في مكتب القاضي جين هانت تصدح موسيقى الستينات الثورية في أميركا فيما تتزين جدران الغرفة بصورة لفرقة البيتلز البريطانية الشهيرة إلى جانب صور عائلته وفرق ثانوية فوردسون التي أشرف القاضي الجديد في محكمة ديربورن على تدريبها خلال سنوات خلت.
لقد مر 112 يوماً فقط على تولي هانت منصبه كقاض في محكمة ديربورن لكنَّه يتصرف بثقة عالية وارتياح كبير وكأنه في بيته، فقد أمضى هانت ثلاثة عقود محامياً في أروقة «المحكمة ١٩» مدافعاً عن المتهمين غير القادرين على دفع أتعاب المحامين من المكاتب الخاصة.
أما اليوم، وبعد معركة انتخابية حامية استمرت عشرة أشهر، حسمها هانت (62 عاماً) لمصلحته في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بعد حصوله 50.4 بالمئة من الأصوات، أصبح «محامي الفقراء» قاضياً. ورغم تبدل موقعه في قاعة المحكمة لا يزال هانت يحمل في داخله نزعة التعاطف مع المظلومين، رغم إدراكه التام لواجباته في موقعه الجديد وعلى رأسها تطبيق القانون بعدالة وإنصاف.
«صدى الوطن» أمضت الأربعاء الماضي، 17 أيار (مايو)، يوماً برفقة القاضي الجديد، وهو يوم أوكلت لهانت فيه مسؤولية النظر بقضايا الجنح، في إطار تبادل قضاة المحكمة الثلاثة للملفات، حيث تولى القاضيان الآخران سالم سلامة ومارك سومرز ملفي المخالفات المدنية والقضايا الجنائية، في إطار تناوب القضاة على كل فترة أسبوعين.
كانت معنوياته عالية واهتمامه بالتفاصيل واضحاً، ولكن أبرز ما يميز أسلوب هانت تحت قوس العدالة، هو حرصه على مساعدة المتهمين وانتشالهم من دوامة مخالفة القانون.
أسلوب هانت
تضمن ملف القضايا لذاك اليوم مزيجاً من التهم تراوحت بين قيادة السيارة برخصة مسحوبة إلى حيازة الماريوانا مروراً بالسرقة وصولاً إلى خناقة بين مراهقين تبادلوا خلالها اللكمات والضرب.
ومع أن علامات التوتر كانت بادية على وجوه المتهمين في قاعة المحكمة، إلا أن أسلوب القاضي هانت المتواضع وتحكمه بالقضايا المطروحة أمامه بدد تدريجياً أجواء القلق السائدة.
فطريقة معالجة ومخاطبة هانت للمتهمين المتكدرين الواقفين أمام هيبة المحكمة أظهرت انه لا يتعامل معهم كأرقام لقضايا عدلية فقط بل كأفراد جنى عليهم الدهر فأدى بهم إلى قاعة المحكمة.
خلال جلسات المحكمة، كان هانت يستمع بانتباه شديد إلى توصيات الادعاء العام، ولكنه كان يحرص على تسمية الاتهامات بـ«المزاعم»، فكان يطمئن المتهمين ويتأكد من إطلاعهم على كامل حقوقهم وتفاصيل الغرامات المفروضة عليهم، كما كان يصغي بانفتاح وتفهم واضحين لتظلّمات المتهمين.
لكن أكثر ما يميز أداء هانت هو حرصه على إيجاد أرضية مشتركة بين المحكمة والمتهمين، لاسيما فيما يتعلَّق بدفع الغرامات المتأخرة التي عادة ما تجعل أصحابها يمثلون مراراً أمام المحكمة بسبب عدم قدرتهم على دفعها. فأحكام القاضي الجديد تقوم على مبدأ مساعدة المتهمين «للوقوف على أقدامهم مجدداً» بدل الإمعان في معاقبتهم.
عينة من المتهمين
غالبية المتهمين الذين مثلوا أمام هانت في جلسة بعد الظهر كانوا من الأفارقة الأميركيين باستثناء عربي واحد وأبيض واحد. في الواقع صرَّح هانت أن معظم قضايا الجنح التي ينظر فيها يكون المتهمون فيها من السود.
المتهم الثامن الذي مثل أمام هانت كان رجلاً أبيض قد اعتقل في وقت سابق من ذلك اليوم، بعد توقيفه من قبل الشرطة، وقد تبين أن رخصته مسحوبة بسبب تراكم غرامات السير المتأخرة وفشله في الابلاغ عن وضعه لدى ضابط المراقبة (بروبيشين)، على خلفية إدانته قبل خمس سنوات بقيادة سيارته من دون رخصة وحيازة الماريوانا.
وأدلى المتهم بأقواله أمام القاضي هانت شارحاً معاناته مع القانون بسبب عدم قدرته على دفع الغرامات المتأخرة واسترداد سيارته لإيجاد فرصة عمل تمكنه من النهوض مجدداً.
وقال المتهم للقاضي إنه كلما جلس وراء مقود السيَّارة يجد نفسه في السجن. وأضاف أن هذه هي الدوامة التي تمنعه من تصحيح وضعه والخروج من محنته بعد أن أمضى عشر سنوات في السجن بتهمة الشروع في قتل رجل حاول اغتصاب اخته، كما أشار.
وعلى ما يبدو فإن سوء طالع هذا الرجل سوف يتبدل نحو الأفضل، في حال منح فرصة لذلك، على حد تعبيره، موضحاً أن أحد أقاربه عرض عليه العمل معه في شركته لقص الأعشاب.
هانت التقط هذه الفرصة السانحة لكي يمنح الرجل فرصةً ثانية، هو ما يعتبره ترامب حقاً لكل فرد، كما أبلغ «صدى الوطن» في مكتب محكمته بعد الجلسة، ولهذا السبب قام بوضع خطة تقسيط تفضي إلى تخليص المتهم من الغرامات.
وفي وقتٍ سابق من ذاك اليوم أكد هانت أنه نظر في قضية سائق لم يكن قادراً على دفع ضبط مخالفة صدر بحقه منذ سنوات طويلة وتراكمت عليه الغرامات لتصل إلى 10 آلاف دولار. وأردف هانت «ان ثمانين بالمئة من قضايا رخص السيَّارة المسحوبة التي نظر فيها، سببها عدم قدرة الأفراد على دفع غرامات المخالفة أو حتى شراء التأمين لسياراتهم، لافتاً إلى أن البعض «غير قادر حتَّى على تسديد إيجار سكنه».
واستطرد القاضي انه تفاجأ في شهر شباط (فبراير) الماضي بملاحظة أن عدداً كبيراً من الغرامات المتأخرة تم تسديدها لأن الأشخاص كانوا قد حصلوا على مرتجعات الضرائب ممَّا مكنهم من الدفع.
مشكلة أخطر
يقول هانت إن مشكلة الغرامات المتراكمة تعتبر ثاني أكثر أسباب مثول المتهمين أمام محكمة ديربورن في قضايا الجنح، أما المشكلة الأخطر فهي إدمان المشتقات الأفيونية، غالباً بسبب حبوب الوصفات الطبية، التي تدفع المتعاطين إلى انتهاج سلوك غير قانوني يؤدي بهم إلى المحكمة بشكل متكرر.
دفعة ثالثة من المتهمين وصلت إلى قاعة المحكمة بانتظار صدور الأحكام بحقهم.
كانوا بمعظمهم يافعين عرب أميركيين من طلاب المرحلة الثانوية برفقة ذويهم.
أحدهم متهم بسرقة متجر، وآخرون انخرطوا في عراك تبادلوا فيه اللكمات، فيما حطم آخر سيارة والديه. أخذ هانت وقته لدراسة القضايا ومراجعة ملفات الشبان لكي يتأكد من تناسق وصحة روايات المراهقين وتطابقها مع الأدلة المقدَّمة في كل قضية.
في إحدى القضايا طلب هانت من المتهم تقديم علاماته المدرسية النهائية في ختام العام الدراسي.
المساعد والعقاب
في ختام الجلسات، عاد هانت إلى مكتبه حيث قال لـ«صدى الوطن» إنه يشدد دوماً على أهمية المدرسة بالنسبة للمتهمين اليافعين، مؤكداً أنه يفضل أن تحفز أحكامه الطلاب على التركيز في دراساتهم لكي يبذلوا قصارى جهودهم في التعلم، عوضاً عن إجبارهم على تأدية ساعات الخدمة الاجتماعية كجزء من العقوبة.
وأفصح هانت أنه منذ أيّام عمله كمحام عن المتهمين الفقراء، كان يسعى دوماً إلى إيجاد طرق شتى لمساعدة موكليه عبر شرح المنافذ القانونية لهم، ولكن واجبه اليوم كقاضٍ يتطلب منه تنفيذ القانون بحذافيره، مشيراً إلى أنه يراعي في أحكامه مدى تأثيرها على الحالة الاجتماعية للمتهم.
واستدرك «يحمل القاضي على عاتقه مسؤوليات جساماً من خلال استعمال سلطاته التقديرية بإصدار أحكام تؤثر في مصير وحياة الآخرين ولهذا السبب من الأهمية بمكان بالنسبة للقاضي وطاقم الشرطة الذين يستخدمون سلطاتهم التقديرية أيضاً أنْ يتخلّوا عن انحيازهم الداخلي».
وتابع «مع انني ظننت أنَّي ساتصارع في مسألة القيام بقرارات مصيرية هامة الا ان الأمور واضحة تماماً بالنسبة لي». هناك قاعدتان أساسيتان يتقيد بهما هانت وهما: محاولة مساعدة المتهم وفي نفس الوقت التقيد بالقانون في فعل القرار. «كل شخص يمثل أمامي هو على قدم المساواة مع الآخرين ومن المهم أن نؤمن لهم المساعدة لا إلحاق العقاب بهم».
هانت المثالي البراغماتي أنهى يومه بطلاً في الدفاع عن أبناء مجتمعه، مشيراً إلى أنه من واجب العدالة الدفاع عن الضعفاء في زمن يستقوي فيه القوي على الضعيف.
يمكن القول إن القاضي هانت أثبت صدق وعوده الانتخابية، وما أقسم عليه يوم تنصيبه، عندما قال «سوف أتذكر دائماً أن لا وجود لقضية صغيرة أو سخيفة». وبذلك يكون قد حقق تطلعات الناخبين في أول مئة يوم تحت قوس العدالة.
Leave a Reply