«الجار قبل الدار». إن هذا المثل الموروث عن الأجداد لم يأت ولم يُضرب عبثاً كأيّ قول عابر، بل تداوله الناس للحكمة التي ينطوي عليها والدلالة العميقة التي تؤشر إلى حسن الصلة الرابطة بين الجار وجاره، إذ يصبح المسكن تالياً عند اتخاذ قرار الاختيار، وهناك جار تقدسه وتعتبره أخاً لك يقف إلى جانبك في السراء والضراء، تأنس لمجالسته وتشعر بالطمأنينة لوجود داره محاذية لدارك مثل الحصن المنيع.
دائماً ما يكون الجار الجيّد مخلصاً بحيث يكتسح عنك الشعور بالغربة فيعوضك عن أهلك في بعدك عنهم، وأنت بالمقابل لا تتوانى عن مساعدته وتقديم العون له في متطلباته التي يعجز عن تلبيتها أو تحقيقها، وتقوم بها عن طيب خاطر وأنت تستعيد قول الرسول (ص) عندما أوصى بسابع جار.
ليست هناك من طامة كبرى تواجهك في الحياة مثلما إذا ابتليت بجار سيّء لا يقدّر ما تقدمه له من جميل المواقف، خصوصاً إذا كان يسعى جاهداً لمضايقتك واستفزازك في مناسبة أو غيرها، ممّا يضطرك في بعض الحالات إلى بيع منزلك بغية البعد عنه والتخلص من مواجهة سوء تصرفاته واسوداد الأجواء بملاقاته، وكم أحسن الشاعر حين قال:
يلومونني إن بعتُ بالرخص منزلي
ولم يعرفوا جاراً هناك ينغّصُ
فقلت لهم: كفّوا الملام فإنّـــــــــــها
بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
وكذلك كم أبدع الشاعر الآخر إذ قال:
اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم
لا تصلح الدارُ حتى يصلح الجارُ
وللهرب من جار السوء قال أحدهم: «لم أبع داري وإنما بعت جاري».
وها هو لقمان الحكيم يقول لابنه: «يا بنيّ إني حملت الصخر والحديد فلم أجد شيئاً أثقل من جار السوء».
أليس الأجدى بجار السوء أن يتحول إلى السلوك القويم فيكسب نفسه قبل أن يكسب جاره، وأن يشغل نفسه بعمل شريف يعتاش منه إن كان عاطلاً بدلاً من أن يلجأ للتحايل على الإعانات الحكومية وحيازة تقارير عارية عن الصحة بغية الحصول على مساعدات لا يستحقها وهو مازال يتمتع بصحة جيدة؟ هذه المساعدات التي يحصل عليها من دافعي الضرائب الذين يكدحون طيلة النهار من أجل تأمين مستلزمات الحياة بينما يأخذها هو «على البارد المستريح»، كما نقول بالعامية! فيما هناك فئات من المعوقين حقاً وأصحاب العاهات المستديمة الواضحة لا يحصلون عليها.
نراهم يجلسون طيلة الوقت وهم يحتسون القهوة ويدخنون السجائر ويتمشون في الأحياء متلصصين على الناس ويفرضون أنفسهم بكل صلف على كل من يصادفونه، وكل ذلك يتأتى من الوقت الفارغ الذي يقضونه بلا فائدة لأنفسهم وللمجتمع على حساب الـ«ولفير»، إذ أن همهم الوحيد ينصب في حصولهم على المعاشات آخر الشهر دون عناء أو تعب ممّا يجعلهم متفرغين لمناكفة الجيران وإظهار سوء تصرفاتهم فالإناء ينضح بما فيه كما يقول المثل الشائع.
ويحضرني هنا دعاء داود النبي (ع) إذ كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، إذا رأى حسنة كتمها، وإذا رأى سيئة نشرها»، وهذا ما نراه اليوم من بعض الجيران التافهين ممّن يعتاشون على عرق جبين أبنائنا الشباب الذين يعجز معظمهم عن تلبية تكاليف زواجهم فيعزفون عن الزواج وهم مغلوبون على أمرهم إذ أن مايحصلون عليه من أجر في العمل يذهب معظمه إلى الضرائب والفواتير، في حين نرى بعض الناس يعيشون على هذه الضرائب دون وجه حق، ولو أعادت الدولة النظر في حالات «النصابين والمتمارضين» لخفّ العبء عن دافعي الضرائب، وصار بإمكان الحكومة أن تتطلع إلى تمويل أمور أكثر انتاجية في مقدمتها توفير فرص العمل وإعانة من يستحقون المساعدة فعلاً.
لست في معرض المطالبة بإلحاق الضرر وإنما المطالبة بما هو صائب، فعندما يجبر «المتحايل» على العمل لتوفير لقمة العيش، فإنه حينئذ يحترم حياة الآخرين ووقتهم خصوصاً الجيران فلا يسبب لهم إزعاجاً أو يسلك سلوكا عدوانياً إزاءهم لأنه سيصبح هو بحاجة إلى الراحة، حماكم الله من كل جار سوء.
Leave a Reply