شكّل إقرار سلسلة الرتب والرواتب في لبنان، بعد قرابة خمس سنوات من الانتظار والمناورات، تطوراً نوعياً على المستوى الداخلي، لما ينطوي عليه من أبعاد اقتصادية واجتماعية، عميقة الأثر.
و«السلسلة» المعتمدة تتضمن زيادات على رواتب الموظفين والعاملين في القطاع العام، وعلى المعاشات التقاعدية، بغية تحسين قدرتها الشرائية في مواجهة غلاء المعيشة والارتفاعات التي طرأت على الأسعار خلال السنوات الماضية. وفيما كان الرقم المفترض لكلفة السلسلة هو 1200 مليار ليرة، ارتفع الرقم مجدداً بضع مئات من المليارات بفعل منح قرابة 100 ألف متقاعد حقوقهم المستحقة.
ولتسديد هذه النفقات المستجدة، اعتمدت «السلسلة» بعد نقاشات صعبة وطويلة على موارد متنوعة، شملت فرض ضرائب على المصارف والشركات الكبرى وشركات الأموال والقطاع العقاري، وفرض رسوم على مخالفات الأملاك البحرية العامة، إضافة إلى زيادة 1 بالمئة على ضريبة القيمة المضافة وزيادة مجموعة من الرسوم على بعض المعاملات الادارية.
معارضة
ولم تكن ولادة «السلسلة» سهلة، إذ اعترض عليها العديد من القوى السياسية، خصوصاً «حزب الكتائب» الذي شن رئيسه النائب سامي الجميل هجوماً عنيفاً على الضرائب المقررة، رافضاً تحميل الناس المزيد من الأعباء في ظل الظروف الصعبة التي يعانون منها، ومعتبراً أن هناك بدائل عن الخيارات الضريبية تتمثل في وقف تدفق مزاريب الهدر والفساد التي تكفي لتمويل سلاسل عدة، لا واحدة فقط، وفق طرح الجميل.
وذهب رئيس «الكتائب» أبعد من الاعتراض السياسي في موقفه، ملوحاً بالطعن في الضرائب أمام المجلس الدستوري، إذا استطاع استقطاب خمسة نواب اضافيين إلى جانب نواب الحزب الخمسة لتقديم الطعن الذي يحتاج اكتماله، قانوناً، إلى توافر عشرة نواب، ما يعني أن مهمة الجميل ستكون صعبة، وسط اصطفاف معظم الكتل النيابية إلى جانب «السلسلة».
ولكن، ماذا عن أهمية ما حصل، وعن الدلالات التي يختزنها؟
صحيح، أن الضرائب مكروهة بحد ذاتها، لكن الجديد فيها هذه المرة هو أن معظمها يشمل الفئات المقتدرة، وما يُعرف في لبنان بحيتان المال التي يُقصد بها أصحاب الرساميل الكبرى والمؤسسات المالية والعقارية الوازنة، والمعتدين منذ عقود على الأملاك البحرية العائدة للدولة، حيث انتشرت على طول الساحل اللبناني فنادق ومؤسسات سياحية بُنيت كأمر واقع من دون رخص أو أي مردود للدولة.
وانطلاقاً من هذا التوزيع للضرائب، يُستنتج أن هناك تحولا في سلوك الدولة ونهجها، لجهة إسقاط المحرمات المالية والفيتوات الاقتصادية التي تكرست منذ عشرات السنين، وبالتالي إلزام الطبقة الممتلئة والمتمكّنة بالتنازل عن قليل من أرباحها ومكتسباتها من أجل تمويل بعض احتياجات الخزينة وتأمين الجزء الاكبر من موارد السلسلة، بعدما كان العبء الأكبر يلقى في السابق على كاهل الطبقتين المتوسطة والفقيرة، في حين أنه توزع هذه المرة في اتجاهات عدة.
حيتان المال
وبرغم أن ما سيُقتطع من البنوك والشركات ليس ثقيل الوطأة قياساً إلى حجم قدراتها ومداخيلها، فإن الهيئات الاقتصادية والمصرفية أبدت تململاً شديداً من الضرائب المعتمدة وسعت إلى الإفلات من بعضها، وهي حاولت بكل وسائلها الممكنة وعلاقاتها السياسية الضغط في اتجاه تعطيل إقرار «السلسلة»، بحجة المخاوف من أن تنعكس سلباً على الوضعين الاقتصادي والمالي.
وقد تبين أن هناك في الطبقة السياسية «حلفاء» و«شركاء» لتلك الهيئات، سعوا عبر تكتيكات مختلفة لتأخير او عرقلة مسار «السلسلة»، لكن إصرار الرئيس نبيه بري على البت بها، وتفاهمه مع الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري على ذلك، أدى إلى تأمين شبكة من الحماية السياسية لها، وصولاً إلى التصويت عليها في الجلسة التشريعية السابقة.
وقال الرئيس نبيه بري لـ«صدى الوطن» إن الموارد التي تضمنتها «السلسلة» تشكل تبدلاً في الثقافة الضريبية التي كانت تعتمد على تحييد حيتان المال وحمايتها، مؤكداً أنه جرى التصويت على «السلسلة» في مجلس النواب، وفق مقتضيات النظام الداخلي للمجلس، خلافاً للاتهام الذي وجهه سامي الجميل بمخالفتها، ومبدياً ارتياحه لإنصاف أصحاب الحقوق في نهاية المطاف بعد انتظار طويل.
وأكد وزير المال علي حسن خليل لـ«صدى الوطن» أن التحذير من تداعيات وخيمة للسلسة على الاقتصاد يندرج في إطار التهويل المقصود والمزايدات الشعبوية، مبدياً اطمئنانه إلى المستقبل.
واشار إلى أن تركيبة «السلسلة» نجحت في التوفيق بين تثبيت حقوق الناس من جهة وبين مراعاة التوازن المالي المطلوب من جهة أخرى.
Leave a Reply