عاصفة هوجاء هبَّت على واشنطن هذا الأسبوع بعد قرار «ترامبو» طرد مدير وكالة «أف بي آي» جيمس كومي بالطريقة التي لم يعهدها رؤساء الولايات المتَّحدة منذ نشوئها حيث أنَّ أحد حرس الرئيس حمل مغلف الطرد لمكتب الوكالة الرئيسي عندما لم يكن كومي موجوداً فعلم بقرار عزله من أجهزة التلفاز بينما كان يلقي كلمته أمام عملاء جدد للوكالة في لوس أنجليس.
وبغض النظر عن الشكل الترامبي الدراماتيكي الذي يستحق أنّْ يكون سيناريوهاً «محرِزاً» لتلفزيون الواقع، فإن إقالة أعلى مسؤول أمني وهو في خضم التحقيق بالتدخُّل الروسي في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، يطرح شكوكاً وتساؤلات وإشكالات سيتردد صداها إلى ما بعد بعد الطرد التعسفي وقد تؤدي في المحصَّلة النهائية إلى محاكمة الرئيس.
خلال أيامه العشرة بعد المئة في الحكم، طرد دونالد وزيرة عدل بالوكالة ومستشاره للأمن القومي والعشرات من المدعين العامين الفدراليين من ضمنهم من فتح تحقيقاً عنه، والآن جاء وقت الإطاحة بكومي بناءاً، حسب زعمه، على توصية من نائب وزير العدل رود روزنستاين التي رفعها لرئيسه جيف سيشنز رغم أنَّ الأخير نأى بنفسه (على طريقة سليمان ميقاتي) عن أي تحقيق يتناول التدخُّل الروسي.
ولكن مهما ادَّعى ترامب وزلمه في وزارة العدل بأن كومي أخطأ في قضية التحقيق المتعلقة برسائل هيلاري كلينتون الإلكترونية، وهو ارتكب هفوات من دون شك وربَّما ساهمت هذه الهفوات بخسارة كلينتون كما أعلنت هي بنفسها، إلا أنَّ الكثيرين من أعضاء الكونغرس ومن ضمنهم جمهوريون غير مقتنعين بأن هذا هو السبب الحقيقي. ذلك لأن ترامب أغدق المديح والاطراء على كومي ووصفه بأنه استعاد سمعته بعد إعادة فتح التحقيق مع كلينتون في 28 تشرين الأول الماضي.
يعتقد المحللون أنَّ كومي قد يكون اقترب من فم التنين فيما يتعلَّق بالتدخُّل الروسي في الإنتخابات وعلاقات المقربين من ترامب المشبوهة بالروس. فقد أظهرت التحقيقات أنَّ المستشار السابق مايكل فلين المطرود لانه كذب على نائب الرئيس حول اجتماعه مع دبلوماسي روسي، كان سيخضع للابتزاز من قبله، لكن الكذب حول مجرَّد لقاء لا يمكن أنَّ يكون السبب الوحيد للإطاحة بمسؤول أمني عسكري في هذا المستوى. هناك أسرار لم تُكشَف بعد في هذه العلاقة وقد تصل تردداتها إلى البيت الأبيض. وربَّما لهذا السبب رفض الكونغرس عرض فلين بالحصانة من المحاكمة مقابل الإدلاء بما عنده، ولهذا السبب يماطل رجال الرئيس تقديم بياناتهم المالية للجنة التحقيق في الكونغرس لأن خط المال money trail يوصل لطرف الخيط.
يبدو أنَّ العرض العنتري التوماهوكي التلفزيوني لترامب المتمثل بالعدوان على سوريا والذي ابتهج بمشهده بعض الإعلاميين الدواب والذي كان المقصود منه إظهاره بمظهر الرئيس القوي الذي يتصدى لبوتين عبر ضرب أحد أهم حلفائه، كان «فاشوشاً» وانطفأ بسرعة كالسهم الناري وعاد الإعلام لتسليط الضوء على أخطاء تسرّع وعنجهية ترامب وإثارة الموضوع الروسي من جديد خصوصاً أثناء إدلاء كومي بشهادته أمام الكونغرس. وربَّما هذا ما يمنع لقاء ترامب ببوتين حتَّى اليوم.
وبالرغم من غرور ترامب وعدم اهتمامه بالرأي العام وبالإعلام، أو أغلبيته، فإنه بطرد كومي قد يكون قد فتح عليه أبواباً جديدة للنيل من إدارته المتعثِّرة، ولا يُعرَف بعد مدى الضرر الذي أحدثه انتخاب ترامب على العصب القومي الأميركي الذي تشدُّه أُعزوفة الفرادة الديمقراطية والشفافية وما إذا كان يهمُّه تدهور المحاسبة والرقابة إلى هذا الحد من قبل الكونغرس. وصحيح أنَّ ترامب لم يقدم على سابقة طرد مسؤول فيدرالي عالٍ حيث أن نيكسون قبله أقال قاضياً مستقلاً كان يحقق في فضيحة «ووترغيت» التي أطاحت به، لكن وزير العدل ونائبه آنذاك رفضا الإمتثال لقرار نيكسون. أمَّا اليوم فرجلا الوزارة هما من حاشية ترامب.
وقد يحاول ترامب خلال المقبل من الأيام التملص وتطويق نتائج فضيحة «كومي–غيت» بالتركيز على السياسة الخارجية مجدَّداً وتقديم دعم أكبر لإسرائيل لتساعده في الداخل خلال زيارته المرتقبة لها وإعلان حلفها علناً مع مملكة بني سعود الذين اعترفوا بمشاركة طيران العدو الاسرائيلي في العدوان على اليمن، وتمويل هذا الحلف بالتريليونات من الدولارات السعودية التي يريد جنيها ترامب حسب إعلانه بنفسه لأنَّه لولا أميركا لما وُجدت ممالك الغاز والنفط كما صرَّح بذلك «عالمكشوف» والمثل يقول خذوا الحكمة من فم… ترامب.
كذلك من أجل إرضاء تل أبيب يصعِّد ترامب من حملته على إيران ويحشد قواته في الاردن لمنع التقاء الحشد الشعبي العراقي مع الجيش السوري وحلفائه على الحدود السوريَّة العراقية الأردنية بعد إعلان مناطق التهدئة في الآستانة. وهنا يبرز مجدَّداً خطر الدور الأردني والتركي المتآمر لتقسيم سوريا لعدة دويلات ممَّا قد يجعل المنطقة مقبلة على صيف حار جدَّاً لكن يبدو أنَّ الاستعداد الميداني لمحور المقاومة وروسيا والتهديد الإيراني المقابل ردَّاً على بن سلمان بعدم جعل مناطق بني سعود آمنة ما عدا مكة والمدينة، سوف يرجِّح الكفة ومن صمد خمسة أعوام لن يسمَح بالمؤامرة الجديدة أنّْ تتحقق.
السؤال المطروح ازاء ما يُحاك من مؤامرة التقسيم التي قد تؤثر على كل الكيانات العربية هو إذا كان الشعور القومي الأميركي مخدراً من قبل ترامب فماذا عن الشعور القومي العربي هذه الأيام؟ من يجرؤ على الجواب من دون استخدام كل العبارات النابية والشتائم «من الزنار ونازل» التي تطفح بها اللغة العربية؟
Leave a Reply