«ضخم، وخطير، وغير فعال»…
بهذه الكلمات، وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، برنامج دعم المعارضة السورية المسلحة، الذي أقرّه سلفه باراك أوباما، قبل أربع سنوات، والذي شكل أحد أبرز أدوات التدخل المباشر، من قبل الولايات المتحدة، في مشروع إسقاط الدولة السورية، وتقسيمها.
توصيف ترامب، لبرنامج وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) المذكور، أتى في معرض تبريره لقرار اتخذه قبل شهر، بوقفه، وظل طي الكتمان حتى كشف النقاب عنه، خلال الأيام الماضية، من قبل صحيفة «واشنطن بوست»، وأكده لاحقاً قائد القوات الخاصة الأميركية الجنرال طوني طوماس.
ولكن توصيف البرنامج، يكاد أيضاً أن يكون لسان حال ترامب، في مقاربته للسياسة الأميركية تجاه سوريا، منذ بدء الصراع في العام 2011.
تخبّط في واشنطن
في حقيقة الأمر، فإن قرار الإدارة الأميركية إنهاء برنامجها لمساعدة الفصائل المعارضة في سوريا، يعكس تخبط واشنطن في مقاربتها للملف السوري بعد الفشل الذريع لجهود إخضاع دمشق.
ولا يقتصر الأمر، في هذا الإطار، على التناقض الواضح، بين مقاربتي إدارتي أوباما وترامب، إذ يمتد داخل الإدارة الأميركية الحالية، في ظل ما تكشّف، منذ بدء العهد الرئاسي الجمهوري الجديد، من تباينات حادة إزاء الملف السوري، كامتداد للخلافات القائمة، منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، سواء داخل فريقه الرئاسي نفسه، أو في العلاقة المعقدة بين البيت الأبيض والمنظومة السياسية والعسكرية الحاكمة في الولايات المتحدة، أو ما يسمّى بالـ«استابلشمنت».
ولا يخفى على أحد، أن كل هذه التباينات، تدور في إطار «صُداع» آخر، لكل من دونالد ترامب، ومعارضيه في الداخل، يتمحور حول الموقف من روسيا في ظل معارضة «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة لخطوات الانفتاح التي انتهجها الرئيس الأميركي، المسكون ببراغماتية رجل الأعمال والمحاصر بمزاعم الديمقراطيين بتدخل روسي مباشر أدى إلى فوزه الانتخابي المفاجئ في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
ولعلّ هذا ما دفع ترامب، في مرحلة ما، إلى إبداء التشدد إزاء الملف السوري والذي بلغ ذروته حين قرر توجيه ضربة صاروخية لمطار الشعيرات في حمص، على خلفية مزاعم بشأن استخدام السلاح الكيميائي في بلدة خان شيخون في ريف إدلب، مؤكداً استعداده للتصعيد ومحرجاً في الوقت نفسه بذلك نهج إدارة باراك أوباما بـ«رسم الخطوط الحُمر في الرمال» على حد وصفه.
وبالرغم من أن قرار ترامب المتعلق بوقف برنامج دعم الفصائل المعارضة، لا ينهي برامج أخرى، مرتبطة مباشرة بوزارة الدفاع (البنتاغون) والـ«سي أي أي» نفسها، إلا أنه يشي بتراجع الولايات المتحدة حول انخراطها في الصراع القائم لتغيير النظام في سوريا، بعد سلسلة الانجازات الميدانية التي حققها الجيش السوري بدعم من روسيا وإيران، أو يمثل –على أقل تقدير– رغبة إدارة دونالد ترامب، باعتماد مقاربة جديدة في إدارة الصراع في سوريا، سواء على المستوى السياسي أو العسكري.
الواقع الميداني
في كل الأحوال، فإن قرار ترامب لا يمكن عزله والوجهة الجديدة للتدخل الأميركي في سوريا، عن التوازنات الجديدة التي فرضها الميدان والجانب الروسي في الملف السوري.
ويعكس القرار، اقتناع الأميركيين بالتسوية في سوريا، وفق الرؤية الروسية، والتي تم الاتفاق بموجبها مع الرئيس فلاديمير بوتين، على انشاء منطقة خفض تصعيد في الجنوب السوري، على الحدود مع إسرائيل، وفي ريف دمشق لاحقاً، كامتداد لخطة أشمل، بدأ الروس في تطبيقها بنجاح، لخفض التصعيد في مناطق سورية أخرى في سياق ما يعرف بـ«مسار أستانا».
وفي الواقع، فإنّ روسيا وضعت الولايات المتحدة أمام أمر واقع جديد في سوريا، لا سيما بعد تقدّم الجيش السوري باتجاه منطقة الحدود السورية–العراقية، بما يعنيه ذلك من سقوط للمشروع الأميركي في سوريا، والمقصود بذلك المشروع التقسيمي الذي مهد الجغرافيا لإقامة دولة في مناطق سيطرة تنظيم «داعش» في البادية السورية، والتي كانت تهدف إلى تشكيل سد منيع أمام ربط إيران والعراق بسوريا.
ويبدو واضحاً، أن السباق على الحدود السورية–العراقية حسم لصالح «محور المقاومة» بعد عملية «الفجر الكبرى»، بدعم من الروس، الذين تمكنوا من فرض التنازلات من جانب الولايات المتحدة، وهو ما تبدّى في اللقاء الأخير الذي جمع دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هامبورغ، على هامش قمة «مجموعة العشرين».
ويبدو واضحاً أن معارك الحدود الفاصل بين دول محور المقاومة، قد تعززت خلال الأسبوع الماضي على الجبهة الغربية، بعد الانتصار الذي حققه «حزب الله» على إرهابيي «جبهة النصرة» في جرود بلدتي عرسال وفليطا عند الحدود اللبنانية–السورية.
وانطلاقاً مما تحقق، عند الحدود السورية – العراقية من جهة، وعند الحدود السورية – اللبنانية من جهة أخرى، بات ممكناً لمحور المقاومة وخلفه الحليف الروسي، الاطمئنان إلى أن مشروع عزل هذا المحور بدولة مسخ في البادية أو غيره من المخططات التقسيمية، قد انتهى، وأن التواصل على خط ظهران–بغداد–دمشق–بيروت بات قائماً بحكم الأمر الواقع الذي فرضه الميدان.
الانكفاء الأميركي
من خلال المؤشرات الميدانية وطبيعة التحركات الأخرى، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة باتت مسلّمة بالأمر الواقع، وهو ما يفسر على سبيل المثال، البرودة الإسرائيلية في التعامل مع معركة عرسال، خلافاً لما كان يحصل في مرّات سابقة حين كان الطيران الإسرائيلي يتدخل مباشرة على جبهة القلمون للتأثير سلباً على الانجازات الميدانية للجيش السوري و«حزب الله».
ولا يمكن تفسير هذا الانكفاء الأميركي والبرودة الإسرائيلية، سوى في سياق محدد يتمثل في فشل مشروع «داعش» الذي قال عنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إنه سيستمر أجيالاً، قبل أن يمنّى التنظيم الإرهابي بخسائر كبيرة منذ تولي ترامب الرئاسة، فانحسرت رقعة انتشاره بشكل سريع مع فقدانه مساحات شاسعة من العراق وسوريا كان قد سيطر عليها منذ العام ٢٠١٤، فتراجع الدور الأميركي، إلى تحقيق هدفين أقل طموحاً: محاربة الارهاب، وضمان أمن إسرائيل، من خلال تسويات الجنوب السوري.
ولا يغيّر في الأمر إبقاء بعض الدعم الأميركي المعارضة السورية، ضمن ما يعرف بـ«برنامج التدريب والتجهيز»، فهذا البرنامج وفي ضوء المعطيات الميدانية القائمة، تقتصر مفاعيله على الشمال السوري، ما يعني أنه سيصب في نهاية المطاف ضمن المقاربة الانكفائية للولايات المتحدة في سوريا، والمقصود بذلك محاربة الإرهاب «الداعشي» بواسطة الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية.
وللتوضيح، فإن «برنامج التدريب والتجهيز» يشمل، بشكل خاص، منطقتين احداها في شرق الفرات، وتسمح بتقديم الدعم للوحدات الكردية في محافظة الرقة، والثانية في غرب الفرات، وتسمح بدعم الفصائل المسلحة ذات الغالبية العربية في العمليات العسكرية في شمال حلب، أي أن طبيعته تبقى تكتيكية مرتبطة بسير المعارك ضد تنظيم «داعش»، أكثر منه بالمعركة الاستراتيجية، لإسقاط سوريا وتقسيمها، التي بدأت منذ عهد باراك أوباما، والتي أسقطها صمود الدولة السورية وجيشها ولاحقاً التدخل العسكري الروسي عام ٢٠١٥، الذي أعاد زمام المبادرة إلى دمشق منذ اللحظة الأولى التي بدأت طائرات «السوخوي» تنفذ غاراتها المركزة على إرهابيي «داعش» و«جبهة النصرة».
ماذا بعد؟
وبالرغم من أن كل المؤشرات تشي بأن مرحلة الانكفاء الأميركي في سوريا، قد بدأت، إلا أن الأمر كله يبقى مرتبطاً بالصراع المحتدم في الداخل الأميركي بين الدولة العميقة وإدارة ترامب، حول سبل التعامل مع روسيا، والذي بات العنوان العريض لكل المواقف المرتبطة بكافة الملفات الإقليمية، بما في ذلك قرار وقف برنامج دعم المعارضة المسلحة الذي رأى فيه المعارضون محاولة لإرضاء الروس وتقديم مزيد من التنازلات لفلاديمير بوتين.
ولا شك في أن حسم الصراع الداخلي في الولايات المتحدة، سواء لصالح ترامب، أو لصالح معارضيه، سيدفع باتجاه، إما مزيد من الانكفاء في سوريا بما يسهل الحل السياسي للصراع الدامي، وإمّا إلى مغامرة جديدة من قبل صقور المنظومة العسكرية–السياسية الأميركية، ولكن هذه المرّة، في ظروف أصعب فرضتها المعطيات الميدانية على كافة الجبهات، من العراق إلى سوريا… وصولا إلى السلسلة الشرقية لجبال لبنان.
Leave a Reply