تشي الأحداث الجارية على امتداد الشرق الأوسط، بأنّ ثمة متغيّرات جديدة، بدأت ترخي بظلالها على هذه المنطقة الملتهبة بالصراعات، وبدأت معها نتائج زيارة دونالد ترامب إلى السعودية في الظهور، وهو ما تبدّى خلال الأيام القليلة الماضية، من خلال تطوّرات دراماتيكية، تجاوزت ميادين الاشتباك الرئيسية، سواء في سوريا أو اليمن، أو حتى في العراق وليبيا، وتعكس قراراً أميركياً بفتح جبهات جديدة لحروبها القذرة، لكن هذه المرة برأس حربة سعودية ظاهرة.
هذا على الأقل ما يمكن استخلاصه من تطوّرين خطيرين من المرجح أن يصبحا عنواناً للاشتباك الإقليمي، وربما الدولي، خلال الفترة المقبلة، وهما التصعيد السعودي غير المسبوق ضد قطر، والذي يؤسس لقواعد لعبة جديدة، تريدها السعودية مختبراً لفرض هيمنتها على باقي الدول الخليجية وجلبها إلى بيت الطاعة، عبر فرض الحصار والعزلة. أما التصور الثاني البارز فهو التصعيد الأخطر ضد إيران والمتمثل في الهجمات «الداعشية» التي استهدفت مبنى البرلمان ومرقد الإمام الخميني، والتي لا يمكن إلا ربطها بالتهديد الذي أطلقه ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قبل فترة، من أن السعودية ستنقل المعركة إلى داخل إيران.
وبطبيعة الحال، فإنّ المنطق العام، يدفع باتجاه ربط التصعيد السعودي ضد قطر، بما حدث في العاصمة الإيرانية، أقّله لجهة التزامن من جهة، والهدف المشترك من جهة ثانية، وهو ما يشي بأنّ الاشتباك الإقليمي مرشّح لمزيد من التصاعد، فلا المحور المضاد للسعودية (تركيا وقطر) سيقبل بفرض هيمنة جنونية ترسّخ موقع نظام آل سعود على الخريطة الشرق أوسطية، ولا المحور المقاوم للهيمنة الأميركية سيقبل بمحاولات تغيير قواعد اللعبة، لاسيما أن ما يجري يمثل اختراقاً لكل الخطوط الحُمر.
الأزمة الخليجية
فيما يتعلق بالأزمة الخليجية، فمن الواضح أنها باتت تسلك مساراً تصاعدياً يصعب رصد نقطة الذروة فيه، وهو ما يتبدّى، على وجه الخصوص، من خلال سلسلة المواقف والتحركات المرافقة لقرار قطع العلاقات مع قطر، ولا سيما الغطاء الواضح، الذي منحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، للمضي قدماً في إجراءات عزل الإمارة الخليجية، بعدما ربطها بالتنظيمات الإرهابية، وتحديد السعودية شروطاً تعجيزية على الشيخ تميم بن حمد، لو قبل بها، فيصبح مجرّد فرد من حاشية السعودية، وبالتحديد خادماً في بلاط محمد بن سلمان.
وفي أوّل تعليق مباشر على الأزمة الخليجية، كتب ترامب في تغريدتين عبر حسابه على موقع «تويتر»: «من الجيّد أن نرى أن الزيارة إلى السعودية (للقاء) الملك و(زعماء) 50 دولة، تأتي بثمارها بهذه السرعة. قالوا إنهم سيأخذون موقفا حازماً من تمويل التطرف، وكانت كافة الإشارات تدل على قطر. ربما سيكون ذلك بداية نهاية رعب الإرهاب!»
وفي تغريدة أخرى، قال ترامب: «خلال زيارتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط، أكدت أنه لن يكون ممكنا أن يكون هناك أي تمويل للأيديوجيا الراديكالية بعد الآن. وأشار الزعماء إلى قطر – انظروا!».
هاتان التغريدتان تكشفان النقاب عن كثير مما يدور في أروقة قصور ملوك وأمراء ومشايخ النفط، إذ تؤكدان أولاً بأنّ الأزمة بين السعودية وقطر سابقة على «الاختراق الالكتروني» الذي أشعل الحرب الإعلامية بين السعودية وقطر، والتي سرعان ما اتخذت منحى آخر بعد قرار قطع العلاقات، وتعكسان ثانياً، قراراً أميركياً بفرض قواعد جديدة على المنطقة العربية، بما في ذلك دول الخليج، في سياق الحرب المعلنة من قبل إدارة ترامب ضد إيران.
ومن الواضح أن قطر قد باتت في وضع لا تحسد عليه، وهي المخيّرة بين «العزلة» و«الوصاية»، خصوصاً أن إجراءات قطع العلاقات من قبل السعودية والإمارات والبحرين وكذلك مصر والعديد من الدول العربية وضعها في موقع حرج.
وفي هذا السياق، يبدو مؤكداً أن الرياض والعواصم الخليجية والعربية الحليفة ستواصل الضغط السياسي على قطر حتى النهاية، وقد تلجأ إلى خطوات أخرى في اتجاه تهيئة الظروف لإحداث تغيير جذري في قطر يتم بموجبه إزاحة الأمير الحالي تميم بن حمد آل ثاني عن طريق استغلال تناقضات داخلية. وربما تفكر الدول الجارة الثلاث في ممارسة ضغوط أقوى على قطر، ومحاولة عزلها سياسياً واقتصادياً على المدى البعيد بما في ذلك طردها من مجلس التعاون الخليجي.
وإن حدث ذلك، فستكون قطر حجر الدومينو من بين الدول الخليجية التي ستخضع الواحدة تلو الأخرى لهيمنة آل سعود. ولا شك في أن تحرّك الكويت –وربما عُمان– لاحتواء الأزمة، يتجاوز مجرّد الوساطات المغلفة بشعار «الأخوة»، فالدولتان الخليجيتان تدركان جيداً أنه في حال قدر للسعودية الانتصار في معركتها ضد قطر، فالدور سيأتي لاحقاً عليهما، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر تتعدى الإطار المحلي، لكونها ستضع شبه الجزيرة العربية كلها تحت هيمنة شاب متهوّر: محمد بن سلمان الذي تُهيأ له كل الظروف المؤاتية لخلافة أبيه العجوز.
أحضان إيران
وتشي الخطوات السريعة من قبل الثنائي سلمان–ترامب لترتيب الجبهة الخليجية، بما يخدم السعودية، بأن ثمة رغبة في تسريع المواجهة مع إيران، التي تشكل عنواناً أساسياً من الاشتباك الخليجي القائم. ولعل الهجمات الداعشية على قلب العاصمة الإيرانية، تؤكد الترابط بين ما يجري على خط الدوحة–الرياض ومحاولة عزل قطر ورميها في أحضان إيران، وبين الحرب المفتوحة المعلنة ضد الجمهورية الإسلامية.
وليست مصادفة أن تأتي الهجمات «الداعشية» بعد ساعات على إعلان إيران استعدادها للمساهمة في فك العزلة عن قطر، من خلال تزويدها بحاجاتها من المواد الغذائية، التي تشكل نقطة الضعف الأساسية للإمارة الخليجية، بعدما أجمع المراقبون على أنها ستكون قادرة على تجاوز –أو على الأقل احتواء– تداعيات الحظر، عبر تغيير مسار الرحلات الجوية (عبر الأجواء الإيرانية أيضاً)، والاحتفاظ بقدرتها على تصدير النفط والغاز.
وإذا كانت الخطة الأميركية–السعودية قد رسمت بدقة متناهية، إلا أنها تتجاهل، على ما يبدو الكثير من الجوانب، التي تشكل نقاط ضعف يمكن أن تجعل السحر ينقلب على الساحر.
ولعل التحرك الإيراني، ومن بعده التركي، تجاه قطر، والموقف الروسي الحاسم الذي يقترب من التحذير بعبارات ديبلوماسية من خطورة التصعيد، ناهيك عن الفتور الأوروبي في تأييد الإجراءات السعودية، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تموضعات جديدة، في خريطة التحالفات أو التقاطعات، لن تصب بالتأكيد في مصلحة الثنائي السعودي–الأميركي.
وإذا كانت زيارة ترامب للرياض، قد سمحت لنظام آل سعود بإعادة تجديد الاستراتيجية السعودية، القائمة على تحالف وثيق مع الولايات المتحدة –منذ اللقاء الشهير بين الملك عبد العزيز والرئيس تيودور روزفلت في منتصف الأربعينات– وذلك بعد انتكاسة تعرّضت لها العلاقات السعودية–الأميركية في أواخر عهد باراك أوباما، فإن هذا التجديد ربما يتجاهل المعطيات الجيوسياسية المستجدة في القرن الحادي والعشرين، وأبرزها ظهور لاعبين إقليميين ودوليين لا يمكن الاستهانة بقدراتهم، والمقصود بذلك إيران وروسيا وتركيا.
ويبدو واضحاً أن لعبة الشطرنج الإقليمية باتت أكثر دقة، وفيها لاعبين من الطراز المحترف، وهذا على الأقل ما تشي به المواقف المضادة للتحرك السعودي ضد قطر، والذي أكسب الإمارة الخليجية الصغيرة، بعضاً من الثقة، في علاقتها مع جارتها الكبرى.
الثقل التركي
وليس تفصيلاً هنا أن تنبري إيران إلى نجدة قطر، برغم الخلافات الكبرى بين الطرفين، لوأد الخطة السعودية–الأميركية، طالما أنّ ثمة مصلحة للجمهورية الإسلامية في ذلك. وليس تفصيلاً هنا أن تلقي تركيا بثقلها في الأزمة السعودية–القطرية، عبر خطين، الأول وساطة بدأها رجب طيب اردوغان لرأب الصدع، والثاني قرار بتعزيز تواجد القوات التركية في قاعدتها داخل قطر.
وفي ظل هذه التحولات في العلاقات الإقليمية، فمن الجائز أن تترك الأزمة الخليجية تداعياتها على ما يتجاوز الخليج فحسب، ففي ظل الهجمة الأميركية الجديدة، التي تتم عبر الأداة السعودية، قد تجد تركيا نفسها مرغمة على تحديد سياساتها بشكل واضح، وأن تعيد تموضعها الإقليمي، وربما الدولي، لجهة التوصل إلى تفاهمات مع إيران وروسيا حول قضايا محددة. وقد يصل الأمر في نهاية المطاف إلى تطوير الاستقلالية التركية القائمة حالياً، عن الحلف الأطلسي، باتجاه استقلال كامل، خصوصاً إذا ما اختار رجب طيب أردوغان، للحفاظ على مشروعه، اللجوء إلى تحالف الضرورة مع كل من إيران وروسيا، بحيث يصبح قوة وازنة في «المعسكر السني» (الذي تريد السعودية الهيمنة عليه بعد انحسار موجة الربيع العربي)، ويدفع باتجاه نشوء قيادة تركية لمعسكر سني واسع يمتد من الشرق الأوسط إلى دول آسيا الوسطى، ويتقاطع في مصالحه مع روسيا من جهة، ومع المعسكر السعودي المتحالف مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.
ولا شك في أن ذلك سيعيد خلط الأوراق في الكثير من ملفات المنطقة العربية، وقد يؤجج الاضطرابات في بعض المناطق الحساسة، ويهدئ الأوضاع في مناطق حساسة أخرى… ولكنه من دون شك سيجعل حالة الاستقطاب الخطيرة في الشرق الأوسط أشد ضراوة.
هل تستسلم قطر؟
قال وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الخميس الماضي إن التوتر بين قطر ودول الخليج يهدد استقرار المنطقة بأكملها.
وأضاف آل ثاني للصحافيين في الدوحة أن الدبلوماسية لا تزال هي الخيار المفضل لقطر، مشيراً إلى أنه لا يمكن حل الأزمة بأي خيار عسكري، مؤكداً أن هدف القوات التركية القادمة إلى قطر هو «إرساء الأمن في المنطقة».
وتابع آل ثاني «قطر لم تشهد هذا النوع من العداء» من قبل، مضيفاً «نحن غير مستعدين للاستسلام، ولن نتخلى عن استقلالية سياساتنا الخارجية».
وأكد الوزير أن إيران مستعدة لتزويد بلاده بمواد غذائية وستخصص ثلاثة موانئ لقطر، لكنه أضاف أن الدوحة لم تقبل هذا العرض بعد.
وفي تطور آخر، أعلنت روسيا أن وزير الخارجية القطري سيتوجه إلى موسكو لإجراء محادثات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف يوم السبت (مع صدور هذا العدد).
Leave a Reply