انقضت مهلة العشرة أيام، وكذلك فترة الـ48 ساعة الإضافية التي طلبها الوسيط الكويتي، لتُفتح الأزمة الخليجية على مزيد من التصعيد، لا سيما بعد «الرد السلبي» للدوحة على المطالب الثلاثة عشر التي قدّمتها «الدول المقاطعة» للحل، والتي بدت منذ البداية بمثابة دعوة الجار القطري الصغير، إلى الخضوع والعودة إلى الحظيرة الخليجية.
يبدو واضحاً أن رفض «لائحة المطالب»، التي «وُضعت لترفض أصلاً»، كما صرّح بذلك وزير الخارجية القطري، يعني أن فرص نجاح الوساطات قد تدنت إلى ما دون الصفر، ما يشي أن بالأيام المقبلة، قد تشهد تصعيداً غير مسبوق، في إطار تشديد تدريجي للعقوبات الاقتصادية، وبطبيعة الحال السياسية، وصولاً إلى سيناريوهات أخطر يجري تداولها في الأروقة الدبلوماسية، لتصل إلى درجة التدخل الاستخباراتي –وربما العسكري– لتغيير الحكم في الإمارة الخليجية المحاصرة.
على هذا الأساس، فإن الأيام المقبلة قد تكون حاسمة في تحديد مسار التصعيد. ولكن أيّاً تكن السيناريوهات المحتملة، فإن المهم، من الناحية الجيوسياسية، في ما يجري بين تلك الأنظمة العائلية، أن مركز الثقل في تناقضات الشرق الأوسط، وصراعاته، قد انتقل عملياً إلى مكان آخر، هو الجزيرة العربية وخليجها، بعد التغيرات الميدانية الهائلة في سوريا والعراق، وانهيار دولة داعش ومشروعها التدميري.
فالخلاف الخليجي–الخليجيي، بين أخوة «الخيمة الواحدة»، من شأنه أن يعيد خلط الكثير من الأوراق الإقليمية، لا سيما فيما يتعلق بالأزمة السورية، التي باتت محرّكاتها هامشية، مقارنة بمحرّكات الأزمة الخليجية.
تغير الأولويات
هذا الواقع، ليس مجرّد تحليل سياسي نظري، فانعكاسات الأزمة الخليجية على سوريا باتت واضحة، ويمكن مشاهدتها بالعين المجرّدة من جبهات القتال في الشمال السوري وجنوبه، أو في الأروقة الديبلوماسية وقاعات التفاوض، من أستانا… وصولاً إلى جنيف في وقت لاحق من الشهر الحالي.
وينطلق هذا التحوّل من واقع أن كافة القوى الإقليمية التي كانت فاعلة في تأجيج الصراع السوري –أو بعبارة أصحّ تلك التي انخرطت منذ البداية في حرب تدمير سوريا– قد باتت منشغلة بنفسها بعد فشل مشروع إسقاط الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد.
هذا الواقع، جعل المجموعات المسلحة المعارضة للنظام السوري، تعيش اليوم، أكثر المراحل إحباطاً وتخبطاً، بعدما فقد بعضها دعم قطر –التي تكافح اليوم من أجل التبرؤ من تهمة الإرهاب– وخسر بعضها الآخر دعم السعودية – التي باتت مواردها التخريبية مركزة على الانتقام من جارتها الصغيرة وعلى حفظ ماء وجه محمد بن سلمان في اليمن، فيما بات الدور التركي منصباً على إنقاذ الحليف «الإخواني» في الخليج كأولوية.
تفكك المعارضة السورية
هذا الإحباط، من جانب الجماعات المعارضة، تبدّى في مقال نشره موقع «الإخوان المسلمين»، أقرّ بأن «هذه الأزمة التي تتعرض لها الدول الخليجية كان لها أثراً كبيراً على المعارضة السورية بشقيّها السياسي والعسكري، التي كانت تعوّل دائماً على تحالف الدول الداعمة لها وتوافقها».
ويذهب المقال أبعد في التعبير عن الخيبة، إذ يقول «من المؤسف جداً أن نرى العرب يختلفون فيما بينهم، ولا يتوحدون في الوقت المناسب الذي هم فيه بأشد الحاجة للوقوف إلى جانب بعضهم البعض، فالأزمة التي تتعرض لها بعض الدول مع القضية السورية والفلسطينية هي العار بحد ذاته بحق العرب وقضاياهم المصيرية».
لكنّ الأمر يتعدى بالفعل مجرّد فقدان الدعم، فالخلافات الخليجية سرعان ما بدأت تتمدد باتجاه المجموعات المسلحة في سوريا نفسها. ومن المعروف أن قطر توفر الدعم لجبهات مختلفة، فأولاً داعم أساسي لـ«جبهة النصرة» وفصائل أخرى مرتبطة بها، وأما ثانياً فداعم أساسي للفصائل التابعة إلى ما يعرف بـ«معارضة الرياض»، التي باتت بدورها مزعزعة بفعل الخلاف الخليجي.
ولعلّ التأثيرات المباشرة للأزمة الخليجية قد تبدّت شرخاً في صفوف المعارضة السورية، وذلك على المستويين السياسي والعسكري.
وفي الشق السياسي، فإنّ التموضعات السياسية التي أفرزتها الأزمة الخليجية، تجعل من الصعب توحيد وجهات نظر المعارضين في أستانا أو جنيف.
ومن المعروف أن معظم قادة الفصائل المعارضة يقيمون إما في تركيا أو قطر أو السعودية وهذا ما سيعني أن مواقفهم ستكون مرتبطة بسياسات هذه الدول فيما بينها.
وبدا الشرخ سريعاً حين أرسل عدد من أعضاء وفد الهيئة العليا للمفاوضات رسائل انسحابهم، ما شكل انتكاسة سياسية كبرى.
وعلاوة على الشرخ الحاصل داخل الهيئة العليا للتفاوض، فإن الأزمة الخيجية أفرزت تناقضاً آخر بين «معارضة الرياض»، المدعومة سعودياً، والتي تشارك في مفاوضات جنيف، وبين «معارضة أستانا»، المدعومة من قبل تركيا، التي دخلت طرفاً أساسياً في الصراع الخليجي، بعد تدخلها لصالح الأمير تميم.
أما على المستوى العسكري، فلا يمكن فصل التوتر القائم على الجبهات المتداخلة عن الصراع الخليجي. ففي معرة النعمان في ادلب، على سبيل المثال، اندلع اقتتال عنيف بين «جبهة النصرة» المدعومة قطرياً، وبين «الفرقة 13» المدعومة سعودياً، سرعان ما امتد إلى مناطق أخرى. كذلك، شهدت مدينة الباب، الواقعة تحت سيطرة فصائل من «الجيش السوري الحر»، المدعوم من قبل تركيا، وبين الفصائل الأخرى المدعومة من قبل السعودية.
ولكن الانعكاس الأكبر تبدى في الغوطة الشرقية، التي شهدت اقتتالاً داخلياً أدى إلى مقتل مئات المقاتلين بين ميليشيات مدعومة من السعودية مثل «جيش الإسلام» وأخرى تدعمها قطر مثل «جبهة النصرة» و«فيلق الرحمن».
سيناريوهات
عند هذين المستويين تدفع الأزمة الخليجية الأمور في سوريا نحو سيناريوهين متداخلين.
السيناريو الأول، يتمثل في أن الصراع السعودي–القطري، وتأثيراته الإقليمية، سيجعل الحل السياسي للأزمة السورية أكثر تعقيداً. أما السيناريو الثاني، وهو امتداد للأول، فسيجعل الحل العسكري أكثر واقعية– خصوصاً أن تشتت المعارضات المسلحة، يعطي فرصاً أكبر للعمليات العسكرية للجيش السوري وحلفائه، الذي حقق خلال الفترة الماضية، انجازات إضافية، لا سيما على الجبهة الجنوبية.
عند هذا الحد، فإنّ الصراع الخليجي سيعيد خلط الأوراق، تمهيداً لإعادة توزيعها مجدداً، في سياق الاتصالات السياسية التي تتجاوز الشرق الأوسط. وانطلاقاً من ذلك، فإن الأيام المقبلة ستحمل الكثير من المتغيرات، التي تنتظر ما سيخرج عن اللقاء الأول بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، على هامش «قمة العشرين» في هامبورغ (مع صدور هذا العدد).
ومن المؤكد أن الملف السوري سيحتل الأولوية على جدول أعمال هذا اللقاء، الذي سيحسم الكثير من التساؤلات، المرتبطة بمستقبل العلاقات الروسية–الأميركية، وقد يمهد لصفقات وتسويات تمتد من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط.
ويبدو أن ما صدر من مؤشرات قبل هذا اللقاء الحساس، قد يجعل الأمور في سوريا تسير وفق الرؤية الروسية. وعلى هذا الأساس، كان ملفتاً ما نُقل عن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون من أن «روسيا وحدها تملك القدرة على تحديد مستقبل الرئيس بشار الأسد». ويلتقي ذلك مع ما صرّح به ثعلب الديبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر، الذي قام بمهمة غير رسمية بين ترامب وبوتين، حين شاطر الأخير رأيه القائل بأن إسقاط الأسد لن يحل مشاكل سوريا، وأن الأساس في الصراع القائم هو الجماعات الإسلامية المتشددة.
ومع ذلك، فإن التفاهم المبدئي الذي قد يخرج به اللقاء بين بوتين وترامب، بشأن الملف السوري، لا شك أن ترجمته على الأرض يبقى مرتبطاً بملفات أخرى، بينها ما هو مرتبط مباشرة بالصراع السوري، ومنها ما يتجاوز الشرق الأوسط بأسره.
الدور الإسرائيلي
لعل أقرب تلك الملفات، التي قد تسهل أو تعقد التوافق حول الحل في سوريا، هو محاولات إسرائيل لاستمرار الصراع الدائر في سوريا واستغلاله للتصويب على إيران، وبطبيعة الحال «حزب الله». هذه النقطة، ربما لا تشكل أولوية في اللقاء بين بوتين وترامب، ولكنها من دون شك، ستكون محوراً أساسياً في الاتصالات السياسية اللاحقة، لاسيما وأن ترامب قد أعلن في وارسو الخميس الماضي أنه يسعى إلى حل في سوريا، لا يكون مؤاتياً لمشاريع إيران التوسعية في المنطقة.
ولا يخفى أن هذا الأمر بات من المواضيع الخلافية بين الولايات المتحدة، التي تدعم الوجهة الإسرائيلية العدوانية، وبين روسيا التي باتت تنظر إلى محور المقاومة باعتباره محوراً حليفاً على المستوى الاستراتيجي، وقد صدرت مؤشرات عدّة من موسكو، خلال الفترة الماضية، بأن أي اعتداء على هذا المحور سيكون بطبيعة الحال اعتداء على روسيا ومصالحها في الشرق الأوسط.
ومن غير الواضح طبيعة التسوية التي قد يخرج بها اللقاء بين ترامب وبوتين في هذا السياق، ولكن الاعتقاد العام أن الموقف من إيران و«حزب الله» لا يحتمل سوى خيار من اثنين: إما أن تذهب الولايات المتحدة إلى حسم موقفها باتجاه التصعيد إرضاءً لإسرائيل، ما سيفجر أية تسوية أميركية–روسية لملفات المنطقة، أو أن تذهب إلى التهدئة، تسهيلاً لتفاهمات أخرى… وعندها لن يكون ممكناً تعويض الخسارة الإسرائيلية، إلا بجائزة خليجية، بدأت بوادرها تظهر مع بدء الأزمة الخليجية، من خلال تمهيد خليجي–سعودي لاحتمالات التطبيع مع إسرائيل.
Leave a Reply