لأنّ للشِعرية خاصّيّةَ التحليق في أجواء الأرواح، فهي لا تعرف نمطاً مُحدَّداً من أنماط الكائنات البشرية، لذلك فنحن نراها تنشر أجنحتَها الهلاميّةَ، طائرةً، لتسكنَ أرواحَ أطبّاء مثلاً أو مهندسين أو رجال دين عدا الذين أفردوا حياتَهم للشِعرِ وحده، كذلك رأيناها منبثقةً في نتاجاتِ صعاليك، لتمتدّ مساحاتُها المعرِّشة إلى قادة دوَل، وكذلكَ إلى دبلوماسيّين، كما تؤرشف حياةُ العديدين منهم كـ سان جون بيرس وبابلو نيرودا ونزار قباني وعمر أبو ريشة وغيرهم.
وها نحن نلتقي اليوم بشاعرٍ فذٍّ قذفته الحياة من أجواء تعقيدات الدبلوماسيّة إلى شواطئ الشِعر الحرّة الفسيحة، إنه الشاعر علي عجمي.
وإذ نبحر في ديوانِهِ الجديد «حقول الجسد» نجد السفير اللبناني الدكتور علي عجمي من مرتبة الشعراء المجيدين، بمعنى أنه حاول ابتكار صورٍ جديدة اختصّ بها منجزُهُ الشعري، ولم يتّكئ على ما أنجزهُ أسلافُنا الشعراء الذين يعجّ بهم تاريخُ الشِعر العربيّ.
■ أنتَ شخصية دبلوماسية معروفة، فما الذي حدا بك إلى الانعطاف نحو الشِعر؟ ومن أين وردتَ إليه أو وردَ إليك؟
– الشعر كالمطر، لا يحتاج إلى إذنٍ بالدخول. الشعر كالحقل الذي ينتظر من يعتني به. الشعر كالروضة اليانعة، وقد حان جناها. لستُ أدري متى راودني الشعرُ عن نفسه. في الأساس أنا أكتب القصّة. وقد تهيّبتُ كثيراً حين أقدمت على خوض غمار الشعر. فالنثر يمكنك أن تلجَه من حيث طابَ لك. ولكن، عند اقترابك من حياض الشعر، إخلع نعليك. فهنا القداسةُ تعلن عن نفسها بأبهى صورها. الشعر كالهوى، من يقوى على الإعلان بأنه امتلك القدرةَ على امتلاكهِ والسيطرة عليه؟ إنه يأتيك بغتةً. فلا تشعر إلا وأنت صريع الكلمة والصورة الراقية. أما من يرِد إلى الآخر، الشعر أم الشاعر؟ فتلك جدليّة ابتدأت منذ تحرّك في وجدان الإنسان ملاكُ الصورة والكلمة أو شيطانهما، لا فرق. وستظلّ هذه الجدليّة قائمة حتى يندثر الكلام وتختفي الأحاسيس. وطالما هناك طائر يغرّد وسنبلة ترقص ونهر يجري وامرأة تتهادى، سيبقى الشعرُ مئذنةَ الروح وفوحَ الوجدان.
■ كيف استخلصتَ تجربتَكَ الشعريّة، هل عبرَ القراءات الشعرية المتراكمة، أم عبرَ الكائن الشعريّ الذي يتقمّص الشاعرَ أم عبرَيهِما معاً؟
– كلما تقادمَ العمرُ، تكثّفت تجاربُ الإنسان، واكتنزت ذاكرتُه الثريّة بمخزونٍ واعد ممّا اكتسبه من خبرات وقراءات. لا يكفي أن يحملَ المرءُ غذاءه الأدبيّ الفطريّ. لا بدّ من توابل تغذّي الروح. فالحقل البِكرُ يحتاج إلى يدٍ تحنو عليه. والشجرة الحبلى بالثمار تنتظر من يشذّبها ويهتمّ بها. وكذا الشعر، يحتاج إلى مزاوجة بين الكائن الشعريّ الذي يتلبّس الشاعر، ومراكمة الشاعر لثرائه فيما يكتسبه من قراءات وتجارب.
■ في ديوانِكَ «حقول الجسد» بدَت الانفعالات الوجدانيةُ طاغيةً، بحيث شغلتْ مساحة واسعة من نصوصِ القصائد، وذلك ما يوحي بأنّ هناكَ كائناً يتراءى قبل كتابتِها، فمَن هو ذلك الكائنُ السحريّ؟
– «حقول الجسد» ديوانٌ في الغزل، في المرأة. ومن البديهيّ أن تكون الانفعالات هي الطاغية، وأن يكون الوجدان سيّداً. إننا نقارب الغزلَ كما نقارب المرأة، بخفر وحذر وبُعد نظر. والشعر، في هذه الحالة، يأتي كما انفجار الشموس وارتعاد الزلازل. كأنّ براكينَ خفيّةً تشتعل في غفلة من الوعي، لتوقظ النيام، وتحرق في طريقها كلّ شيء. وتأتي القصيدة كأنها ولادة استثنائيّة لحدثٍ استثنائيّ. والمدهش في الأمر، أن كلّ قصيدة تبدو وكأنها الأولى على الدوام. وكأنّ الولادة التي تجري مع كلّ قصيدة هي الولادة الأولى. وليس بالضرورة أن يكون المحرّكُ واحداً. فحين يجتمع شياطين الشعر وملائكته، ينهمر مطرٌ من النساء، وتعصف محيطات صاخبة من المسمَّيات. في الغزل، المرأة بالمطلق هي الكائن السحريّ الذي يشعل فتيلَ الكلمات ثمّ يختفي. في الغزل، لا نكتب لأمرأةٍ بعينها على الدوام. وإنما نكتب لكلّ النساء.
■ كيف تأسّست الذائقة الشعريّة لدى مُبدع «حقول الجسد»؟
– أذكر أني كتبت القصيدةَ الأولى وكنت في الثانية عشرةَ من عمري. كانت محاولة طفولية يائسة، حرّكتها آنذاك تردّدات مأساة الشعب الفلسطيني. عشقتُ اللغة العربيّة، ولا أزال. ورغم ميولي العلميّة أثناء الدراسة، فقد اتجهت نحو التخصّص في اللغة العربية وآدابها. وكنت مولعاً بالقراءة إلى حدّ الهوس. وهذا ما مكّنني من أمرين معاً، الأوّل بناء مكتبة تزيد عن عشرة آلاف كتاب. والثاني مراكمة الذائقة الأدبية لديّ على وجه العموم، والشعريّة على نحو أخصّ. ونتيجة لدراستي الجامعية في حقل اللغة العربية وآدابها، أُتيحت لي فرصة التعرف على الشعر العربيّ، منذ العصر الجاهلي وحتى عصرنا الحديث.
■ مَن مِنَ الشعراء استوقفكَ أكثر؟ بمعنى أنّكَ تعمّقتَ بقراءته أو الإبحار في مُنجَزِه أكثر من غيرِهِ من الشعراء.
– لكلّ شاعر هويّة ومذاق مختلف. وقد شرّعت لي دراستي الجامعية الأبوابَ واسعةً للغوص في التراث الشعريّ العربي منذ البدايات، وللتعرّف بشكل أدقّ على نتاج الشعراء ومقاربة قصائدهم بعمق. واللافت أن لكل شاعر ميدانه الأثير. فالمتنبي للحكمة والفخر، وعنترة للفروسية، والمثلث الأموي (الأخطل وجرير والفرزدق) للتهاجي، وجميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة للغزل. ومن الشعراء المحدثين يبرز نزار قباني بلا منافس شاعرَ المرأة والكلمة الأعلى صوتاً والأشدّ جرأة. ويظل الشاعر العراقي المشاكس مظفّر النوّاب الأكثر تأثيراً، لما تختزنه قصائدُه من ثورة مدمّرة على الواقع العربيّ السائد، ومن تعريةٍ حادّة لما استتر من تداعيات هذا الواقع وإرهاصاته. كما تُطل التجربة الرائعة لشعراء الجنوب اللبناني (شوقي بزيع، حسن العبدالله وغيرهما) في إظهار الصورة الزاهية والمريرة في آنٍ لمعاناة الجنوبيين وانغراسهم في ثرى أرضهم رغم قسوة الإحتلال.
■ نلاحظ أنّ هناك انحساراً واضحاً في جمهور المتعاملين مع الشِعر، قِراءةً أو متابعةً، كيف تنظرون إلى هذه الحقيقة المُرّة؟ خصوصاً من جهة ارتباطِها بتخلّف أو تقدّم المجتمع العربي.
– للشعر فرادته. لكنه يظلّ جزءاً من كينونة الأدب والفكر. ويطال الشعر من الانحسار ما يطال سواه. الأزمة التي نمرّ بها عنوانها أزمة المجتمع، أزمة الإنسان، أزمة الذائقة العامة. ولا يختلف اثنان في أنّ ما تعانيه مجتمعاتنا العربية ينصبّ بالدرجة الأولى على حالة الهزال والتردّي التي تغرق فيه. في كلّ شيء. أنظر حولك. إسمع ما يتردّد في وسائل الإعلام. ولسوف ترى كلّ شيء هابطاً في القيمة والمستوى. الفنّ هابط. والشعر هابط. وكلّ شيء هابط. ومما يؤسف له أن يتمّ الترويج للسخيف السخيف من حثالة الكلام والشعر والموسيقى. هل ما نسمعه ونقرأه هو الفن والشعر والفكر والأدب؟ لا أعتقد أن عاقلاً يعجز عن العثور على جواب للسؤال. الشعر والفنّ والأدب مرآة تعكس صورة المجتمع. وهذا الغزو الهجين الذي تتعرّض له مجتماعاتنا دليل جليّ على حجم التخلّف الذي نعانيه.
■ ماهو مستقبل الشِعر العربي في رؤيتكم؟ وما العوامل التي تؤثّر في ذلك سلباً أو إيجاباً؟
– ذات يوم، قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً، قال مظفّر النوّاب في وتريّاته: «سيكون خراباً. سيكون خراباً. سيكون خراباً. هذي الأمّة لا بدّ لها أن تأخذ درساً في التخريب». كأنّه كان نبيَّ الأمّة. فما نواجهه من انحدار مُسِفٍّ في كل القيم يُظهر مقدارَ الخراب الذي حاق بنا. فعندما نسمع مطربة ننظر في جسدها لنقيّم جودةَ أدائها. وعندما تطفو إلى السطح حثالة الشعر والأدب، تبعاً لسطحيّة الذوق العام، نكاد نشعر باليأس حيال ما ينتظرنا! إلى أين نحن ذاهبون؟ وهل من بريق أمل يلوح في الآفاق البعيدة؟ وهل للشعر على وجه الخصوص، من مستقبل يُبشّر بالخير؟ تصعب الإجابة. ولكن يبقى التعلّق بحبال الأمل، وإن كانت واهيةً. ويبقى انتظار الخلاص، شمسنا التي نشتهي، أن تسطع ذات إشراق صباح، لتعلن بدء المسار نحو زوال الغيمة الكئيبة التي تثقل أوزارنا. ومن البديهيّ القول أنّ بارقة الأمل ينبغي ألاّ تخبو. وطالما أنّ هناك، ولو نزراً يسيراً من الشعراء، ممن يتأبط قضايا أمته خيراً بين خافقيه، ستطلع الشمس ذات نهار.
■ بماذا تنصح الشعراء الشباب؟
– فليكن الشعر مئذنةَ الأمل. وليكن الكلام من يُشعل الحقيقة. الشعر هو نتاج المرحلة. لكنه، في الوقت نفسه، الصوت الصارخ في بريّة هذا العالم. لا تنصح شاعراً ماذا يتوجّب عليه أن يكتب. ليكن فقط صادقاً مع نفسه. ليبحث في خلجات روحه عمّا تواجهه أمّته. ليصوّب كلماته نحو كبد الحقائق الكامنة. وليسدّد بوصلتَه باتّجاه استعادة ذلك الوهج الهادر الذي كان للشعر في تاريخٍ سبق.
■ سؤال أخير: ما جديدك؟
– ديوان جديد قيد الطبع، سيبصر النور قريباً. وهذه المرّة ليس ديواناً في الغزل. وإنما قصائده تتراوح بين الوطنيات والإخوانيات وسوى ذلك.
Leave a Reply