مع مطلع كل صيف، يكون لبنان مع احتمال أن يشنّ العدو الإسرائيلي حرباً عليه، يعتمد توقيتها في طقس حار حتى يتمكّن من تحريك دباباته وآلياته في أرض جافة، وهذا ما فعله في اجتياحه الواسع في 5 حزيران من العام 1982، إذ أبلغ وزير الدفاع أرييل شارون رئيس «القوات اللبنانية» بشير الجميّل في اجتماع عقداه في كانون الثاني (يناير) من العام نفسه، بأن «جيش الدفاع الإسرائيلي» سيشن هجوماً في عمق 45 كلم داخل الأراضي اللبنانية، لإبعاد منظمة التحرير الفلسطينية إلى حدود نهر الأولي شمالي الليطاني، ليمنع سقوط الصواريخ على الجليل المحتل، وقد اتّفق شارون والجميّل على التنسيق والتعاون، وهذا ما حصل إلا أن الاجتياح توسع نحو العاصمة بيروت وضواحيها بعد أن اجتاز الجبل.
ومنذ عدوانه على لبنان صيف 2006، والذي استمر 33 يوماً، دون أن يحرز فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي أي تقدم، بل عاد مهزوماً في تلك الحرب التي تكبّد خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، يواظب قادة الكيان الصهيوني على تهديد لبنان كلما سنحت لهم الفرصة، ملوحين بأن الحرب القادمة ستكون مدمرة، ولن توفر العاصمة بيروت، وأن «بنك الأهداف» واسع ليطال أماكن ومراكز لا يتوقّع اللبنانيون أنها ستكون تحت مرمى الطيران والبحرية والقذائف الإسرائيلية. ولكن هل تجرؤ إسرائيل فعلاً على خوض حرب جديدة ضد المقارمة في لبنان هذا الصيف في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية؟
استعدادات لم تتوقف
وكما يقال بإن «الحرب القادمة قادمة»، قام الجيش الإسرائيلي بإجراء سبع مناورات على حدوده الشمالية، تركّزت على الجبهة الداخلية، كما على استخدام الإحتياط، حيث أجرى تدريبات لكل قطاعاته العسكرية، كما استفاد من تجارب حرب تموز قبل 11 عاماً، ليطوّر دفاعاته بوجه صواريخ المقاومة، باستخدام «القبة الحديدية» ومنظومة «حيتس» والباتريوت، لمنع وصولها إلى أهدافها، إلا أن الصواريخ الدفاعية الإسرائيلية، لم تكن دقيقة الإصابة، وخذلت قادة العدو، في وقت تواصل المقاومة تطوير نوعية وكمية ترسانتها الصاروخية.
ولا يتركّز اهتمام وشغل العدو الإسرائيلي على موضوع تعطيل صواريخ المقاومة، أو ضربها قبل أن تنطلق، ومنع فعاليتها، وهي باتت تُعد بعشرات الآلاف، إلا أن ما يقلق الكيان الصهيوني، هو تحذير لا بل تهديد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، من أن المعركة المقبلة لو فتحتها الدولة العبرية، ستكون في داخلها وعلى أرضها، والأقرب جغرافياً على المقاومة لإجتياز الشريط الشائك عن الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة، سيكون الجليل الفلسطيني المحتل، الذي يجاور لبنان في جنوبه، حيث بدأ القلق يصيب المستوطنين من أن ينفّذ «حزب الله» تهديده، وأن أمينه العام السيد حسن نصرالله صاحب «الوعد الصادق»، ولا يتأخّر عن تحقيقه، وهذا ما تأكّد للصهاينة بأن دخول مجموعات قتالية احتمال قائم، وهو ما دفع بالقادة العسكريين الإسرائيليين إلى بدء الإستعدادات وإقامة التحصينات وحفر الخنادق وتغيير المعالم الجغرافية، وإجراء التدريبات، بحيث بات الكيان الصهيوني في حالة الدفاع، بعد أن كان في موقع الهجوم، وأن أمنه القومي الذي كان يمتد ليصل إلى حدود باكستان وما بعدها تقلص إلى حدود فلسطين المحتلة لعام 1948.
تراجع إسرائيل
بعد حروبها على لبنان في أعوام 1978 و1982 و1993 و1996 و2006، تبدو إسرائيل اليوم قد فقدت القدرة على المبادرة والتحكم بقرار الحرب والسلام في المنطقة، لا بل تراجع مفهومها للأمن، فلم تعد تلك الدولة التوسعية الطامحة لإنشاء «إسرائيل الكبرى» كما جاء في مزاعم اليهود عن «وعد الله لشعبه المختار»، بأن «أرض الميعاد» له، وعليها تقام «إسرائيل الكبرى»، التي تقلّصت إلى حدود «إسرائيل الصغرى» في حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948، حتى دون تمكنها من إعلان يهودية الدولة بحكم «القنبلة الديمغرافية» التي ستنفجر بوجه «بني إسرائيل»، إذ سيصبح عدد الفلسطينيين في أراضي العام 48 نحو ستة ملايين مع تقلص عدد اليهود، وانحسار الهجرة إلى فلسطين المحتلة والتي تصاعدت في العام 1990 بعد انهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، بمجيء نحو مليون و200 ألف يهودي من دول الإتحاد سابقاً.
لكن اليوم، تسجل هجرة معاكسة في ظل التدهور الأمني الذي تعيشه الدولة العبرية التي لم تعد الملاذ الآمن ليهود العالم والوطن الموعود لهم، فقد بدأوا يعيدون حساباتهم ويتراجعون عن فكرة بناء «وطن قومي لليهود»، بالرغم من أن الحكومات الإسرائيلية، تستعجل قضم الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها، وإقامة الجدار الفاصل، إلا أن اليهود في العالم، خففوا من هجرتهم، وقد بدأت الشعوب تنظر إليهم على أنهم مغتصبين للأرض دون وجه حق، من شعب موجود على أرض فلسطين هو الشعب الفلسطيني.
حدود النار
لقد بدأت قواعد الاشتباك تتغيّر مع العدو الإسرائيلي، وان كل حروبه التي شنّها على لبنان وغزة منذ العام 2006، لم يثبت فيها أنه قادر على تحقيق انتصار، لذلك بدأت سياسته تتحوّل من هجومية إلى دفاعية، دون أن تغفل المقاومة بأنه في الوقت الذي يراه مناسباً سيقوم بعدوان، إلا أنه يحسب له ألف حساب، كما تؤكّد قيادة «حزب الله» في لبنان، التي أرادت من خلال جولة ميدانية للإعلاميين بالقرب من الخط الأزرق والشريط الشائك، أن تكشف عن أن العدو بات في موقع الدفاع، وهو لم يعد يمكنه استسهال القيام بعملية عسكرية واسعة في لبنان.
فقادة العدو يتحدثون عن أن «حزب الله» أنشأ «وحدة الرضوان» وتضم مقاتلين مدربين من عمر 16 إلى 22 سنة، وهي وحدة قتالية مؤلفة من اختصاصات عدة، وأهمها الخرق السريع، أي اقتحام الخطوط الأولى للعدو، وأن عناصر هذه الوحدة يتميّزون بلياقة بدنية عالية جداً تخوّلهم إنجاز المهمات الصعبة، وقدراتهم على التحمل تفوق سائر الوحدات القتالية، ولديهم معلومات عسكرية فيما يخصّ العدو.
وأشار الصحافي الإسرائيلي يؤاف ليمور في صحيفة «إسرائيل اليوم» إلى أن «وحدة الرضوان» هي الذراع الثالث لـ«حزب اللّه» في الحرب المقبلة وهي تتمثّل بكلام السيد نصرالله حول احتلال الجليل بواسطة هذه الوحدة القتالية أو «سرايا الرضوان».
ولقد ركّزت الجولة التي نظمتها «العلاقات الإعلامية» في «حزب الله» وبإشراف مسؤولها محمد عفيف، على إطلاع الإعلاميين على مدى الخوف والقلق عند الإسرائيليين، اللذين أحدثتهما المقاومة من خلال سياسة الردع التي اتبعتها مع العدو الإسرائيلي، حتى بعد توقف العمليات العسكرية في 14 آب (أغسطس) 2006 تنفيذاً للقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي لم يوقف إطلاق النار، إذ مازالت إسرائيل تلجأ إلى استهداف المقاومة ولو في سوريا، ويكون الرد سريعاً من المقاومة، داخل مزارع شبعا المحتلة، أو في الجولان المحتل، وهو ما أقام توازن رعب بالقرار والسلاح اللذين تمتلكهما المقاومة، مما وفّر الأمن للجنوب وليس للحدود مع الكيان الصهيوني المسؤولة عنه القوات الدولية، التي لم تمنع 11 ألف خرق للسيادة اللبنانية من قبل قوات الإحتلال التي كانت أحياناً تتجاوز الخط الأزرق، وقد تصدى لها الجيش اللبناني مرات عدة أبرزها في العديسة.
فالزيارة الإعلامية أرادها «حزب الله»، رسالة اطمئنان إلى أهل الجنوب خصوصاً واللبنانيين عموماً، بأن المقاومة جاهزة للرد على أي عدوان قد تلجأ إليه إسرائيل، كما أنها ملتزمة بالقرار 1701 ولم تخرقه، وهي تترك الأرض للجيش اللبناني الذي تنسق معه، دون أن تكشف سلاحها أو عناصرها، وهو سر قوتها، إذ لا يعرف العدو ما تمتلكه المقاومة من صواريخ، هو يقدّرها بنحو 150 ألفاً، ولا يعرف نوعيتها، ولا معلومات لديه عن الدفاعات الجوية ولا البحرية للمقاومة، وكذلك عن الطائرات بلا طيار، وهذه كلها مصدر قوة للمقاومة، التي لم تفتعل الزيارة الإعلامية، بل هي جاءت بتوقيت خاص، بعد أن تمّ تسريب معلومات عن أن رئيس حكومة العدو الإسرائيلي عندما زار واشنطن والتقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تحدّث معه عن الخطر الإيراني والخطر الأقرب إلى إسرائيل، «حزب الله»، وأن ترامب وافقه بضرورة وضع حد لهذا الخطر والحد منه وتقليص نفوذ وتمدد إيران التي تسبب أزمات المنطقة.
الداخل بالمرصاد
ولم يكن مضى يوم على المهمة الإعلامية لـ«حزب الله» والتي كان لها طابع الرسالة الردعية للعدو الإسرائيلي، وليست موجهة إلى الداخل، أو مرتبطة بمشروع خارجي إيراني –كما جرى الترويج– قام رئيس الحكومة سعد الحريري، بردّ على الجولة الإعلامية، بزيارة مقر القوات الدولية في الناقورة ولقاء قائدها الجنرال مايكل بيري، حيث أكّد الحريري على ثوابت الدولة اللبنانية باحترام القرار 1701، وأن لا سلطة إلا سلطة الجيش، وأنه غير موافق على جولة «حزب الله» للإعلاميين، التي وصفها رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع بالخطأ الإستراتيجي، فيما نظر إليها «تيار المستقبل» بأنها «عراضة» بغير مكانها وزمانها، مما كشف عن الخلاف الذي يمتد إلى عقود حول كيف يمكن التعامل مع موضوع المواجهة مع إسرائيل وأطماعها، إذ مازال الحريري وفريق سياسي معه يتحدّث عن الطرق الدبلوماسية والقرارات الدولية، بعد أن حررت المقاومة الأرض وباتت قوة ردع ضد إسرائيل.
وفيما تمضي المقاومة في تغيير ميزان القوى وقواعد الاشتباك مع إسرئيل، لا يزال البعض في الداخل يعمل على إعادة لبنان إلى زمن «قوة لبنان بضعفه»، وليس بمقاومته.
Leave a Reply