منذ حوالي الشهر، قررت أربع دول عربية بقيادة السعودية قطع العلاقات بمختلف أشكالها مع دولة قطر، وفرض عقوبات سياسية واقتصادية خانقة على الإمارة الخليجية الصغيرة التي تعتمد بشكل أساسي ومتواصل على استيراد السلع الضرورية للحياة اليومية لمواطنيها.
وكانت العلاقة بين قطر من ناحية، وبين السعودية والإمارات العربية ومصر من ناحية أخرى، قد توترت بشكل متصاعد على خلفية اتهام الدول الأربع للدوحة بأنها ليست متعاطفة مع الإرهاب وحسب، بل إنها متورطة في دعم الجماعات المتطرفة التي تشمل تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وفروعهما من التنظيمات المتشددة في سوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا، إضافة إلى دول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط. ومع أن قطر قد دأبت على إنكار تلك الاتهامات وحاولت دحضها في العديد من المناسبات، إلا أن الأزمة مرشحة لمزيد من التدهور ومنفتحة على احتمالات عديدة.. من بينها دق طبول الحرب.
ورغم أن الدول المقاطعة قد فرضت على قطر ما يزيد عن عشرة شروط لإصلاح العلاقات وإعادة المياه إلى مجاريها، إلا أن المطالبة بالإغلاق الكامل لشبكة الجزيرة الإخبارية قد جاء في مقدمة الشروط، وقبل الحديث عن أي وساطة يمكن أن تحدث، ما دفع العديد من المراقبين لوصف تلك الشروط بالتعجيزية وبأنها وضعت لكي لا تنفذ، في محاولة من السعودية وحلفائها لتصعيد الأزمة، وسد كل أبواب التسوية.
وقد بررت الرياض مطالبتها بإغلاق القناة التي تأسست في 1996 لكونها شكلت منصة لنشر الإيديولوجيات المتطرفة و«تطبيع» العلاقة بين الجماعات الإرهابية والمجتمعات العربية، ومحاولة شرعنة وجودها ومساعدتها في الوصول إلى سدة الحكم، لا سيما في بلدان «الربيع العربي» المزعوم، وذلك بموافقة الدوحة ومباركتها ودعم حكومتها السياسي والمالي لتلك الجماعات وقياداتها ومنظريها.
صحيح أن «قناة الجزيرة» منصة لجماعة «الإخوان المسلمين» مكنتهم من إسماع صوتهم بصوت عال في البلدان التي قمعتهم وصنفتهم على أنهم إرهابيون. ولكن الصحيح أيضاً أن النظام السعودي لا يستسيغ مبدأ «الرأي والرأي الآخر»، ويكن لها العداء الواضح. ولا شك في أن النظامين السعودي والمصري يرغبان في إغلاق القناة إلى الأبد، ويشاركها في هذا الموقف الكثير من الحكومات الراغبة في تصفية الحسابات مع القناة المشاغبة التي لعبت دوراً أساسياً في تهييج الشارع العربي واستنهاضه ضد الأنظمة الحاكمة في العديد من البلدان وفق الأجندة القطرية التي أسهمت في تخريب الشرق الأوسط.
وهذه الاتهامات رغم أحقيتها ومشروعيتها إلا أنه لا يمكن اعتبارها سبباً وجيهاً لإغلاق قناة إعلامية لا نتفق مع خطها التحريري.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن تجاهل الاتهامات الموجهة للنظام القطري والتغاضي عنها، إلا أن خصومه -لاسيما السعودية- متهمون بدورهم بارتكاب جرائم أكثر فظاعة، من بينها نشر العقيدة الوهابية المتطرفة في العالم وتشويه صورة الإسلام، ناهيك عن مساعدة وتمويل الإرهابيين في أكثر من مكان، وهو ما يؤكده تقرير صدر مؤخراً عن «جمعية هنري جاكسون» في لندن، والذي أفاد بأن السعودية تمول المراكز التعليمية المتشددة حول العالم، والتي تقوم بنشر إيديولوجية «تنطوي على الكراهية»، بحسب التقرير.
وبدورهم ينكر حكام الرياض -كما خصمهم القطري- تورطهم بدعم التطرف أو الإرهاب، ولكن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية في تسببهم وإسهامهم بإذكاء الصراعات الأهلية في العديد من البلدان العربية التي باتت كياناتها تواجه خطر الاندثار الكامل، إضافة إلى المآسي الإنسانية التي تسببت بمقتل وتشريد مئات الآلاف من السوريين واليمنيين والعراقيين.
في وقت سابق، وفي بداية ما يسمى بـ«الربيع العربي» اتخذ الحكام السعوديون والمصريون تدابير مماثلة لتكميم وجهات النظر المعارضة من خلال منع قناتي «المنار» و«الميادين» اللبنانيتين من البث عبر «قمر عربسات» الصناعي، وسط صمت دولي مطبق، لاسيما من قبل الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، التي لطالما رفعت شعارات حرية التعبير والصحافة والإعلام، والأنكى أن واشنطن سارعت حينها إلى الثناء على تلك العقوبة غير المبررة، في سلوك قد تتورع عنه أعتى الدول الديكتاتورية.
منذ ما يقارب الشهر، تواجه «الجزيرة» تهديدات شرسة بالإغلاق، ولكن وسائل الإعلام الأميركية تبدو وكأنها لم تسمع بهذا الخبر. وتغافل الإعلام الأميركي عن الخطر المحدق بـ«الجزيرة» يضعها هي نفسها في دائرة الخطر، تحت حكم رئيس لا يكن أي احترام لوسائل الإعلام، ولا يفوت فرصة للنيل منها والتشكيك بمصداقيتها.
وما من شك في أن الزيارة الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب قد شجعت حكام السعودية على اتخاذ هذه الإجراءات العدائية، ومن المخجل أن زعيم العالم الحر لم يشغل نفسه بالدفاع عن حرية التعبير التي تشكل الركن الأساسي في الدستور الأميركي.
قد نختلف مع الجزيرة، ولكننا نستنكر أية دعوة لإغلاقها وندين أية ضغوط لحجبها عن البث.
Leave a Reply