاوز شهراً واحداً، في مسعى منه لتأمين مزيد من الوقت للتوصل إلىتفاهم على قانون جديد تحت سقف النسبية، دون اللجوء إلى التمديد للمجلس النيابي.
فمع استذكار اللبنانيين للحرب، لاسيما مَن كانوا جيلها، فإن الخوف من أن تتجدّد، هو احتمال وارد، وهي تخاض باردة منذ 12 عاماً، وربما تتحوّل ساخنة، إذا فرّط الأطراف اللبنانيون بالسلم الأهلي، ولم يتوافقوا على تطوير نظامهم السياسي، الذي يبدأ من قانون الانتخاب الذي على أساسه تتكون السلطة التي مَن هم فيها ومنذ عقود، لا يريدون إحداث تبديل أو تداول فيها يهدد نفوذهم ومكاسبهم، في وقت يتحرّك المجتمع المدني رافضاً للطبقة السياسية، التي هي تتحدث عن نفسها ما ترتكبه من فساد في مؤسسات الدولة، وهدر للمال العام، واستغلال للسلطة. وكانت المساءلة في مجلس النواب للحكومة الحالية، والمشكلة من غالبية الكتل النيابية، فضيحة كبرى شاهد المواطن اللبناني وغيره، كيف أن السلطة تسأل نفسها عن السرقات والرشاوى وحشد الأزلام والمحاسيب في إدارات الدولة، بحيث اختتمت جلسات المساءلة على «تصبحون على خير»، دون تحديد أسماء السارقين والفاسدين والمرتشين، وإسم الوزير الذي يقبض ثمن توقيعه عشرة ملايين دولار.
الحريق السوري
إن المشهد السياسي في لبنان، هو نفسه منذ الاستقلال في العام 1943، وإن مَن يعود إلى الأرشيف يقرأ ويسمع العبارات نفسها حول الفساد والهدر والمحسوبية ودولة المزرعة وغياب المؤسسات وعدم فعالية القضاء واستقلاليته عن السلطة السياسية، إلى المطالب الشعبية والنقابية نفسها، مع استمرار حالات الفقر وازدياد نسبته، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وخريجي الجامعات والمعاهد، ومن ثمّ الدعوة إلى إصلاح النظام.
إن الجمر تحت الرماد في لبنان، وبات الأطراف اللبنانيون، يتخوّفون من الانزلاق نحو حرب أهلية حذر منها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم إذا ما تدحرجت الاوضاع الداخلية ومن ضوابط وتسارع التطورات في سوريا والمنطقة وأنهم يصنعونها بأنفسهم طالما هم غارقون بطائفيتهم، متشبّثون بمصالحهم ورافضون لإصلاح النظام السياسي.
وما يزيد من القلق عند اللبنانيين، أن الحريق في سوريا لم يخمد، وأن استخدام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، للقوة العسكرية فيها، يذكّر بأيام الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الذي رسم خارطة للمنطقة تحت إسم «الشرق الأوسط الجديد»، وقد يدفع لبنان الثمن في تصارع المصالح، وتتحوّل أرضه إلى صراع الدول أو الآخرين عليها، وجرى تحييده في كل السنوات التي حصل فيها «الربيع العربي»، فهل تدخل الفتنة إليه، من باب قانون الانتخاب أو الفراغ في مجلس النواب؟
Leave a Reply