لبعض القصص في لبنان نكهة التراجيديا الإغريقية، تتجلى وسط الفوضى المزمنة كشاهد على أحداث ووقائع لم يكن لها حظ في البروز، ولم يكن لها وقع أخلاقي، أو فرصة للإعتبار أو اجتراح حكمة أو حتى أمثولة. هكذا تنضم سارة عصام سليمان حيدر إلى الصورة.
يكفي النطق باسم بعلبك، المدينة او المنطقة، لتنهال على الذهن صور الخروج على القانون. سرقة سيارات، زراعة وتجارة المخدرات على أنواعها، وليس الحشيش فقط، كبتاغون ومشتقاته، خطف وفدية، الطفار وما أدراك ما الطفار، كل هذا قبل حديث الثأر وجرائم «الشرف»، بضعة أسماء يشهرها الإعلام بحماس تختصر وتختزل منطقة بأمها وابيها، حتى أن أفضل تسمية إيجابية طرأت مؤخراً على القاموس البعلبكي هي «الخزان»، بعلبك خزان لهذا ومعين لذاك ومنبع تجنيد لآخر.
صورة نمطية تتغذى على شيوع أخبار السوء، الموجودة بالفعل. لكن هذه ليست صورة بعلبك، ولا يجب أن تكون –إلا في مزاودات الكيد– أو على الأقل هذه ليست الصورة الوحيدة، لكن الصورة الأخرى غائبة تلقائياً أو مغيبة عمداً. لم تقل الصحف ومحطات الراديو والتلفزيون ولا وسائل التواصل الاجتماعي، أن البعلبكية سارة سليمان، كانت ضحية «البعلبكي» الذي أطلق النار في زحلة. للقاتل هوية واضحة تناسب الصورة النمطية، أما الضحية التي سقطت في عروس البقاع زحلة، فتترك لتخمينات الجمهور، خصوصاً وأن اسمها يمكن أن يكون من أي الجماعات اللبنانية، ربما باستثناء الأرمن.
لم تكن المفاجأة في مقتل سارة أنها بعلبكية، كان التركيز كله على أنها وهبت الحياة لأشخاص لا تعرفهم من خلال تبرعها بأعضائها، ومنها القلب الذي كان طوق نجاة رجل من الشمال.
صورة نمطية استرسلت في نشر صور القاتل بأسلحة حربية متنوعة، لكنها لم تحاول، حتى في أقرب المواضع إلى الحدث أن تتجاوز قشرة التنميط لتقول لنا قصة ذات معنى. قصة الصراع الذي تعيشه منطقة بعلبك لأجيال، صراع البدائية والحداثة، صراع التقدم والتخلف، وصراع الحياة ضد التقاليد، وهو صراع معروف ومكشوف دفعت بعلبك ثمنه أكثر من مرة، وكان الأسوأ في التجربة أن يكون رهان دعاة التغيير الخارجيين، على دعاة التجمد الداخليين.
لقصة سارة عصام سليمان حيدر، ابنة بدنايل، وسليلة إحدى أكبر وأبرز العائلات اللبنانية، مقدمة طويلة لم يأت أحد على ذكرها، ليس عن عدم دراية وانما عن عدم رغبة لأنها لا تستقيم مع صورة البعلبكي الشرس، المجرم، الدموي الخارج على القانون. في أواخر ستينات القرن الماضي، وفي واقعة ترمز إلى الكثير من تفاعلات المنطقة سقط رئيس بلدية بعلبك في حينه (المنتخب عام 1965) سهيل حيدر ضحية عملية ثأرية. منطق الثأر لا يبغي القصاص. يملي منطق الثأر في بيئة عشائرية أن يكون الثأر انتقاماً ودرساً، وتالياً ليس المطلوب رأس القاتل، وانما المطلوب الأبرز في عائلته. هكذا قضى سهيل حيدر في قضية لم يكن طرفاً فيها.
لم تكن الصدمة في خبر مقتله. جاءت المفاجأة بعدما اجتمع أركان عائلته التي كانت راية البر معقودة لها من بلاد جبيل إلى بلاد بشارة. كان لقب سلطان البر حكراً على كبير العائلة. إلا أن العائلة بعد الحرب العالمية الأولى ونشوء لبنان الكبير انتهجت بفضل نخب وازنة فيها سبيل السلوك المدني وسيادة القانون والتطور عبر العلم والتنوير. قررت العائلة المفجوعة أن لا تلجأ إلى الثأر وأن تترك القضاء يأخذ مجراه (كرر شباب بدنايل بالأمس الإلتزام نفسه اثناء تشييع سارة).
بطبيعة الحال سارعت العائلات المنافسة سياسياً إلى انتهاز الواقعة كفرصة للطعن بآل حيدر واعتبارهم غير مؤهلين للأخذ بحقهم وغير جديرين بالزعامة، وكلفهم ذلك انتخابياً، لكن ذلك الموقف شكل رافداً مهماً لتيار بعلبكي واسع يدعو إلى التخلي عن المنطق العشائري والثأر وبدائية العلاقات الاجتماعية. كاد هذا التيار في آخر انتخابات نيابية قبل الحرب (1972) أن يتفوق على التحالف العشائري التقليدي الذي كان يقوده رئيس مجلس النواب لأكثر من دورة واحد رجال الاستقلال صبري حمادة، لولا رعاية فلول المكتب الثاني والحقبة الشهابية.
كان العائق الأكبر أمام ذلك التيار الذي ضم في رموزه رياض طه، زكريا رعد، نظير جعفر، حسن حمية وآخرين، يتمثل في العامل الخارجي أساساً. فالرئيس الإصلاحي الواسع الشهرة الأمير فؤاد شهاب تعامل مع المنطقة على أساس عشائري. اشترى الاستقرار والولاء بأسلحة متوسطة وثقيلة وهبها للعشائر لتقتتل، باعتبار أن ليس للسلاح وظيفة أخرى في المنطقة. ونسج على هذا المنوال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي جيّر امتيازات التسليح الممنوحة له في اتفاقية القاهرة ليرشي شيوخ العشائر أنفسهم. حتى أن الإمام السيد موسى الصدر الذي لا يشك عاقل بالتزامه لمواصفات الدولة المدنية لم يجد ما يقوله لأهل بعلبك الذين ساندوه وناصروه في وقت شدة أفضل من العبارة الشهيرة «السلاح زينة الرجال».
في هذا المناخ كان على تيار التغيير في بعلبك أن يشهد نهايته المأساوية في الحرب الأهلية، وأن يقتل أبرز رموزه، نقيب الصحافة رياض طه تحت مسمى «الثأر» الملتبس، وأن تتسلم إدارة المنطقة قيادات امنية سورية لا تمتهن إلا الولاءات العشائرية في بلدها الأم أصلاً. لم يعد من بعلبك سوى ذكريات مهرجانات لا علاقة للمنطقة وأهلها بها، وسرقة السيارات وتجارة الحشيش والخطف للابتزاز. وهكذا ستموت سارة مرتين. مرة على يد القاتل الذي يفاخر وبيئته بالتحدر من صلب أبو علي ملحم قاسم، الذي اشتهر أصلاً بدمويته، ومرة ثانية على يد نخب لبنان وإعلامه الذي لا يرى في بعلبك سوى نوح زعيتر.
Leave a Reply