يقول الإعلان الوارد في النشرة الصادرة عن متحف «كروكر» للفنون في مدينة ساكرمنتو، كاليفورنيا، التي أعيش فيها مع أسرتي، إن معرضاً للصور سيقام تحت عنوان «نظرتان»، إحياءً للذكرى السنوية الخامسة والسبعين، لإصدار المرسوم التنفيذي رقم 9066، الذي حمل توقيع الرئيس فرانكلين ديلينور روزفلت، في التاسع عشر من شباط (فبراير) 1942، والذي أمر (أو سمح) بإنشاء معسكرات لاعتقال الأميركيين والمقيمين من ذوي الأصول اليابانية في إطار تجليات الحرب العالمية الثانية.
يوضح الإعلان أن عنوان المعرض «نظرتان» يشير إلى أن الصور المعروضة تتناول تجربة الاعتقال التعسفي لليابانيين وذوي الأصل الياباني في كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا، بعدستي المصورين الصحفيين؛ الأميركي انسيل آدامز والكندي ليونارد فرانك. لم يفوت الإعلان الإشارة إلى أن المعرض يوفر نظرتين إلى الاعتقال والسجن الجماعي في مطلع أربعينيات القرن العشرين ويمنح فرصة للتأمل في «السياسات الرجعية والعنصرية والإبعاد القسري والنتائج المحققة على الضحايا».
قرأت الإعلان أول الأمر بشكل عابر على الإنترنت وتجاهلته، إلاّ أن النص المكتوب في النشرة التي تصل إلى بيتنا بريدياً كون اسرتي من أعضاء المتحف الدائمين، استوقفني لبرهة. خلال عملي الصحفي والعام في أميركا لأكثر من ثلاثين سنة، لم تكن فكرة معسكرات اعتقال مخصصة للعرب غائبة كلياً عن النقاش. منذ تفجير مقر قوات مشاة البحرية الأميركية «المارينز» قرب مطار بيروت، ثم خطف طائرة «تي. دبليو. أي» بدأ الهمس في بعض الدوائر اليمينية التي كانت تنتشي في حينه بزعامة رونالد ريغان، وتتغذى بالمعلومات المثيرة للحنق من المؤسسات المتخصصة المؤيدة لإسرائيل، حول احتمال زج بعض العرب (يومها كان التركيز على الشيعة، ربطاً بالعامل الإيراني، وتذكيراً برهائن السفارة الأميركية في طهران وأيامهم العصيبة في الأسر)، إلّا أن الصعود العدائي (بعد رومانسية المجاهدين في أفغانستان) لتنظيم القاعدة ومباشرته استهداف المنشآت والقوات الأميركية، خصوصاً بعد الهجومين الكبيرين على سفارتي أميركا في نيروبي (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا) عام 1998، واستهداف السفينة الحربية «يو. أس. أس. كول» في خليج عدن عام 2000، وحد المذهبين الإسلاميين الكبيرين كهدف محتمل للاعتقال، ومهد للحديث العلني عن ذلك بعد هجمات 11 أيلول الإرهابية على واشنطن ونيويورك عام 2001.
تمنّيت في تلك اللحظة لو أني لا أزال مراسلاً لصحيفة محلية، عندها يمكنني أن أذهب إلى حفل الافتتاح وأتولى تغطية الخبر وإشباع فضولي. لم يكن ذلك متاحاً، إلّا أن الفكرة لم تبارح ذهني. ثم جاءت التغطية المحلية للخبر. لم يكن في وسعي تجاهل التقرير الذي افردت له الصحيفة الرئيسة «ساكرمنتو بي» الكثير من صفحتها الأولى بقلم الزميل والصديق الإيطالي الأصل ستيفن ماغنيني، الذي اتقاطع معه مهنياً في مؤسسة «نيو أميركا ميديا» التي تعنى بشؤون الإعلام الثنائي اللغة، وتحرص على تنمية الذاكرة الجمعية للمجتمعات المهاجرة والجماعات الإثنية. كان الزميل ماغنيني يقوم بما تمنيته، ويضيف عليه النفس الليبرالي التعددي الإنساني الذي يليق بالقرن الحادي والعشرين.
أسئلة معلّقة في زمن ترامب
في تقرير استهله بالقول «إن متحف كروكر تحول إلى معبد للتاريخ الحي» تناول ماغنيني مأساة اعتقال يابانيي الأصل بمنظور شامل تجاوز وقائع احتفالية اليوم الطويل للافتتاح بحضور حوالي 4000 شخص بينهم عدد من ضحايا الاعتقال الذين كانوا أطفالاً في حينه، ليطرح السؤال الذي كان يلح علي: «ماذا عن الآن؟». نقل عن المعتقل السابق هاري نوغوتشي (81 عاماً) الذي كان نزيلاً في معتقل «تولي ليك» في كاليفورنيا، والذي أرشده إلى صورته في المعرض، القول إنه كان على وشك «أن يسامح أميركا على ذلك، لكن غضبه اشتعل مجدداً بسبب الرئيس دونالد ترامب الذي قال لمجلة «تايم» خلال حملته الانتخابية انه غير متأكد مما إذا كان سيوافق على اعتقال اليابانيين الأميركيين أم لا».
يقترب ماغنيني من الفكرة التي تشغلني ويطرحها بجلاء مع كريستين يوميدا المعتقلة السابقة أيام كانت في الثالثة من العمر والتي قالت إنها تطوعت بعد هجمات الحادي عشر من أيلول للتواصل مع أميركيين مسلمين وتنظيم زيارات دورية إلى معتقل مانازار، أكبر معسكر في كاليفورنيا، وإقامة نشاطات دائمة في الكنيسة البوذية في ساكرمنتو تحت شعار «لن تتكرر».
وينقل عن عضو مجلس نواب كاليفورنيا دوريس ماتسوي التي ولدت في المعتقل بعد أن التقى أبوها وأمها (اللذان كانا برفقتها) بعضهما في معسكر بوستون في ولاية أريزونا ملاحظتها التشابه بين مرسوم روزفلت قبل 75 سنة وبين مرسوم ترامب الأخير وقولها: «أحيانا يعيد التاريخ نفسه والمسألة واضحة للجميع». ولاحظت ماتسوي أن كلاً من روزفلت وترامب برّرا مراسيمهما التنفيذية باسم مصلحة الأمن القومي، متسائلة كيف يكون زوجها الراحل الذي دخل المعتقل وعمره ستة أشهر تهديداً للأمن القومي؟
هذا سؤال وجيه ضمن جملة من الأسئلة المقلقة التي أثارها وصول ترامب إلى الرئاسة، وتالياً حقيقة القبول النخبوي والشعبي أميركياً بمنطقه وسياساته.
إذا كان روزفلت الذي يتبوأ مكانة متقدمة بين الليبراليين حتى الآن، والذي يتهمه المحافظون بأنه اشتراكي وغير وطني، والذي مهّد دون ريب لانطلاق مسيرة الإصلاح السياسي الهادف إلى المزيد من المساواة الدستورية والقانونية والحقوق المدنية للأميركيين، إذا كان هو من دبج وأصدر المرسوم الشهير، فكيف سيكون الحال مع ترامب العنصري القومي الوقح والذي يستثمر في التحريض ضد المهاجرين والملونين والنساء والمسلمين وكأنه في لعبة مسلية؟
ربما لروزفلت أسباب تخفيفية، إذ هو كان يقود أميركا في حالة حرب، وفي حقبة كان الولاء القومي فيها عاملاً يعتد به، وهذه الأسباب انتفت الآن. ليست لهذه المقولة، بنظرة استرجاعية، أية أرجل لتقف عليها. وكثيرة هي المعطيات التي تؤكد هذا النفي، فالمرسوم الذي أصدره روزفلت شأنه شأن مرسومي ترامب، عنصري في أساسه وعنصري في مندرجاته وعنصري في تطبيقه. في مستهل الحرب العالمية الثانية كان عدد الأميركيين والمقيمين من أصل ياباني في أميركا القارية (بلا هاواي) حوالي 120 ألف نسمة. عندما صدر المرسوم جرى تجميعهم على الفور من حديثي الولادة إلى المسنين ونقلهم إلى معسكرات اعتقال أقيمت على عجل ولم يسمح لهم بأن يأخذوا معهم الا ما يمكنهم حمله فقط. هكذا حصل، وتم توزيعهم على اكثر من ثلاثين معسكراً انتشرت في كاليفورنيا وأريزونا ونيفادا وأيداهو وكولورادو ويوتاه وأركسنو ولم تكن تحت إدارة واحدة حيث كانت تتبع كلاً على حدة من وزارة الحرب، وزارة العدل، ومصلحة السجون ودائرة الهجرة ولكل منها انظمتها الخاصة.
عنصرية فاقعة
في الوقت نفسه كانت ألمانيا وإيطاليا في حالة حرب مع الولايات المتحدة وكانت أعداد المنحدرين منهما أكبر بكثير، كما كانت هجمات قواتهما وخصوصاً ألمانيا لا تقل دموية أو ضرراً عن هجمات اليابان. كان عدد المهاجرين حديثاً من إيطاليا يناهز الـ700 ألف مهاجر معظمهم من الشباب والرجال، وكان الملايين من حملة الجنسية من ايطاليي المولد أو من نسلهم، لكن ترجمة مرسوم الاعتقال «الاحتياطي» اقتصرت على 1881 شخصاً فقط غالبيتهم من الطلاب المبتعثين والدبلوماسيين والتجار الذين صودف وجودهم في أميركا ممن ليست لديهم إقامة دائمة وكان الباقي من المعروفين بولائهم المباشر لديكتاتور إيطاليا في حينه بنيتو موسوليني، والناشطين بفعالية في صفوف الحركة الفاشية.
أما الألمان الأكثر عدداً فكان من بينهم 1.2 مليون مقيم من المولودين في المانيا، وكان هناك خمسة ملايين أميركي ينحدرون من ابوين من أصل الماني، وستة ملايين من عائلات أحد الوالدين فيها الماني، وأكثر من ذلك ممن في عروقهم نسب مختلفة من الدم الألماني. شمل الاعتقال الاحترازي في الحالة الألمانية 11 ألفاً فقط هم بالإضافة إلى غير المقيمين بصفة دائمة من طلاب ودبلوماسيين وتجار، غلاة الموالين لأدولف هتلر والنشطاء البارزين في الحركة النازية.
هذه صورة مختلّة. 120 ألف من أصل ياباني أولاد البعض منهم يخدمون في القوات المسلحة الأميركية على قدم المساواة مع أقرانهم من أبناء الإثنيات الأخرى، يساقون جميعاً إلى معسكرات الاعتقال، حتى الأطفال الذين تم تبنيهم من عائلات غير يابانية كان مصيرهم الاعتقال بصرف النظر عن مدة هذا التبني. وكانت أية نسبة من الدم الياباني كافية كسبب للاعتقال حتى لو كانت من الأجداد. ثلاث سنوات ونصف لم توجه لأحد منهم تهمة، لم يثبت على أي منهم أي شبهة تعاون مع بلد المنشأ، ولم يكن يحق لهم حق الاعتراض على وضعهم، ومن يعترض ينقل على الفور إلى معسكرات خاصة للمعتقلين الخطيرين، لينضموا إلى رافضي الخدمة العسكرية الإجبارية من أبناء جاليتهم.
هذه صورة مختلة كل ما فيها عنصري. سياسة تقوم على تمييز الآخر، والآخر هنا ليس في الهوية الوطنية أو بلد المنشأ. الآخر هنا هو الذي يختلف في الشكل فيسهل التعرف إليه، ويختلف في الثقافة فيسهل التشكيك فيه، ويختلف في الديانة فيسهل التحريض عليه. هو الآخر بمواصفات جلية. لا أصل مشترك، ولا تاريخ مشترك، ولا قيمة لتجربة مشتركة يمكن الإطاحة بها بمرسوم. هو الآخر الذي يجعل العنصرية أسهل… تماماً كما كان الأفريقي الأسود البشرة المجعد الشعر الذي كانوا لا يسمون شعره شعراً بل يسمونه صوفاً ليكون صاحبه بالتالي اقل إنسانية من صاحب الشعر ولو كان أصلع.
كم يشبهنا ذلك الآخر. فينا كعرب، لا يفرق العنصري بين المسلم والمسيحي في ذلك، ولا يهمه أن يفرق. (دفعت عائلة عربية أميركية مسيحية من آل جبارة في تولسا بولاية أوكلاهوما حياة إبنها خالد (37 عاماً) ضحية عنصرية جار ابيض الصيف الماضي، بعد تلكؤ الشرطة المحلية في حماية العائلة التي سبق أن تعرضت الأم فيها لمحاولة دهس من الجاني نفسه قبل أشهر من ذلك، لأنه يكره اللبنانيين والعرب والمسلمين).
فينا كل مواصفات الآخر، ملامح مختلفة، سحنة مختلفة، ثقافة مختلفة، لغة مختلفة، وديانة مختلفة (معظم الكنائس العربية كنائس مشرقية، ولا وجود فاعل ديموغرافياً للإنجيليين). إن أضيف إلى ذلك عامل الخوف وسياسة التخويف، ومشاهد التذابح «الأهلي» في الوطن الأم يصبح معسكر الاعتقال أقرب إلى الحقيقة الداهمة منها إلى الذكرى العابرة… كان عليّ أن أذهب.
زيارة إلى هواجس المستقبل
في الطريق القصيرة من بيتي إلى المتحف، تصورت وأنا خلف مقود السيارة أني ذاهب إلى حيث يمكنني أن أنظر إلى مستقبلنا العربي الأميركي بمرآة خلفية يابانية الصنع.
لم تكن مهمة سهلة، لم أكن أعرف المردود المهني للزيارة. كانت في الأصل زيارة شخصية، شخصية إلى حد محاولة التخلص من الشعور بالضيق والتوتر وأنا أبرز بطاقة عضوية العائلة في المتحف لموظفة الاستقبال التي أبلغتني، رداً على سؤالي عن المعرض الياباني، أن هناك ثلاثة معارض يابانية في الوقت نفسه، واحد عن فن الخزف الياباني المعاصر، والثاني عن التجربة اليابانية الأميركية ما بين عامي 1876 و1970 بعنوان «نقاط التقاء»، والثالث، المعرض الذي أريده.
على جدران قاعتين متصلتين انتشرت بترتيب تسلسلي 66 صورة بالأسود والأبيض، 40 منها عن المعتقلات الأميركية لآدامز و24 صورة عن المعتقلات الكندية لفرانك. على مدخل الغرفة الأولى والأفسح جدارية خطية توجز تاريخ معسكرات الاعتقال في الغرب الأميركي وصولاً إلى كاليفورنيا والساحل الغربي، تليها صور قليلة للحياة اليومية لبعض العائلات اليابانية الأميركية التي كان جل اهتمامها بالزراعة. ينتهي الجدار وتنتقل الصور إلى شاحنات عسكرية تجمع العائلات كما هي وتسير بها في طوابير تنتهي إلى الجدار الثالث حيث حياة المعتقل.
عائلات بأكملها تفترش الأرض أو تجلس على أسرة حديدية تتكوم حولها شنط وصرر وثياب حملها المعتقلون من بيوتهم. تدخل اللقطات إلى تفاصيل الحياة اليومية للعيش في معتقل. غرفة مخصصة لتعليم الأولاد بلا لوح ولا مقاعد ولا قرطاسية، أطفال في بداية حياتهم، ومسنون أتعبهم الانتظار.
لم تختلف صور الغرفة الثانية إلا في أسماء المعتقلات التي أقامتها السلطات الكندية في مقاطعة بريتش كولومبيا لاحتجاز الجالية اليابانية في كندا التي يبلغ عدد أفرادها 22 ألفاً كان مصيرهم جميعاً الاعتقال بصرف النظر عن العمر أو الجنس أو الوضعية القانونية.
صورة عن التعسف بأحط اشكاله، يقابلها إصرار عنيد على الحياة بين المعتقلين، الذين –وإن لم يعرفوا لماذا هم هناك وإلى متى– كانوا موقنين أن عليهم أن يمارسوا الحياة بما تيسّر.
درس يجب ألا يُنسى
حاذرت في البداية التحدث إلى أي من زوار المعرض. كانت الغالبية الواضحة من يابانيي الأصل، كانوا من مختلف الأعمار، وكانوا كما تظهرهم الصورة النمطية يدققون في الصور بتفاصيلها يتمعنون في النظر إليها، يلتقطون لها صوراً بكاميراتهم أو كاميرات هواتفهم، وكان النقاش بصوت منخفض لا ينقطع أمام الصور الكبيرة من المعتقلات.
تخلّيت عن حذري وقدّمت نفسي إلى سيدة اسمها ترايسي ساوير تشرح لطفلتها ذات الأعوام الأربعة كيف عاش أهلها في معتقل مانزانار الذي تقف أمام صورته. قالت إنها تشعر بالحزن عندما ترى صوراً كهذه، وإن هذا الدرس في التاريخ الأميركي يجب أن لا يُنسى لأن عشرات آلاف الأبرياء دفعوا ثمناً عنصرياً باهظاً لإثنيتهم، وأنها تستبعد أن يحصل الأمر نفسه للعرب والمسلمين لأن «المفروض أننا تعلمنا الدرس».
يوافق هنري وهو في العقد التاسع من العمر على استبعاد سَوق العرب والمسلمين إلى المعتقلات، مراهناً على وعي الحكومة كمؤسسة لحجم الخطأ الذي حصل ولأن مفهوم المواطنية تغير كثيراً، ولأن «دونالد ترامب شخص واحد لا يمكن أن يملي إرادته على أميركا».
لكن فتاة أميركية بيضاء تدعى لين، وهي طالبة في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية تشكو من أن هذا التاريخ لا يتم تعليمه بشكل واف في المدارس، وتعتقد انه لا ضمان من عدم تكراره «ما دمنا غير مستعدين لمواجهته بجرأة».
وامام صورة تظهر أطفالاً يعملون في المعتقل فيما يشبه أعمال سخرة وقفت سيدتان مسنتان لم تترددا في اعلامي أنهما كانتا في المعتقل كطفلتين وتعارفتا هناك ولا تزالان صديقتين حتى اليوم. تشكو احداهما من عدم وجود صورة مفصلة لمعتقل «تولي ليك» الذي كانتا فيه، وتعرب عن استيائها من عودة لهجة التحريض والعداء ضد المهاجرين وبعض المجموعات الإثنية وتقول بشيء من الغضب «علينا أن نتعلم».
سألتهما عن أكثر ذكرياتهما رسوخاً عن مرحلة الاعتقال فقالت الأولى إن الجنود حين أتوا إلى بيتهم لاعتقالهم أبلغوهم أن السبب هو أنهم يابانيون وإنه لا يمكنهم أن يأخذوا من البيت سوى ما يمكنهم أن يحملوه بأنفسهم. حمل جواب الثانية المصحوب بتنهيدة تشبه الغصّة. قالت هل تعرف أن الشبان اليابانيين الأميركيين الذين كانوا يخدمون في القوات المسلحة الأميركية كانوا يأتون إلى المعتقلات لزيارة عائلاتهم عندما كانوا يعودون في إجازاتهم القصيرة. لم يكن أي منهم يجرؤ على الاعتراض أو حتى السؤال».
موقف معبّر
لم تبخل عليّ زيارة المعرض بموقف معبّر يليق بها. لاحظت وأنا اتحدث إلى من التقيت من الزوار أن سيدة بيضاء متوسطة العمر تلاحقني بنظراتها وتحرص على البقاء على مسافة قريبة مني. لم أهتم للأمر اولاً، لأن مساحة غرفتي المعرض صغيرة نسبياً وكل الزوار يرون بعضهم، الا أن تركيز نظرها واهتمامها على حركتي جعلني أعتقد أنها ترغب في التحدث إليها من باب الفضول أو حب الظهور الإعلامي.
كانت مقابلتي الأخيرة مع عائلة مسلمة من أصل هندي، رجل وزوجته المحجبة وولديهما، أولهما في السابعة من العمر. قال الرجل واسمه شاه ويعمل مهندس كمبيوتر إنه جلب اسرته إلى المعرض ليرى أولاده شيئاً من تاريخ أميركا، وليرى هو بنفسه ذلك التاريخ. سألته أن كان يخشى مصيراً مشابهاً في ظل إدارة ترامب، فقال لا، لأنه يؤمن بالله ويؤمن بأن الله لن يسمح بذلك.
ما إن أنهيت حديثي إلى تلك العائلة حتى اقتربت مني السيدة البيضاء المتوسطة العمر وسألتني هل أنت مراسل، أجبتها بالإيجاب. سألتني لمن تعمل، أجبتها بأني أكتب لصحيفة في ديترويت، ميشيغن، ولأخرى في بيروت، لبنان.
سألتها إن كانت تريد أن تتحدث إليّ حول المعرض فوافقت بحماس، وسألتني ماذا تريد أن تعرف، بادرتها بالسؤال الذي طرحته على الكل: لماذا أنت هنا وماذا يعني لك المعرض؟ فاجأني الجواب «أنا هنا لأمضي عصرونية هادئة مع الفن!». انتبهت على الفور أنها في صدد اعلان موقف سياسي لم يتأخر. توجهت اليّ بلهجة ناهية: «لماذا تسأل الناس عن السياسة في معرض فني؟» اجبتها بأن الجو السياسي القائم يجعل معرضاً من هذا النوع مسألة راهنة خصوصاً في ظل رئاسة ترامب.
ما إن ذكرت اسم الرئيس حتى بدأ الخطاب الذي يسمعه من شاء من الأميركيين على شبكة «فوكس نيوز» ابتداء من أن ترامب يريد حماية البلد وحماية الحدود وتطبيق القانون وأن من ليس عليه شيء ولا يضمر شراً، لا ينبغي أن يخاف، وأن الصحافة (وأنا منهم قالتها تكراراً) تحاول ترويج أخبار ملفقة وكاذبة لأنها تكره أميركا والقيم الأصلية للأمة، واني إذا كنت خائفاً على مصيري ومصير جماعتي (كما فهِمت من اسئلتي للآخرين) فما عليّ إلا العودة من حيث أتيت ومغادرة أميركا.
عند هذه النقطة قاطعتها وقلت لها إن أميركيتي لا تقل عن مواطنيتها وإن الأميركيين حين لا يقبلون وضعاً ما ينخرطون في الشأن العام ويغيرون قيادتهم وهذا ما سيكون مع ترامب. انفعلت من قولي وهددتني بانها ستبلغ عني إدارة المتحف لإخراجي من المعرض.
في أقل من دقيقتين، اقترب مني أحد موظفي الأمن في المتحف وأبلغني أنه لا يمكنني تدوين ملاحظات أو التحدث إلى الزوار في المعرض وأن عليّ أن أغادر القاعة لأني انتهكت سياسة المتحف.
لم يكن لدى الموظف الأبيض الذي يبدو من مظهره أنه شرطي متقاعد جواب عن ماهية السياسة التي انتهكتها، واكتفى رداً على سؤالي بالقول هكذا طلب مني المسؤول في المكتب.
توجهت على الفور إلى مكتب الإستقبال وطلبت الحديث مع المسؤول المناوب. أبدت السيدة التي قدمت نفسها كمسؤولة إدارية دهشتها مما حصل، اتصلت على الفور بمسؤول الأمن الذي حضر بسرعة ونفى أن يكون قد طلب إخراج أحد من المعرض. بثقة وحزم طلبت مني المسؤولة أن أعود إلى قاعة المعرض وأواصل زيارتي، وأن أبلغها إن تعرض لي أحد.
عدت إلى قاعة المعرض لأجد الموظف الذي طلب مني المغادرة ينتظرني ليفتح لي الباب ويعتذر، ويطلب مني أن أسامحه وأتفهم موقفه لأن السيدة التي هددتني بالطرد كذبت عليه وبلّغته أني كنت أزعج الزوار وأحاضر في السياسة وأنه تصرف بمفرده.
في طريق مغادرتي للمتحف بعد انتهاء الزيارة، حرصت المديرة المناوبة على التأكد من أن بقية الزيارة مرت بسلام. اعتذرت مني مجدداً وقالت وكأنها تكمل حديثاً بدأناه «لهذا السبب بالضبط نقيم مثل هذه المعارض… المسألة ليست انعاشاً للذاكرة، المسألة هي أن نتعلم الدروس المناسبة… هذه هي أميركا قبل كل شيء».
دروس من التاريخ
جميل أن يستعيد المرء ذكرياته الجمعية في جو آمن ليس فيه خشية مما هو أسوأ. هذا إن صح على اليابانيين الأميركيين، هل يصح على غيرهم من ضحايا المستقبل المحتملين؟ الحكومة الفدرالية بدأت شيئاً من المصالحة مع الذات أيام الرئيس جيمي كارتر، في أواخر سبعينات القرن الماضي، وشرعت في مراجعة تلك الحقبة، عبر لجنة شكلها الرئيس وأكملت أعمالها في عهد خلفه رونالد ريغان الذي وقّع في العام 1988، قانون «الحريات المدنية» الذي قدم اعتذاراً رسمياً إلى اليابانيين الأميركيين وضحايا معسكرات الاعتقال معترفاً بأن تصرفات الحكومة كانت قائمة على التمييز العنصري وهستيريا الحرب وفشل القيادة السياسية، وأقر تقديم 20 ألف دولار كتعويض لكل من الناجين من معسكرات الاعتقال ممن هم على قيد الحياة أو لأولادهم، وبلغ مجموع المستفيدين من التعويضات 82219 شخصاً تلقوا ما مجموعه مليار وستمئة مليون دولار.
لكن التاريخ الأميركي بقديمه وحديثه لا يؤكد البتة تعميم دروس التجارب التي تمر بها البلاد، حتى ليبدو أحياناً أن ما تمر به أية مجموعة إثنية سيتكرر مع المجموعة التالية، فيما يتحول ضحايا الأمس إلى جزء من سلطة اليوم.
أول تشريع أميركي لمنع السفر إلى أميركا وعرقلة إجراءات الحصول على الإقامة الدائمة والجنسية استهدف في مطلع العقد الثاني من القرن التاسع عشر رعايا الدولة الفرنسية التي كانت السند الأكبر للآباء المؤسسين في ثورتهم وفي حرب الاستقلال، قبل جيل واحد فقط. كان لهذا الكأس أن يدور تباعاً على الإيرلنديين، ثم الإيطاليين، ثم البولنديين، ثم السلافيين بمختلف هوياتهم، ثم الروس، ثم الصينيين، ثم اليهود، ثم اليابانيين، ثم ذوي الأصول اللاتينية، دون اغفال المعاناة المستمرة لسكان البلاد الأصليين، ولو كان العرب ذوي حيثية ديموغرافية في السياق الأميركي، لكان تصنيفهم قد حصل، إلا أن قلة العدد لا تبدو عائقاً الآن أمام ترامب وكبار مستشاريه الذين ألحقوا العرب والمسلمين بالسلسلة الطويلة لأقليات عانت ولا تزال تعاني.
الانطباع الذي تتركه زيارة المعرض، مشوش وغير واضح. تاريخ أميركا لا يطمئن إلى حتمية التعلم من دروس القهر والظلم والإستقواء التي تترتب تباعاً على استغلال المشاعر الشعبوية، والتي تقود إلى المربع نفسه، مربع أن نتعلم، نغير القانون، أحياناً ندفع تعويضات، وأحياناً نقرر تعويضات لا تصرف، كما في حالة العبيد المحررين، ودائماً يتوارى السياسيون خلف نصوص مطاطة لمحاباة ناخبين لا تزعجهم صبغة العنصرية دائماً بل يستمعون في أحيان كثيرة إلى من يجمّلها ويغذّيها ويحوّلها إلى لعبة سياسية أعلى سقف لها انتخاب أو إعادة انتخاب. فمن الذي سيشرح ذلك لرجل مثل دونالد ترامب؟ هذا هو مصدر الخوف.
Leave a Reply