تأخرت معركة تحرير عرسال وجرودها في البقاع الشمالي عند السلسلة الشرقية من جبال لبنان، مدة ثلاث سنوات، إذ في 2 آب 2014، قامت مجموعات إرهابية تكفيرية، من تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، بمهاجمة مراكز ومواقع الجيش اللبناني في عرسال وجرودها، ومخفر قوى الأمن الداخلي في البلدة، فقتلت نحو 25 ضابطاً وعسكرياً وخطفت تسعة عسكريين مازال مصيرهم مجهولاً، واحتجزت 19 دركياً، أخلي سبيلهم بعد إطلاق أسرى من عناصر «داعش» بينهم سهى الدليمي طليقة زعيم التنظيم «أبو بكر البغدادي»، الذي كان قد أعلن قيام «الدولة الإسلامية في العراق والشام» إثر سيطرة الإرهابيين المباغتة على مدينة الموصل في حزيران 2014.
فقد جاء الهجوم على مراكز الجيش وقوى الأمن الداخلي في عرسال بعد أسابيع قليلة على احتلال الموصل، وسقوط محافظة الرقة في شمال سوريا، وكان الهدف من عملية عرسال، هو تمدد «الخلافة الإسلامية» المزعومة نحو لبنان، ومحاولة ضمه إليها، حيث كانت الخطة تقوم ووفق التحقيقات الأمنية والقضائية، بأن تسيطر المجموعات الإرهابية على عرسال، وتجتاح بلدات وقرى في البقاع الشمالي كاللبوة والنبي عثمان والفاكهة والعين وصولاً إلى رأس بعلبك والقاع (بلدتان مسيحيتان)، والوصول إلى الهرمل ومن هناك إلى عكار عبر القبيات (مسيحية)، وصولاً إلى طرابلس عاصمة الشمال ويكون للدولة المزعومة مرفأ على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
عطل الجيش الخطة فور انطلاقتها، وتمكن من استعادة مواقعه بهجوم مضاد، ووقف بوجه تمدد التنظيمات الإرهابية فيما منعه القرار السياسي للحكومة من أن يقوم بتحرير عرسال وجرودها من محتليها حتى اليوم. إذ رفض رئيس الحكومة آنذاك تمام سلام، أن تتعرض بلدة سنّيّة بغالبيتها إلى هجوم من الجيش لطرد الإرهابيين، لأنه لا يمكنه أن يتحمّل هذه المسؤولية بوجه طائفته، وهذا ما يحصل عادة في لبنان، عندما يحاول الجيش أن ينفّذ مهمة ما، تقف بوجهه الموانع والحواجز الطائفية، التي تحول دون أن يستكمل المهمة.
ولطالما عطّل القرار السياسي دور الجيش وشلّه ووضعه في الثكنات، ففي الحرب الأهلية عام 1975، انقسم الجيش حول الوجود المسلح الفلسطيني ليتفتت إلى ألوية طائفية ومذهبية ومناطقية، وقد عادت اليوم نغمة التشكيك بالجيش ومهامه، على خلفية ما حصل إثر مداهمته لمخيمي النازحين السوريين في عرسال والمعروفين بـ«النور» و«قارية»، ووفاة أربعة موقوفين سوريين، بعد أن كان خمسة انتحاريين انغماسيين فجروا أنفسهم بأحزمة ناسفة لصد عناصر دورية للجيش مما أدى إلى إصابة بعض العسكريين بجروح.
حملة ممنهجة
أدّى وفاة السوريين الموقوفين إلى إطلاق حملة منظمة، على الجيش واتهامه بـ«العنصرية»، والتشهير به، وهو ما أدّى إلى استدعاء رئيس الحكومة سعد الحريري لقائد الجيش العماد جوزف عون الذي اصطحبه وزير الدفاع يعقوب الصراف معه إلى السراي الحكومي، لأنه لا يجوز دستورياً أن يلتقي رئيس الحكومة بموظف من دون حضور وزيره، فاستوعب الحريري الوضع وتحاشى وقوع أزمة دستورية وسياسية لا سيما مع رئيس الجمهورية.
وبعد اجتماع الحريري بوزير الدفاع وقائد الجيش، تمّ لجم الحملة على المؤسسة العسكرية والتي كان بدأها مسؤولون وإعلاميون في «تيار المستقبل» ومنهم النائب عقاب صقر، حيث تمّ استغلال الانتقادات لممارسات الجيش إلى الدعوة للتظاهر ضد «عنصريته»، فقامت بوجهها حملة مقابلة تدعو إلى مناصرة الجيش وتحذّر من الصدام مع ما سمي «اتحاد الشعب السوري» الذي دعا إلى التجمع والتظاهر في ساحة الشهداء بوسط بيروت، في وقت كان «المنتدى الاشتراكي» –وهو تنظيم غير معروف تبين أنه مؤمن بالفكر التروتسكي ومن أبرز مسوؤليه كميل داغر وجيلبير أشقر ووليد ضو وعلي جمول ومروان وإيليا الخازن، تقدم بطلب ترخيص من وزارة الداخلية للتجمع أمام ساحة سمير قصير في وسط بيروت أيضاً، إلا أن وزير الداخلية نهاد المشنوق رفض السماح لأي طرف سواء مَن يناهضون الجيش أو يؤيّدونه بالتجمع أو التظاهر.
هذا المشهد يعيد إلى الذاكرة ما حصل في العام 1975، بين الجيش والقوى الفلسطينية المسلحة، والتي انقسم اللبنانيون حول الموضوع، وهذا ما أثار مخاوف النائب وليد جنبلاط بأن يعيد التاريخ نفسه، ولكن هذه المرة بين النازحين السوريين والجيش، ومن ورائه اللبنانيون الداعمون له، إذ أن الوجود السوري في لبنان يقدر حالياً بنحو مليون ونصف المليون، وقد يتم تجنيد حوالي مئة ألف منهم كمسلحين أو مشاغبين، يساعدهم في ذلك، توزعهم الجغرافي في كل لبنان، ثم وجود بيئة حاضنة للفكر المتطرف في بعض المناطق، وهذا ما بدأ يقلق المسؤولين اللبنانيين، الذين لم يتفقوا على آلية حل لأزمة النزوح السوري التي بدأت تتسبب بانقسامات داخلية.
المعركة قادمة
أمام الواقع الميداني بوجود قواعد عسكرية ومقرات للمجموعات الإرهابية في عرسال وجرودها امتداداً إلى رأس بعلبك والقاع، يصر «حزب الله» على ضرورة إنهاء هذه البؤر التي تؤثر على الأمن والاستقرار في البقاع الشمالي خصوصاً ولبنان عموماً، وتشكل مصدر قلق دائم، فقررت قيادة الحزب، وبعد أن انتهت العمليات العسكرية على طول الحدود الشرقية والشمالية في الجانب السوري، بدءاً من الزبداني مروراً بجبال القلمون وصولاً إلى قارة ورأس المعرة ويبرود، أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله قبل نحو أكثر من شهرين، بأن على المسلحين في جرود عرسال أن يختاروا بين الرحيل دون معركة، أو البقاء لمعركة خاسرة، إلا أن الجواب كان برفض كل من تنظيمي «داعش» و«النصرة»، مع «أحرار الشام» وهو تنظيم قليل العدد، الخروج من المنطقة، كما أن الإرهابيين تسللوا إلى مخيمات النازحين في محاولة لوضعهم دروعاً بشرية، وقد تصدى لهم الجيش، الذي يراقب تحركاتهم ويرصد تجمعاتهم، ويقصفها بالمدافع والصواريخ.
وفترة السماح التي أعطاها «حزب الله» كانت كافية للتفكير بحل سلمي بعيداً عن نهج الانتحار، الذي يتبعه الإرهابيون الذين حاول داعموهم خلق مشكلة بين الجيش والنازحين في عرسال، فلم ينجحوا، كما فشلوا بتأليب الرأي العام ضد الجيش من قبل جمعيات تدعي حقوق الإنسان، وتجمعات دينية مثل «هيئة العلماء المسلمين».
وإذا كان القرار بالبقاء والقتال في الجرود، فإن «حزب الله» أعد العدة لذلك، وجهّز لكل ما يلزم غير آبه بكل ما يقال من شعارات خاوية بأن «قرار الحرب والسلم في يد الدولة»، أو إعلان رئيس الحكومة أن الجيش لن يشارك «حزب الله» في المعركة التي سيفتحها في جرود عرسال.
تحرير جرود عرسال من الإرهابيين يوازي تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، وكلا العدوين إرهابيان بامتياز، لذلك بقي على «حزب الله» اختيار التوقيت وإعلان ساعة الصفر، كي يبدأ المعركة التي هي امتداد للحرب التي يخوضها في سوريا منذ أربعة أعوام، وقد شارك فيها ابتداءً من بلدة القصيّر، وتابعها في كل بقعة «يجب أن يكون فيها»، كما ردد السيد نصرالله في خطبه دائماً.
تزامن قرار «حزب الله» بالاستعداد لمعركة جرود عرسال مع الانتصار الذي حققه الجيش العراقي والحشد الشعبي في الموصل، بإنهاء وجود «داعش» في هذه المدينة التي أعلن منها «أبو بكر البغدادي» «دولة الخرافة الإسلامية» وفق توصيف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.
ومع الانتصار الذي تحقق في الموصل، والخسائر التي يتكبدها الإرهابيون في سوريا، فإن عرسال وجرودها على موعد مع التحرير من المجموعات الإرهابية، حيث بادر «حزب الله» مع الجيش السوري إلى فتح الجبهة من جهة الحدود السورية، إذ يغير الطيران الحربي السوري على مواقع المسلحين المحاصرين، كما قطعت خطوط الإمداد عنهم وتواصلهم مع عاصمة دولتهم المزعومة في الرقة، وبات المسلحون في لبنان بين فكي كماشة من الشمال والشرق حيث وجود الجيش السوري و«حزب الله»، ومن الجانب اللبناني الجيش اللبناني المتمركز في رأس بعلبك والقاع والفاكهة إضافة إلى وجود قيادته في اللبوة.
لن يدخل «حزب الله» إلى عرسال البلدة، كي لا يحصل استغلال سياسي لذلك، قد يلجأ إلى تحريض الناس على أن هجوماً شيعياً استهدف بلدة سنّيّة وهذا ما تدركه قيادة «حزب الله» وترفض الانزلاق نحوه، خاصة وأن حملة تدعمها أطراف في «١٤ آذار» تروج منذ سنوات لمقولة أن عرسال «محاصرة» من قبل «حزب الله»، وهي مقولة بات يدرك أهالي عرسال زيفها، وهم ينتظرون ساعة تحرير جرودهم من المسلحين، وفيها أرزاقهم وأشغالهم.
تحرير جرود عرسال لن يتأخر، وقد حان وقته بعد نفاد كل محاولات الحل السلمي لدفع المسلحين إلى الانسحاب طوعاً، وإلا فإن المعركة واقعة وستكون مباغتة وسريعة، ودون استنزاف لقدرات المقاومة التي جنّدت للمواجهة نخبة من مقاتليها من كتيبة «الرضوان» التي تقع عليها مهمة القيام بالعمليات العسكرية الحساسة والكبرى.
Leave a Reply