أحداث ١٩٤٣ .. والعنصرية الوقحة
إعداد: أحمد السبلاني
في صيف العام ١٩٤٣، كانت ديترويت في أوجها صناعياً. كافة المعامل كانت قد تحولت إلى الإنتاج الحربي، وكانت المصانع تعمل ليلاً نهاراً لتسليح الجيش الأميركي والحلفاء على جبهات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت متاجر وشوارع المدينة تعج بالزبائن والمارة وبالحافلات التي تحولت إلى وسيلة النقل الرئيسية في ظل تقنين الوقود. كذلك كانت الأحياء مكتظة بحوالي مليوني نسمة، وكان قاطنوها عموماً يعيشون حياة عصرية مرفّهة مقارنة بباقي مدن العالم القديم الذي كانت تلتهمه نيران الحرب الكبرى.
ورغم الصورة الخارجية المبهرة التي بدت عليها ديترويت آنذاك كواحدة من أكثر مدن المعمورة ازدهاراً وحيوية وإنتاجية، إلا أن التوتر العرقي كان أشبه ببركان تحت الرماد، لاسيما مع الازدياد الكبير في أفواج الأفارقة الأميركيين الباحثين عن عمل في مصانع المدينة، مما أثار حنق العنصريين البيض من جهة، ومن جهة أخرى أدى إلى تنامي مشاعر الغضب والظلم لدى السود الذين عانوا من التهميش والتمييز العرقي على كافة المستويات، لاسيما في السكن الذي تحول إلى أزمة ضاغطة مع اكتظاظ أحيائهم البائسة وتدهور أحوالها في ظل نظام الفصل العنصري الذي أدى إلى تكدس حوالي ٢٠٠ ألف منهم على مساحة ٦٠ بلوكاً فقط، معظمهم في «وادي الجنة» الذي شكل امتداداً لحي «القعر الأسود» (بلاك بوتوم) عند المدخل الشرقي للداونتاون اليوم.
في ذلك الصيف القائظ، بلغ التوتر العرقي حد الغليان (راجع الجزء الأول). ولم تكن المشاعر الملتهبة بحاجة إلى أكثر من شرارة. وكانت الشرارة إشاعة، والأصح إشاعتان انتشرتا كالنار في الهشيم مساء الأحد ٢٠ حزيران (يونيو) ١٩٤٣، لينفجر الاحتقان العرقي في المدينة عن صدامات وحشية دامية تركزت في حي «القعر الأسود» ومحيطه، وانتهت بتدخل الجيش الأميركي لإخماد الاضطرابات التي اعتبرت أحد أسوأ التحديات الداخلية التي واجهتها الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية.
رعب على وودورد
كانت جزيرة «بل آيل» واحدةً من الأماكن القليلة في ديترويت التي يقصدها السود والبيض على حد سواء لقضاء الوقت والاستمتاع بعطل نهاية الأسبوع.
في ذلك الأحد الحار، وابتداء من الساعة ٣:٣٠ بعد الظهر، وقعت اعتداءات متفرقة في أنحاء المنتزه، غير أن دوريات الشرطة لم تتمكن من إلقاء القبض على أي من المعتدين رغم تلقيها بلاغات متلاحقة عن قيام شبان سود بالتحرش بآخرين بيض والاعتداء عليهم ثم التواري عن الأنظار وسط حشود الأفارقة الأميركيين في الجزيرة التي احتضنت ذلك اليوم حوالي ١٠٠ ألف زائر، ٧٥ بالمئة منهم من السود.
مع اقتراب موعد الغروب، ازدحم الجسر بآلاف الزوار العائدين إلى برّ ديترويت، فيما لجأت الشرطة إلى توقيف الشبان السود وتفتيشهم بحثاً عن المتسببين بالاعتداءات التي وقعت خلال ساعات النهار.
ووسط الازدحام والحر الشديدين والاستهداف العنصري من قبل الشرطة،، اندلعت مواجهات كرّ وفرّ استمرت عدة ساعات بين الشبان السود والبيض الذين احتشد الآلاف منهم عند مهبط الجسر ونشبت اشتباكات واسعة بالعصي والأيدي والسلاح الأبيض ابتداء من الساعة العاشرة ليلاً، وسرعان ما انخرط في العراك –ضد السود– بحّارة بيض متمركزون في قاعدة عسكرية مجاورة وسط جو من الفوضى العارمة.
مع انتصاف الليل، وصلت قوة كبيرة من شرطة ديترويت لفضّ المواجهات التي شارك فيها ما لا يقل عن خمسة آلاف شخص معظمهم من البيض، ولم تتمكن التعزيزات من تفريق الحشود حتى الساعة الثانية ليلاً باعتقال عشرات الأشخاص معظمهم من السود. غير أن الأمور كانت قد بدأت تفلت من السيطرة في قلب المدينة، وتحديداً في حي «القعر الأسود» والمناطق المحيطة إثر توارد الأخبار والإشاعات حول الاشتباكات المستعرة عند الجسر.
حوالي الساعة ١١:٣٠ ليلاً، أطلق رجل أسود يدعى ليو تيبتون إشاعةً كاذبة في ملهى «فورست كلوب» بـ«وادي الجنة»، أذاع فيها للحاضرين بأن سبب العراك المستعر هو قيام رجال بيض برمي طفل أسود وأمه من أعلى جسر بل آيل، داعياً إلى الانتقام.
فتأججت المشاعر المحتقنة، وتشكّل حشد من مئات السود الذين سرعان ما انتشروا في الحي وبدأوا بتكسير الواجهات ونهب المحال التي يملكها البيض في الشوارع المحيطة، لاسيما على شارع هايستنغز (الشريان التجاري الرئيسي لـ«وادي الجنة»)، كما قاموا بالاعتداء على سيارات البيض العابرة على شارعي وورن وفيرنور اللذين يحدان حي «القعر الأسود» من الشمال والجنوب، فيما تحرك بعض السود إلى شارع وودورد، حيث كان مئات البيض الغاضبين قد بدأوا بالتجمع على ضفته الغربية واعتراض سبيل أي شخص أسود يقوده حظه السيء إليهم ليوسعوه ضرباً وإهانة.
بوغتت الشرطة بأعمال الشغب والنهب المفاجئة التي شنتها عصابات السود على شارع هايستنغز بالتزامن مع محاولتها تفريق الحشود المتواجهة عند الجسر، فلم تتمكن السلطات من تدارك الموقف سريعاً تلك الليلة، وأخذت الأمور تتفاقم في «القعر الأسود» وجواره.
في المقابل، سرت إشاعة أخرى في حي «كاس كوريدور» الواقع إلى الغرب من وودورد أفنيو، والذي كان يقطنة بيض فقراء معظمهم من ولايات الجنوب، بأن شباناً سوداً اغتصبوا وقتلوا فتاة بيضاء على جزيرة «بل آيل» وقاموا بإلقاء جثتها في نهر ديترويت.
وعند منتصف الليل، بدأت حشود البيض الغاضبين بالتجمهر على الضفة الغربية من شارع وودورد أفنيو على وقع الأخبار القادمة من بل آيل، ورداً على أعمال النهب التي اقترفتها عصابات السود ليلاً، مهددين باجتياح حي «القعر الأسود» الواقع إلى الجانب الشرقي من الشارع.
تنامت أعداد البيض الغاضبين بكثافة، فيما كانت الشرطة لاتزال منشغلة بفض المواجهات عند الجسر.
وبحلول الساعة الرابعة فجراً، وفيما كان الزبائن يغادرون «سينما روكسي» على وودورد –غافلين عن الأحداث التي تعصف بالمدينة– باشرت عصابات البيض باستهداف الزبائن السود وضربهم ضرباً مبرحاً دون شفقة أو رحمة…
مع شروق شمس ٢١ حزيران، تضخم عدد البيض على وودورد إلى ١٠–١٥ ألف شخص، وراحوا يستهدفون السود العزّل الذين كانوا يتوجهون صباحاً إلى أعمالهم، فقاموا بإنزالهم من الحافلات العامة (ترمواي) واعتدوا عليهم بوحشية بالغة، كما قاموا بالاستيلاء على سياراتهم وقلبها وإحراقها وسط الشارع، فيما وقف عناصر الشرطة يتفرجون عاجزين عن السيطرة على الحشود الضخمة، ومكتفين بإنقاذ بعض السود من الموت المحتم دون اعتقال أي من المعتدين البيض.
في الوقت ذاته، كانت الشرطة تستخدم العنف المفرط لاستعادة الأمن على شارع هايستنغز، فيما اكتفى عناصرها بالانتشار ووضع العوائق والحواجز على طول شارع وودورد لمنع دخول عصابات البيض إلى حي «القعر الأسود» تفادياً لوقوع مجازر محتملة بحق سكانه.
استمرت أعمال العنف والتخريب طوال ساعات النهار على شارع وودورد الذي تحول إلى خط تماس ملتهب، وسط جو من الرعب والفوضى في حي السود، وحالة من الترقب في أنحاء المدينة حيث احتشد أكثر من ١٠٠ ألف شخص في ميدان «غراند سيركس» للاطلاع عن كثب على أحداث التطورات، فيما وقف العالم يتفرج على ديترويت، «ترسانة الديمقراطية»، والعمق الاستراتيجي للولايات المتحدة والحلفاء، وهي على صفيح ساخن.
وفيما تجاهل عناصر الشرطة لأعمال العنف التي كان يرتكبها البيض على الضفة الغربية من وودورد، حيث تم الاكتفاء بتنبيه المعتدين إلى ضرورة التوقف عن اعتداءاتهم، لجأت الشرطة على الجانب الشرقي إلى الضرب بيد من حديد لاستعادة النظام في وادي الجنة، حيث تم التعامل مع كل شخص أسود على شارع هايستنغز الموازي على أنه من المشاركين في نهب المتاجر، وقد أصدر رجال الشرطة تعليمات للجميع «بالركض وعدم النظر إلى الوراء للنجاة بحياتهم»، وقاموا بقتل وإصابة عدد من الأشخاص بالرصاص من الخلف أثناء محاولتهم الفرار، كما تم اعتقال عشرات الرجال والشبان عشوائياً.
مع حلول المساء بدأت الأمور تأخذ منعطفاً أكثر حدة وعنفاً في ظل إصرار عصابات البيض على اجتياح حي السود، مما دفع عناصر الشرطة إلى استخدام القنابل المسيلة للدموع وإطلاق النار في الهواء لمنعهم من دخول «القعر الأسود» وارتكاب مجازر بحق سكانه، فيما كانت المفاوضات السياسية مستمرة من أجل الاستعانة بالجيش الأميركي لقمع أعمال الشغب التي كانت قد أوشكت أن تخرج تماماً عن السيطرة بعد أن استنفدت قدرات شرطة المدينة والولاية في ضبط الحشود المتنامية على طول وودورد.
كما تمكنت أعداد من البيض من تحقيق اختراقات جزئية للحي وقاموا بغارات من عدة محاور مختلفة وباشروا بالاعتداء على من يصادفهم كما خربوا ونهبوا الممتلكات وحطموا السيارات، قبل أن يتصدى لهم السود ويدفعونهم إلى التراجع.
وكان الأفارقة الأميركيون يفتقدون السلاح الكافي للدفاع عن النفس، كما كانوا يخشون بطش الشرطة التي لجأت إلى استخدام الرصاص الحي ضدهم، وهو ما دفع بعض المسلحين إلى إطلاق النار على الشرطة وقد قوبلوا برد مفرط، إذ تعرض أحد العناصر لإطلاق نار من الجانب الشرقي لشارع وودورد، وتحديداً من فندق ««فرايزر» الخاص بالنزلاء السود، ما أدى إلى وفاته لاحقاً. وقد ردت الشرطة على الفور باستهداف واجهة الفندق بأكثر من ألف طلقة نارية، لينجو من بداخله بأعجوبة قبل تسليم أنفسهم، في الوقت الذي كانت قوات الجيش الأميركي قد وصلت إلى المدينة لاستعادة النظام فيها.
تدخُّل الجيش واستعادة الهدوء
مع ازدياد وتيرة العنف والترهيب العرقي في ديترويت صباح «الاثنين الدامي» (٢١ حزيران)، أدرك رئيس البلدية إدوارد جيفريز وحاكم ميشيغن هاري كيلي –سريعاً– أن أعمال الشغب قد خرجت عن السيطرة. فتم الاستنجاد بالحكومة الفدرالية لإرسال الجيش وتدارك الموقف حوالي الساعة التاسعة صباحاً. ولكن الأمر تطلب ١٢ ساعة إضافية وسقوط عشرات الضحايا، ريثما تمت الاستجابة لإعلان حالة الطوارئ العسكرية كشرط لدخول الجيش. فسارع الرئيس فرانكلين روزفيلت إلى توقيع أمر تنفيذي بإرسال القوات إلى ديترويت عقب إعلان الحاكم الجمهوري حالة الطوارئ تمام الساعة ٩:٢٥ مساء.
بحلول الساعة العاشرة ليلاً كان ستة آلاف عنصر من الشرطة العسكرية ومكافحة الشغب قد بدأوا بالانتشار بآلياتهم في مناطق التوتر لاسيما عند تقاطع وودورد وفيرنور، حيث كانت أشرس عصابات البيض تحاول مرة أخرى اقتحام حي «القعر الأسود» وإحراقه. وقد استقبل المتجمهرون الغاضبون قدوم عناصر الجيش بالشتائم والحجارة إضافة إلى إطلاق نار متقطع، غير أن تدفق آلاف الجنود المدججين بالسلاح والأوامر الواضحة المعطاة لهم بالرد على أي خرق، دفع الحشود الغاضبة إلى تغليب العقل والتراجع عن خططهم، ليعود الهدوء إلى المدينة بحلول منتصف ليل الاثنين–الثلاثاء ٢٢ حزيران (يوليو).
في الأيام التالية، ساهم الجيش بحفظ النظام في المدينة، إذ قام عناصره بحضور مباراة بيسبول مدججين بأسلحتهم للتأكد من استتباب الأمن وغياب مظاهر التمرد في المناسبات العامة، كما قامت الشرطة العسكرية بتسيير دوريات في المدينة حتى السادس من تموز (يوليو) حيث أقيم استعراض عسكري على طول شارع وودورد، غادرت من بعده القوات إلى قواعدها في باتل كريك (غرب ميشيغن) وولاية ويسكونسون.
عدد غير متكافىء من الضحايا
استمرت أعمال العنف ٣٦ ساعة، وأسفرت الحصيلة النهائية عن مقتل ٣٤ شخصاً، ٢٣ منهم من السود، من ضمنهم ١٧ قتلوا برصاص الشرطة، فيما لقي آخرون مصرعهم بطريقة وحشية متأثرين بالضرب المبرح والطعن بالسكاكين. وقد كان لافتاً أن بعض الضحايا الذين لقوا مصرعهم في ظروف غامضة أصيبوا بما يزيد عن ٣٠ إلى ٤٠ طعنة أو ضرب مبرح بآلات حادة في مؤشر واضح على همجية المواجهات والكراهية التي كانت سائدة بين الطرفين.
كما سقط في الأحداث الدامية حوالي ٦٧٦ جريحاً، ٧٥ بالمئة منهم من السود. كذلك تم اعتقال 1,895 شخصاً (٨٥ بالمئة سود) فيما صدرت أحكام بالسجن على ٩٠ منهم، بينهم ليو تيبتون، مطلق الإشاعة في نادي «فورست كلوب»، وشخص أسود آخر يدعي تشارلز ليونز (ليتل ويلي)، والذي أدين بافتعال الشجارات المتفرقة التي وقعت على جزيرة «بل آيل» في اليوم الأول من الصدامات، بداعي الانتقام لتعرضه سابقاً إلى اعتداءات من شبان بيض، وقد اصطحب معه في ذلك اليوم عدداً من زملائه لرد اعتباره، بحسب ما كشفت المحاكمة.
الأضرار المادية كانت محدود نسبياً وقدرت قيمتها الإجمالية في حينه بحوالي مليوني دولار (٣٥ مليون دولار في ٢٠١٧) وقد تركزت معظم الأضرار في حي «القعر الأسود»، الذي ازدادت حالته تدهوراً وسوءاً بعد تلك الأحداث، وصولاً إلى إزالته بالكامل في السنوات اللاحقة.
ويعود تدني كلفة الأضرار المادية نسبياً، إلى سياسة تقنين الوقود خلال الحرب العالمية الثانية، والتي ساهمت في عدم لجوء المشاغبين إلى إضرام حرائق واسعة، إلى جانب قلة استخدام السيارات في تلك الفترة بسبب صعوبة الحصول على البنزين. فكان السكان البيض والسود على حد سواء يلجأون إلى التنقل بالحافلات العامة (ستريت كار) وهو ما ساهم بدوره في تأجيج التوتر العرقي بين فقراء المدينة بسبب الازدحام الشديد على متن تلك الحافلات التي كانت تجوب أكثر من ٣٥٠ ميلاً من شوارع المدينة أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن تتوقف خدماتها كلياً بحلول الخمسينات.
اتهامات متبادلة
مع انتهاء صدامات ١٩٤٣ واستعادة الأمن في المدينة، سارع السياسيون في ديترويت وميشيغن إلى إلقاء اللوم على «المتشددين» و«الزعران» السود، فأصرّ رئيس البلدية إدوارد جيفريز، على أن المنظمات الراديكالية هي من قامت باستغلال التهميش والبطالة في صفوف القادمين الجدد للحضّ على أعمال الشغب والنهب، مؤكداً مراراً أن «عصابات الزنوج بدأوها»، وأن تعامل الشرطة كان «رائعاً»، ليكسب بذلك رضا الشارع الأبيض ويحتفظ بمنصبه لدورتين انتخابيتين حتى مطلع العام ١٩٤٨.
أما الحاكم كيلي، فشكّل لجنة خاصة للتحقيق في الأحداث الدامية، حيث توصلت في تقريرها النهائي إلى أن مجموعة من الشبان السود «عديمي المهارة والجذور والارتباط» بالمدينة هم من تسببوا باندلاع أعمال العنف التي دفع ثمنها السكان القدامى من السود «الملتزمين بالقانون»، في حين برّأت اللجنة الشرطةَ من أي مسؤولية عن الأرواح التي أزهقت، كما برّرت أعمال العنف التي قام بها العنصريون البيض باعتبارها في إطار ردود الفعل. فيما حمّل مدعي عام مقاطعة وين «الجمعية الوطنية لتقدّم الملونين» NAACP مسؤولية التحريض على أعمال الشغب.
إلا أن أبرز المتضامنين مع المنظمة الحقوقية ومجتمع السود في المدينة، كان «اتحاد عمال السيارات» UAW الذي لعب دوراً حاسماً في منع الاحتكاك العنصري داخل المصانع طوال الحرب العالمية الثانية، علماً بأن الاتحاد كان قد دخل في مواجهة مع السود في نيسان (أبريل) ١٩٤١، لرفضهم المشاركة في إضراب عمالي وفاءً لهنري فورد، مما تسبب بوقوع صدامات متكررة بين العمال البيض والسود في مصنع الروج بمدينة ديربورن، على خلفية عدم الالتزام بمواقف النقابة، قبل أن يتم لاحقاً التوصل إلى اتفاقات حسّنت ظروف عمل السود وساهمت في إنشاء تحالف سياسي اشتد عوده لاحقاً بين الاتحاد العمالي ومنظمة «تقدم الملونين».
وقد عارض مسؤولو الاتحاد، الموقف الرسمي من أحداث ١٩٤٣، موجهين أصابع الاتهام إلى «الفاشية المحلية»، في وقت كانت تخوض فيه البلاد حرباً شعواء ضد ألمانيا النازية التي حاولت ماكينتها الإعلامية التركيز على أعمال الشغب في ديترويت كدليل على فشل الديمقراطية الأميركية، وهو ما أثار ردود فعل وطنية دفعت التيارات العمالية المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، مثل «الرابطة الوطنية للعمال» إلى الانكفاء، لاسيما في الصناعات الحربية.
كذلك اقترح رئيس «اتحاد عمال السيارات»، آر.جاي. توماس، «خطة سلام» من ثمانية بنود، تضمنت تشكيل هيئة محلفين كبرى للتحقيق وتوجيه التهم للمسؤولين الحقيقيين عن أعمال الشغب، إلى جانب الدعوة إلى إطلاق برامج لتوفير مساكن ومنتزهات ومرافق ترفيهية لمجتمع السود، إضافة إلى التأكد من أن العمال منهم يحصلون على الوظائف والأجور العادلة بناء على مهاراتهم وأقدميتهم.
ورغم تحسن ظروف العمل نسبياً في المصانع، غير أن واقع النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في ديترويت وعموم الولايات المتحدة لم يكن مهيئاً بعد للاستجابة لمطالب العدل والمساواة بين البيض والسود، إذ لم تجد تطلعات السود وداعميهم الجدد من الليبراليين والنقابات طريقها إلى أرض الواقع، وكان لا بد من بذل المزيد من التضحيات حتى يتحقق انتصار حركة الحقوق المدنية بإسقاط نظام الفصل العنصري الذي كان يطال كل جوانب الحياة في الأربعينات والخمسينات. فعاش السود في ديترويت عقدين آخرين من بطش الشرطة والتهميش والتمييز في السكن والعمل والتعليم والخدمات البلدية، فيما ازدهر مجتمع المدينة عموماً، خاصة في حقبة الخمسينات، التي وصفت بالحقبة الذهبية، تحت ظل إدارات انتهجت سياسات عنصرية معلنة.
اندثار «القعر الأسود»
في عام ١٩٤٩، تم انتخاب ألبرت كوبو رئيساً للبلدية حاملاً شعار التصدي لـ«غزو النيغرو» لأحياء البيض، وهي سياسة جعلته سيداً على المدينة حتى وفاته بسكتة قلبية عام ١٩٥٧.
شهدت ديترويت تحت حكمه ازدهاراً كبيراً وتحديثاً شاملاً للخدمات والمرافق البلدية والبنى التحتية وإنشاء الطرق السريعة في ظل النمو الاقتصادي وازدهار الصناعات الاستهلاكية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد صُنّفت المدينة في عهده كواحدة من أفضل مدن العالم وأكثرها حداثة وتطوراً. إذ قارب عدد السكان ١.٩ مليون نسمة، وكان ثلث مواطني ميشيغن يعيشون ضمن حدود المدينة المزدهرة، غير أن حال السود لم يكن كذلك فقد تدهورت الخدمات في أحيائهم تحت وطأة السياسات العنصرية التي انتهجها كوبو، وخلَفه لوي مرياني –بدرجة أقل– حتى نهاية العام ١٩٦١.
واحدة من أولى الأهداف التي وضعها كوبو بعد توليه منصبه مطلع الخمسينات، كانت هدم حي «القعر الأسود» باعتباره «غير صالح للعيش»، وقد صدرت الأوامر بإخلاء المساكن والمباني التجارية فيه لاسيما على طول شارع هايستنغز الذي أزيلت كافة معالمه بحلول الستينات.
تحول حي السود التاريخي في ديترويت إلى أثرٍ بعد عين، استناداً إلى قانون الـ«هايواي آكت» الذي وقعه الرئيس دوايت أيزنهاور عام ١٩٥٦، والذي مهد لإنشاء شبكات الطرق السريعة لربط المدن الأميركية الكبرى ببعضها البعض. وفي عام ١٩٥٩ بدأت ورشة تشييد الطريقين السريعين «٧٥» (كرايسلر فريواي) و«٣٧٥»، فوق ما تبقى من أشلاء «القعر الأسود» وأحياء «وادي الجنة» على طول شارع هايستنغز، في إطار مشاريع «التحديث الحضري» للمدن الأميركية، التي رأى فيها السود مخططاً لطردهم من الأحياء التي احتضنت قدومهم من ولايات الجنوب مطلع القرن العشرين، ورفعوا شعار Urban Renewal Negro Removal.
كما شُيّد حي ومنتزه «لافييت» على جزء من «القعر الأسود»، وكان السكن فيه بعيداً عن متناول السود الذين انحصر وجودهم في ديترويت خلال الخمسينات، في أحياء محاطة بجدران الفصل العنصري والطرق السريعة قيد الإنشاء حيث تنخفض جودة الحياة، فيما كان يتعذر عليهم شراء المنازل الجديدة تحت ظل سياسة «الخطوط الحمر» Redlining التي انتهجتها المصارف لمنع الاختلاط العرقي في الأحياء، وذلك عبر التمييز في القروض العقارية والتأمين، بحجة تلافي انهيار أسعار العقارات الذي قد ينتج عن انتقال السود للعيش في أحياء البيض، الذين بدورهم وجدوا في الأفارقة الأميركيين خطراً على استقرار وأمن مجتمعاتهم.
كذلك حُرمت أحياء السود البائسة من الخدمات البلدية العادلة مثل جرف الثلوج وإزالة القمامة، إضافة إلى تردي التعليم العام والخدمات الصحية مما أدى إلى تنامي مشاعر الغضب والإحباط في أوساطهم، لتجد المنظمات الراديكالية بيئة خصبة للنمو والتمدّد.
تغيّرات ديموغرافية
لم يجد سكان «القعر الأسود»، أمامهم سوى الانتقال شرقاً إلى مجمع «بروستر–دوغلاس» الذي تم الانتهاء من أعمال توسعته عام ١٩٥٢ بهدف احتضان المزيد من العائلات العاملة الفقيرة من السود، فيما تركّز عشرات الآلاف منهم في حي الـ«نورث أند» الذي بدأ الأفارقة الأميركيون بالانتقال إليه خلال الأربعينات في إطار تمددهم شمالاً على طول الضفة الشرقية لشارع وودورد حتى حدود مدينتي هايلاند بارك وهامترامك، إضافة إلى غيتوات محدودة في غرب المدينة وشمالها. غير أن شارع وودورد في وسط المدينة، ظلَّ خط تماس عرقي لم يتمكن السود من تجاوزه حتى مطلع الستينات.
في الخمسينات أيضاً، ورغم عنصرية البلدية والشرطة، بدأت ديترويت تشهد بداية نزوح البيض نحو الضواحي بحثاً عن حياة أكثر هدوءاً وأمناً، بعيداً عن تلوث المصانع ومشاريع الطرق السريعة التي أثرت على جودة المعيشة في الكثير من أحياء المدينة التي انتقل إليها السود، كما سهلت شبكات الطرق الوصول من وإلى ديترويت، فتراجع عدد السكان خلال الخمسينات بأكثر من ١٥٠ ألف نسمة، على الرغم من النمو الكبير في أعداد السود.
فالتمييز والاضطهاد العنصري كان سائداً في جميع المدن الأميركية، لكن اقتصاد ديترويت المزدهر في تلك الحقبة جذب أمواجاً جديدة من الأفارقة الأميركيين، فتضخمت نسبتهم خلال عقد الخمسينات من ١٦.٥ بالمئة إلى حوالي ٢٩ بالمئة (٤٨٢ ألف نسمة من أصل ١.٧٦ مليون) وفق إحصاء ١٩٦٠، وهو ما جعلهم كتلة انتخابية وازنة أطاحت بمارياني كآخر زعيم جمهوري للمدينة، وأوصلت الديمقراطي الشاب جيرومي كافانو إلى سدة الحكم في انتخابات العام ١٩٦١، لتبدأ صفحة جديدة من تاريخ ديترويت.
رابط الجزء الأول : http://bit.ly/2ual3XE
رابط الجزء الثالث : http://bit.ly/2gT04U2
رابط الجزء الرابع : http://bit.ly/2uJ890F
Leave a Reply