«منظمة تضم بضعة آلاف شخص تمكنت من مواجهة أقوى جيش في الشرق الأوسط يملك وسائل حديثة». تلك العبارة، وردت حرفياً في تقرير لجنة فينوغراد، التي تشكلت بعد حرب تموز العام 2006.
عشر سنوات بالتمام والكمال، مرّت على صدور هذا التقرير، الذي تضمن أسباب «إخفاقات» (هزيمة) إسرائيل في حربها ضد المقاومة الإسلامية، وهي فترة يقر الجميع أنها باتت أكثر من كافية لتعاظم قوة «حزب الله»، على مستويات عدّة من التسليح، حيث تقر الدوائر العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية بامتلاكه «أكبر ترسانة صاروخية في الشرق الأوسط»، أو على المستوى العملاني، بعد الخبرات الواسعة التي اكتسبها «حزب الله»، في خوضه لأشرس المعارك، وأكثرها تعقيداً، في الميدان السوري.
الأهم من ذلك، وهو ما باتت إسرائيل تتوجس منه، أن «حزب الله» بات يكتسب شرعية تتعدى البيئة الحاضنة اللبنانية التي أثبتت التجربة التاريخية أنها لا تخذله في أوقات الحرب برغم خلافات السلم، أو المزاج المتضامن عربياً، الذي يبدو في الظاهر في تراجع، على خلفية أجواء الشحن المذهبية، من قبل السعودية وأخواتها، ولكن ثمة قناعة في ارتفاع منسوبه إلى مستويات قياسية، حين يصوّب أي عدوان محتمل البوصلة القومية.
ما تخشاه إسرائيل، في الواقع، هو ما أفرزته الأشهر القليلة الماضية من تحوّل في العلاقات الخارجية لـ«حزب الله»، الذي لم تعد مروحة تحالفاته مقتصرة على سوريا وإيران، بل باتت تشمل لاعباً دولياً أساسياً عاد بقوة إلى المشهد الإقليمي والعالمي بعد أكثر من عقدين من الانكفاء، والمقصود بذلك روسيا التي باتت الرقم الدولي الصعب، إن لم يكن الأصعب، في المعادلة الشرق أوسطية منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا.
روسيا وحزب الله
قبل عامين، كانت معلومات تتسرب إلى الإعلام، مفادها أن ثمة استبعاد لفرضية التنسيق المباشر، عسكرياً، بين الجيش الروسي في قاعدة حميميم وبين وحدات «حزب الله» المقاتلة في سوريا. ربما ما عزز هذا الانطباع، هو إجراء يدخل في صلب انضباطية روسية قديمة، تفضل التنسيق المباشر مع دولة ذات سيادة أكثر منه مع فصيل أو قوة «غير سيادية»، وتصر على أن يكون التنسيق بين الجيش الروسي والمجموعات الأخرى على الأرض من خلال تلك الدولة، تكريساً لسيادتها، والمقصود بذلك هنا الدولة السورية.
لكن التحولات الميدانية بدت أشبه بمعمودية نار بين روسيا وكافة القوى المشاركة في الحرب على الإرهاب في سوريا، ولا شك أن مرور أكثر من عامين على التدخل العسكري الروسي في سوريا، قد جعل روسيا تدرك بالشكل المباشر الطبيعة الخاصة للمعركة الجارية حالياً. لذا لم يكن مفاجئاً، أن تتجاوز روسيا كلاسيكياتها، وأن يتولى وزير خارجيتها سيرغي لافروف، مهمة الرد على التحريض السعودي والغربي ضد «حزب الله»، بتذكير الجميع أنه قوة تساهم بفعالية في الحرب على الإرهاب، أو أن يصب رئيسها فلاديمير بوتين دلواً من الماء المثلج على رأس بنيامين نتنياهو، حين جاء إلى موسكو محرضاً ضد «حزب الله» وإيران. كما لم يكن مستغرباً أن يصدر، وللمرة الأولى، بيان مشترك من القيادة العسكرية لكل من روسيا وسوريا وإيران و«حزب الله» بعد ضربة «التوماهوك» الأخيرة.
انطلاقاً من ذلك، لم تتأخر إسرائيل في تغيير سياسة الغموض التي تنتهجها إزاء الأزمة السورية، وأن تختار «اللعب على المكشوف»، وهو ما تبدّى في تحوّل قد يبدو تفصيلياً للوهلة الأولى، ولكنه جوهري في عمقه وخلفياته، والمتمثل في الاعتراف، للمرة الأولى بتنفيذ غارات على سوريا تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن هدفها «حزب الله» سواء في ريف حمص أو قرب مطار دمشق الدولي.
هكذا أتى الهجومات الجويان ليقدما –على ما يبدو– موقفاً أكثر وضوحاً تجاه الأزمة السورية والنشاط العسكري لـ«حزب الله» هناك، وهو ما أثار قلقاً بشأن احتمال الذهاب إلى حرب مباشرة، يجمع المراقبون على أنها لن تكون كسابقتها في العام 2006.
إسرائيل خائفة؟
ولكن ثمّة قناعة في الداخل الإسرائيلي تعبّر عنها عواميد المعلّقين في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي كثير من الأحيان تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، بأن الكيان الصهيوني «غير معني بالتصعيد» على ما يسمّى «الحدود الشمالية» مع لبنان.
ليس الأمر مجرّد موقف مسالم في كيان يزداد تطرفاً ويمينية، فالتقديرات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، ووفق التسريبات الإعلامية التي باتت شبه يومية تشير إلى أن أية مغامرة جديدة ضد «حزب الله» لن تكون نزهة، وبأن تداعياتها الكارثية على إسرائيل، ستتجاوز تداعيات حرب تموز العام 2006، بأشواط كبيرة.
وبرغم التغيرات في المناخ الإقليمي، ثمة ثابت لدى الإسرائيليين، وهو التعامل بجدية، تجاه كل ما يقوله الأمين العام لـ«حزب الله»، الذي نجح في فرض خطوط حُمر تجاه إسرائيل في أكثر من محطة، لا سيما منذ اغتيال الشهيد جهاد مغنية، حيث فرض قواعد اشتباك جديدة على العدو الإسرائيلي وصولاً إلى خطابات الردع الأخيرة وأبرزها تحذير الإسرائيليين بأن صواريخ المقاومة الإسلامية قادرة على أن تطال أهدافاً حيوية، من تعطيل طرق النقل البحري وصولاً إلى ضرب مخازن الأمونيا ومفاعل ديمونا.
وأما آخر الرسائل، فكانت الجولة الإعلامية التي نظمها «حزب الله» على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، وهو ما جرى تفسيره على نطاق واسع على أنه يعكس استعداد المقاومة في لبنان لأي احتمالات فيما يتعلق بالحرب مع إسرائيل برغم انشغالها بقتال الجماعات التكفيرية في سوريا.
ولكن ثمة رسالة أخرى، كشفت عنها الجولة الإعلامية، وهي أن الحدود اللبنانية–الفلسطينية هي أكثر الحدود استقراراً بالنسبة إلى إسرائيل، حتى مقارنة بالحدود مع الأردن، وذلك يعني أن الردع الذي فرضه «حزب الله» على إسرائيل، قد بات أكثر ثباتاً من ذي قبل، ما يجعل الكثير من التحليلات الواقعية تشير إلى أن لا «حزب الله» راغب في التصعيد ولا إسرائيل مستعدة للتورط في مغامرة عسكرية تعلم المقاومة الإسلامية كيف سترد عليها بجدّية وفعالية.
ولا يغيّر في الأمر الرهان الإسرائيلي المتجدد على الولايات المتحدة بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وانتهاجه سياسة التصعيد ضد إيران.
كما لا يغيّر في الأمر قيام العدو الإسرائيلي بتنفيذ غارات على مواقع عدّة في سوريا، بعضها تابع لـ«حزب الله»، طالما أن قواعد اللعبة في الصراع السوري لن تتغير إلا بتسوية سياسية ستعني بطبيعة الحال عودة مقاتلي «حزب الله» من سوريا إلى لبنان، بما يعزز الردع المفروض أصلاً.
ولكن استبعاد حرب شاملة بين «حزب الله» وإسرائيل في لبنان لا يعني بالضرورة أن الاشتباك بين الطرفين قد انتهى، ولكنه يعني، في واقع الحال أن الظروف القائمة حالياً قد نقلت عملياً ميدان الصراع من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا، وتحديداً في الجولان السوري المحتل، ضمن إطار قواعد لعبة جديدة فرضتها الأجندات المتباينة للفريقين.
حافة الانفجار
ومع ذلك، فإن كثيرين من المحللين سواء في إسرائيل أو الغرب، أو حتى في روسيا، يقاربون المسألة بحذر، إذ يرون أن من شأن ضربة أكبر من جانب إسرائيل في سوريا أو واحدة تخطئ أهدافها، أن تكون لها عواقب غير وخيمة، وان تدفع بالأمور إلى حافة انفجار لن تقتصر تداعياته على سوريا ولبنان وإسرائيل فحسب، بل يمكن أن يشعل حرباً إقليمية وربما عالمية إذا ما أخذت في الحسبان التموضعات الدولية الجديدة في الشرق الأوسط.
ولعل ما قاله محلل روسي بارز في جلسة خاصة، يعكس حساسية الوضع في منطقة، «كل شخص فيها يسير في حقل ألغام»، على حد تعبيره، اذ تساءل: «ماذا لو ضربت إسرائيل «حزب الله» في لبنان أو أصابت احدى غاراتها هدفاً حساساً له في سوريا؟ هل سيقف مكتوف الأيدي؟ قطعاً لا. سيرد على نحو متكافئ، عندها سيصل التصعيد مدى لم يبلغه حتى في الحرب الأخيرة (٢٠٠٦)، خصوصاً أن «حزب الله» اليوم ليس هو نفسه قبل أعوام»، قبل أن يختم: «ربما يهوى البعض في إسرائيل اللعب بالنار. حسناً، كثيرون قبلهم قاموا بذلك، ولكن من سيقوم بعد الآن بدور الإطفائي؟».
حين يعتذر داعش من إسرائيل
«من فمك ادينك». يصحّ هذا القول على ما كشفه وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشيه يعالون، عن أن تنظيم «داعش» أطلق النار مرة واحدة بالخطأ فقط باتجاه الجولان ثم اعتذر عن ذلك على الفور.
ونقل موقع القناة التلفزيونية الإسرائيلية العاشرة عن يعلون قوله إن «داعش أطلق النار مرة واحدة باتجاه الجولان واعتذر». واعتبر يعالون في تعليقه على حادثة الجولان أن «أغلب حالات إطلاق النار كانت تحصل من أراضي تقع تحت سيطرة الجيش السوري»، مشيراً إلى أن «حادثة واحدة حصلت، في الفترة الأخيرة، أطلق فيها داعش النار عن طريق الخطأ وقد اعتذر فوراً».
الحكومة الإسرائيلية وجيشها التزما الصمت رسمياً على تصريحات يعلون، ولكن رصد الاحداث على جبهة الجولان لا يترك مجالاً للشك في ما قاله الوزير الإسرائيلي السابق.
Leave a Reply