توريث بتريليون دولار. نصف المبلغ لدونالد ترامب، والباقي موزّع بين جوائز ترضية للخاسرين، ورشاوى مباشرة للأمراء، وأخرى غير مباشرة للعسكريين والموظفين العموميين.
هكذا اكتمل الفصل ما قبل الأخير من «انقلاب الفجر» في السعودية، بانتظار الخطوة الأخيرة، التي ستكرّس محمد بن سلمان ملكاً، إما على طريقة «مات الملك عاش الملك»، أو بالتنحي عن العرش من الأب إلى الابن، الذي بات ولياً للعهد بسلطات قيصرية.
لم يكن قرار الفجر الأخير، بترفيع محمد بن سلمان ولياً للعهد، على حساب ابن عمّه محمد بن نايف، مفاجئاً تماماً، فسلسلة القرارات التي اتخذها الملك سلمان، حتى قبل توليه العرش خلفاً لأخيه عبدالله، كانت تشي كلها بأن الشاب المتهوّر، قد وُضع على الطريق السريع الذي يقود إلى المُلك على حساب أبناء عمومته.
التمهيد للملك الشاب
مبكراً، بدا سلمان راغباً في وضع ابنه على هذا الطريق. لعلّ السديري السادس، كان يدرك أن حكم أخيه الملك عبدالله، سينتهي في غضون سنوات قليلة، بعدما أثقله المرض، وكذا الحال بالنسبة إلى أشقائه الأعلى مرتبة في سلم الحكم، ولي العهد سلطان (الذي توفي في العام 2011)، ونايف (الذي توفي في العام 2012).
كان سلمان ينتظر أن يؤول المُلك إليه، لا سيما بعدما صار ولياً للعهد بوفاة الأمير نايف، وهو ما تحقق فعلاً، يوم توفي عبدالله، وانتقل العرش إليه. يومها، لم يخالج أحد الشك، بما في ذلك سلمان نفسه، أن سنوات حكمه لن تكون طويلة، بالنظر إلى تقدمه في السن ومرضه، فكان لا بد، والحال كذلك، من ضمان انتقال العرش إلى أحد ذريته، ولكن ذلك ما كان ليتحقق دون إبعاد المنافسين المحتملين، بدءاً بأخيه الملك مقرن، مروراً بأبناء الملك عبدالله (الأمير متعب على وجه الخصوص)، والأهم من هؤلاء، الأمير محمد بن نايف.
كان لا بد من صفقة ما مع بن نايف، وهو ما حدث بعد أشهر قليلة على اعتلاء سلمان العرش، فكان أن أطيح بمقرن، في واحد من قرارات الفجر الكثيرة التي ميّزت الأوامر الملكية لسلمان، وصارت الخلافة محصورة بالمحمدين: محمد بن نايف (ولي العهد) ومحمد بن سلمان (ولي ولي العهد).
ولا شك في أن محمد بن نايف لم يكن بتلك السذاجة التي تدفعه إلى التفكير في أن أمور المُلك والتوريث قد استقرت على ذلك، فالانقلاب الجديد عليه، لم يكن سوى مسألة وقت. ولعلّ ما عزز هذا التوقع، هو الصعود السريع لمحمد بن سلمان نحو العرش.
وفي الواقع، فإن سلمان وضع ابنه على هذا الطريق مبكراً، فمنذ العام 2007، بدأ محمد بن سلمان يترقى في المناصب الرسمية فشغل منصب مستشار متفرغ في هيئة الخبراء بمجلس الوزراء (2007)، ثم المستشار الخاص لوالده أمير منطقة الرياض (2009)، وبعدها الأمين العام لمركز الرياض للتنافسية والمستشار الخاص لرئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز، كما بات عضواً في اللجنة التنفيذية العليا لتطوير محافظة الدرعية.
وفي الثالث من آذار العام 2013، صدر أمر ملكي بتعيينه رئيساً لديوان ولي العهد (الأمير سلمان حينها) ومستشاراً خاصاً له بمرتبة وزير، وبعد أشهر قليلة عُين مشرفاً عاماً على مكتب (الأمير سلمان أيضاً)، ثم صدر في العام 2014 أمر ملكي بتعيينه وزيراً للدولة عضواً في مجلس الوزراء، مع احتفاظه بمناصبه السابقة.
وبعد أقل من أسبوع من جلوس والده على العرش، صدر أمر ملكي في 23 كانون الثاني (يناير) العام 2015، بتعيينه وزيراً للدفاع، ورئيساً للديوان الملكي ومستشاراً خاصاً لوالده الملك سلمان بن عبدالعزيز بمرتبة وزير. وبعد أسبوع، صدر أمر ملكي بالتشكيل الوزاري الجديد، فاستمر الأمير الشاب في منصبه وزيراً للدفاع، وصدر أمران ملكيان بإنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وتكليفه برئاسته.
وفي 29 نيسان العام 2015، أصدر الملك سلمان أمراً ملكياً باختيار ابنه ولياً لولي العهد، وتعيينه نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، وزيراً للدفاع، ورئيساً لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
حرب اليمن ورؤية ٢٠٣٠
هكذا فُتح المجال أكثر للديوان الملكي في تقديم الأمير الشاب بصورة «القائد» القادر على تولي العرش، فبعد شهرين على تعيينه وزيراً للدفاع، بات اسمه مرتبطاً بالحرب على اليمن، من خلال تحالف عربي–اسلامي هو الأول من نوعه في تاريخ المملكة السعودية.
وهكذا فتحت أبواب العواصم العالمية أمام محمد بن سلمان، بعدما كانت حكراً على محمد بن نايف، من الجيل الثاني في الأسرة الحاكمة.
ولكن طموحات الأب والابن بدت أكبر من مجرّد تقديم الأمير الصغير بصورة «القائد العسكري»، فالكل كان مدركاً بأن المجتمع السعودي بات مثقلاً بأعباء اقتصادية واجتماعية كثيرة، تبدأ من القلق على مستقبل المملكة، ولا تنتهي عند تململ الفئات الشابة من القيود المحافظة، التي جعلتهم على مسافة قرون من النمط الاستهلاكي والترفيهي السائد في الغرب.
على هذا الأساس، كان لا بد أن يستغل محمد بن سلمان هذه الاعتبارات، وأن يقّدم نفسه، كـ«رجل اقتصاد» يرفع بعض شعارات «الليبرالية»، بنسخة سعودية، فيصبح بذلك نقيضاً لمحمد بن نايف المتمسك بالتقليد، والذي بات القائد الفعلي للجناح المحافظ في العائلة الحاكمة، والخيار الأكثر تفضيلاً للمؤسسة الدينية الوهابية.
انطلاقاً من ذلك، رُوّج لمحمد بن سلمان بوصفه مهندس ما سُمي «رؤية السعودية 2030»، وهي خطة «إصلاحية»، لما بعد اقتصاد النفط في المملكة السعودية، وقد ضعها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، برئاسة الأمير الشاب، وجرى عرضها على مجلس الوزراء، برئاسة الملك سلمان.
قبل ذلك، راح محمد بن سلمان يقتحم الكثير من المؤسسات المتعددة الصعد في السعودية، فتولى رئاسة مجلس إدارة مركز الملك سلمان للشباب، ثم عُين في منصب نائب رئيس جمعية الملك سلمان للإسكان الخيري رئيساً للجنتها التنفيذية، وعضواً في مجلس إدارة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في الرياض، وعضواً في المجلس التنسيقي الأعلى للجمعيات الخيرية في الرياض. وشغل مناصب خيرية عدة في جمعيات مختلفة.
والأهم من ذلك، فقد بدأ محمد بن سلمان باتخاذ خطوات مجتمعية أكثر انفتاحاً، جعلت الفئات الشابة تجد فيه المخلص من قيود «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهو ما رصدته صحيفة «لوموند» الفرنسية، في تقرير أصدرته قبل أسبوعين، تحت عنوان «معركة الترفيه»، وتحدثت فيه عن الصراع الخفي والعلني بين التيار الانفتاحي، الراغب في جعل السعودية مجتمع ترفيه، والتيار المحافظ، المدعوم من المؤسسة الدينية.
وانطلاقاً من ذلك، نجح بن سلمان من توسيع الطريق المؤدي إلى العرش، فصار هو ذلك الشاب التجديدي، المتفهم لتطلّعات الشباب السعودي، في مقابل التيار المحافظ/الديني، الذي ينكر على هؤلاء حقهم في الترفيه أبعد من «شرب الشاي في الصحراء»!
ومن خلال كل ما سبق، بات محمد بن سلمان ممتلكاً لكافة أوراق اللعبة الداخلية –لا سيما أن توجهاته ارتبطت بتغييرات على مستوى أجهزة الحكم، شملت تعيينات جلّها من فريقه– وكذلك على المستوى الخارجي، حيث بات الأمير الشاب الوحيد القادر على قرع أبواب البيت الأبيض والكرملين، على حد سواء.
ولكن الخطوة الأخيرة، أي عزل بن نايف وترفيع بن سلمان، كان لا بد أن تنتظر التوقيت المناسب، فكانت زيارة دونالد ترامب إلى السعودية، وما رافقها من صفقات عسكرية واستثمارية ضخمة، فرصة لشراء المنصب الملكي الجديد من دونالد ترامب.
بذلك، أتت المباركة الأميركية لصعود محمد بن سلمان إلى عتبة عرش أبيه. وهذه المباركة نفسها، هي ما جعلت أيدي منافسي الأمير الشاب مكبّلة. فلطالما كان محمد بن نايف يستند في نفوذه إلى الورقة الأميركية، التي فقدها بعد زيارة ترامب، وهو ما جعله «يبتلع موسى» الطريقة المهينة التي أخرج عبرها من الحكم. وإذا ما صدقت المعلومات المسرّبة من داخل البلاط الملكي، بشأن دفع أكثر من مئة مليار دولار لولي العهد المخلوع، يكون محمد بن سلمان قد «باع» سكوته بثمن باهظ، تماماً كما باعه دونالد ترامب بـ400 مليار دولار.
مزيد من المغامرات المتهورة؟
علاوة على ذلك، فإن «قرارات الفجر» استلزمت، على ما يبدو، من قبل الأب والابن، تقديم رشاوى مماثلة لباقي الأمراء، وأخرى، هذه المرّة غير مباشرة، للعسكريين والموظفين العموميين، عبر اعادة دفع المكافآت بأثر رجعي، بعد توقيفها بالنظر إلى العجز في الميزانية.
إلى جانب ذلك، كان لا بد من تسوية معلنة، لحفظ ماء الوجه، شملت تعديل نظام الحكم، بشكل يحظر شكلياً على محمد بن سلمان تولية عهده لأحد فروعه، وهو إجراء لن يكون صعباً على الملك الجديد إلغاءَه في اللحظة التي يقترب فيها من الرحيل… ربما بعد نصف قرن!
بذلك بات ممكناً لسلمان وابنه احتواء، لا بل وأد، أي تمرّد داخلي. ولكن الأمور قد لا تكون بهذه البساطة، فالإجراءات التي يتوقع أن يتخذها الملك الجديد، سواء قبل اعتلائه العرش، أو بعد ذلك، قد تدفع بالتناقضات الداخلية إلى مرحلة متقدمة، لا سيما في ظل التصعيد المستمر في السياسة الخارجية، سواء في حرب اليمن، التي باتت «فيتنام السعودية»، أو في العلاقة مع الخليجيين، وهو ما كشفت عنه الأزمة الأخيرة مع قطر، وكذلك مع إيران، بعدما توعد بن سلمان بنقل المعركة إلى داخلها… وليس آخراً تراجع النفوذ السعودي في دول حساسة في الإقليم، لعل أبرزها انهيار أدواتها في سوريا.
وعلى المستوى الداخلي قد تكون المعركة أشد، في ظل قلق المؤسسة الدينية الوهابية، من الإجراءات «الليبرالية» الأخيرة، التي جعلت نفوذها يتراجع بشكل كبير، وهو ما يعد خرقاً للميثاق التاريخي بين آل سعود والوهابيين، بشأن تقاسم الحكم، والمستمرة، منذ المملكة السعودية الأولى، وحتى اليوم.
وثمة اعتقاد يقترب من اليقين، داخل السعودية وخارجها، بأن تولي محمد بن سلمان الحكم، سيفتح الباب أمام مزيد من المغامرات المتهورة، فالتحالفات الجديدة –وفي القلب منها إسرائيل التي استقبلت الأنباء الواردة من السعودية بفرح شديد– باتت أسسها جاهزة، وطبول الحرب مع إيران في تصاعد لا بل أن تهديد محمد بن سلمان قد ترجم في الهجوم الداعشي الذي ضرب قلب طهران فيما الأزمة الخليجية، قد ترتد سلباً على السعودية نفذها، لينقلب بذلك السحر على الساحر.
وأبعد من ذلك، فإن خطورة ما قام به سلمان وابنه جعلت مصير السعودية أكثر ارتباطاً اليوم بالولايات المتحدة أو بعبارة أكثر دقة، بمصير دونالد ترامب، الذي لا يبدو وضعه الداخلي في أفضل حال، ما يجعل كثيرين يعتقدون أن سقوط الرئيس الأميركي برلمانياً أو انتخابياً قد يدفع بالأمور في السعودية إلى نقطة الصفر، وحينها لا شك أن معارضي سلمان وابنه سيأخذون زمام المبادرة ثانية.
Leave a Reply