في الوقت الذي كان «حزب الله» يخوض معركة تحرير جرود عرسال، التي بدأها في ساعة صفر متوقعة فجر الجمعة في 21 تموز، من إرهابيي «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، و«أهل الشام»، محققاً إنجازات عسكرية في الميدان، بتحرير جرود فليطا وجزء واسع من جرود عرسال، علت أصوات ومواقف داخلية بعكس المناخ الشعبي المرحب بالمعركة، لتسأل عمّن أعطى «حزب الله» قرار الحرب والسلم؟ وهو سؤال يتكرر منذ الثمانينات.
فعندما تقدم «حزب الله» في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكانت تشاركه أحزاب وطنية وقومية ويسارية مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث العربي الإشتراكي، إضافة إلى حركة «أمل» التي تعتبر فصيلاً أساسياً في المقاومة عند انطلاقتها، حيث أحرزت هذه الأحزاب المقاومة للاحتلال انتصارات على العدو الإسرائيلي، منذ الاجتياح في 5 حزيران 1982، ودخول الإسرائيليين إلى عاصمته بيروت، وخروجهم السريع منها في أقل من أسبوعين، بعد أن لاحقتهم المقاومة من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي، من دون إذن من الدولة.
وكان أبرز تلك العمليات في مقهى «الويمبي» في الحمراء عندما تقدم شاب ينتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي اسمه خالد علوان، وأطلق النار على ضباط وجنود الإحتلال الإسرائيلي، كانوا يشربون القهوة، فما كان من قيادة العدو الصهيوني إلا أن أصدرت قراراً بالانسحاب من بيروت، حيث سارع الاحتلال وجنوده إلى الصراخ بمكبرات الصوت «لا تطلقوا النار علينا إننا راحلون»، وهذا ما حصل لتتوالى الانسحابات من مناطق لبنانية محتلة حتى إنجاز التحرير الكامل للجنوب في 25 أيار 2000.
عندما انطلقت المقاومة الوطنية وبعدها الإسلامية، لم تكن في لبنان دولة كاملة الأوصاف، بل انهارت وانقسم اللبنانيون على أنفسهم، وبدأوا يقتتلون في حرب أهلية، تداعت معها مؤسسات الدولة، ومن بينها الجيش الذي انقسم إلى ألوية طائفية ومناطقية.
في ذلك الوقت، لو لم تمسك المقاومة بكل فصائلها بقرار الحرب، لما حصل تحرير للبنان عموماً والجنوب خصوصاً من الاحتلال الإسرائيلي، الذي كانت قوى حزبية لبنانية تتعاون معه، وهو فعل خيانة يحاكم عليها القانون، حيث جرى انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية في ظل الاحتلال الإسرائيلي الذي كان الجميّل شريكه في العدوان على بلده لبنان، وكل ذلك موثّق بالصور والتقارير والوثائق، مما دفع بحبيب الشرتوني إلى أن يمارس دوره كمقاوم ويدبر مع نبيل العلم عملية اغتيال الجميّل بتفجير بيت الكتائب في الأشرفية.
إلى سوريا
وكما فعل «حزب الله» ومعه كل فصائل المقاومة، بأن تبنوا عملية تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وعملائه وإفرازاته السياسية والأمنية، وإسقاط اتفاق 17 أيار، فإن القتال الذي بدأه «حزب الله» قبل أربع سنوات في سوريا، إلى جانب النظام السوري، لم ينتظر ليأخذ الإذن من أحد، بل أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله، بأن قرار المشاركة في القتال بسوريا، هو قرار سياسي وعسكري وأمني واستراتيجي، اتخذته قيادة «حزب الله» بعد دراسة ومناقشة، والتطورات التي جرت في أثناء المعارك، فكان القرار، أن «حزب الله» «يجب أن يكون حيث يجب أن يكون».
وهكذا بدأت مشاركة مقاتلي «حزب الله»، مع الجيش السوري وحلفائه، بعد أن كانت أهداف المؤامرة على سوريا وشعبها بدأت تتوضح، بأن ما يحصل في سوريا ليس «ثورة سلمية» ولا «مطالب شعبية»، أو «دعوة للإصلاح» بل مؤامرة على سوريا، ودورها الإقليمي المقاوم، وتحالفها مع إيران ومساندتهما للمقاومة في لبنان وفلسطين وإفشالهم للمخططات الأميركية–الإسرائيلية، فكان لا بدّ لقرار تتخذه لإسقاط المؤامرة التي لا تستهدف سوريا، بل لبنان ومقاومته، كما هي الحال في دول أخرى التي أراد المشروع الأميركي للمنطقة إشعال «ثورات فيها»، وتعميم الفوضى فيه لرسم خارطة جيوسياسية جديدة لها.
وهذا التحليل لما يجري في سوريا، بدأت تتكشف معالمه بعد أشهر على اندلاع ما سمي «ثورة»، من أن الهدف ليس تحقيق إصلاح النظام، بل إسقاطه، فانخرطت المقاومة برجالها وكامل تجهيزاتها في أرض المعركة، فكانت المشاركة الأولى في القصيّر بريف حمص، تواجه بردة فعل القوى اللبنانية المناوئة للنظام السوري، بأن «حزب الله» يورّط لبنان في حرب لا علاقة له فيها وينقل الحريق من سوريا إليه، دون حتى أن يبلغ الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، التي كان مشاركاً فيها. فظهرت مقولات مثل «تحييد لبنان» و«النأي بالنفس»، وغير ذلك من العبارات التي تصب كلها، بأن لا يكون «حزب الله» سبباً في بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، ويكسب كراهية الشعب السوري له، بأن يقاتل إلى جانب نظام يقصفه بالطائرات، ويستخدم ليس البراميل المتفجرة، بل الأسلحة الكيميائية، بحسب ما روجت مواقف الغرب وماكينات الإعلام الضخمة التابعة له.
لم يستمع «حزب الله» إلى كل الأصوات التي تدعوه إلى الانسحاب من سوريا، لا بل كان قادته يؤكدون، لاسيما أمينه العام السيد نصرالله، أن الضرورة الوطنية والقومية والدينية والإنسانية تفرض أن تقوم مواجهة مع المسلحين التكفيريين، ومنع تواجدهم وتغلغلهم.
إلى الجرود
معركة تحرير جرود عرسال، هي إستكمال لما جرى في الجزء السوري من السلسلة الشرقية، وتم طرد الإرهابيين منها، وهو ما يقوم به «حزب الله» لاجتثاثهم من المناطق التي احتلوها قبل سنوات، وشكّلوا تهديداً للأمن والإستقرار لمنطقة البقاع الشمالي والهرمل خصوصاً، والبقاع ولبنان عموماً، وقد نجحت المقاومة في درء الخطر عن لبنان، بتحرير مناطق جبال القلمون والزبداني وقارة ورأس المعرة ويبرود من الإرهابيين الذين كانوا من هذه البلدات يفخخون السيارات ويرسلونها مع انتحاريين إلى لبنان، حيث توقف مسلسل الموت، قبل نحو عامين، بعد فرار المجموعات الإرهابية، حيث لم يبق لهم من وجود سوى في السلسلة الشرقية من جبال لبنان، فكان لابدّ من قرار ينهي وجودهم، فتقدم «حزب الله» غير آبه لما يقولوه بعض من قوى 14 آذار، التي وتحت شعار «قرار الحرب والسلم في يد الدولة»، صبت جام انتقاداتها على «حزب الله»، مشكّلةً غطاءاً سياسياً للإرهابيين، بتحميل المقاومة مسؤولية نزوحهم ومجيئهم إلى لبنان، وأنه لولاه لما كان لبنان يعاني من وجودهم، وهو ما أعاد رسم الخلاف السياسي الداخلي، حول قضايا وطنية بديهية، مثل اعتبار إسرائيل عدواً، ويجب أن تكون عقيدة الجيش القتالية باتجاهه، فكان الردّ، بأن لا أطماع لإسرائيل بلبنان الذي قوته بضعفه، ولا ضرورة لتسليح الجيش ومواجهة أي عدوان إسرائيلي.
مثل هذه المواقف التي كانت تصدر عن مجموعات ومكونات سياسية، بشأن مقاومة العدو الإسرائيلي، تكررت مع محاربة العدو التكفيري، الذي أظهر أنه يريد أن يكون لبنان «أرض جهاد»، ويتحول نحو «إمارة إسلامية»، وهذا ما حصل في وقائع وأحداث عدة منذ أحداث جرود الضنية مطلع عام 2000 التي ضربت بيد من حديد في عهد الرئيس إميل لحود، إلى معارك مخيم نهر البارد عام 2007، ثم ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في حزيران 2013، وفي احتلال عرسال وجرودها في صيف 2014، حيث تشير كل هذه التطورات إلى أن لبنان مستهدف من المخطط التكفيري الإرهابي الذي ينفذه تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» وحلفاؤهما.
فما أقدم عليه «حزب الله» في تحرير جرود عرسال، لا يحتاج إلى قرار رسمي لبناني، لأنه ببساطة لن يحصل، وقد تلكأت عنه الحكومة اللبنانية في 2 آب عام 2014 عندما هاجمت مجموعات مسلحة إرهابية من الجماعتين الإرهابيتين، مواقع الجيش ومراكزه وقتلت وخطفت من عناصره، في ذلك الوقت صدرت مواقف تحذر من أن تمس عرسال بسوء، وأن الجيش إذا ما هاجم مراكز المسلحين فإنما يصيب «أهل السّنّة» ويخدم مشروع «حزب الله» الذي يقاتل لمشروع إيراني إقليمي، وفق مزاعم قوى 14 آذار.
عند هذا الصراخ في الداخل اللبناني، كان «حزب الله»، وقوات النخبة لديه، لاسيما «كتيبة الرضوان»، يشق طريقه في الجرود المتاخمة للسلسلة الشرقية لجبال لبنان، ويقتحم معاقل الإرهابيين على مساحة 300 كم2، حيث يحرر الأجزاء الواسعة منها التي تتواجد فيها «جبهة النصرة» فتسقط مواقعها، بسرعة توقف عندها الخبراء العسكريون، كيف أن المقاومة إستطاعت القتال من تلة إلى أخرى، وعلى علو يصل في بعض المواقع إلى نحو 2500 متر ارتفاعاً عن سطح البحر، مما يكشف عن صعوبة المعركة في بقعة جغرافية، تكثر فيها، التلال والوديان، وتنتشر فيها المغاور والكهوف، التي شكّلت مخابئ وحصوناً للمسلحين ومراكز قيادة وغرف عمليات، إلا أن المقاومة وبإسناد ناري من مدفعيتها، وقصف من مرابض الجيش السوري وطيرانه، تمكّنت من السيطرة على كامل جرود عرسال وصولاً إلى جرود بلدة رأس بعلبك والقاع حيث يسيطر تنظيم «داعش» الذي مصيره سيكون كمصير توأمه «جبهة النصرة» وكلاهما من رحم تنظيم «القاعدة» والعقيدة التكفيرية.
فما جرى في جرود السلسلة الشرقية الأسبوع الماضي، هو امتداد للمعركة ضد الإرهاب من الموصل إلى دير الزور والرقة، وكل مكان وصل إليه الإرهاب في العالم، وكان لبنان السباق في مواجهته، منذ عقود، ودفع شعبه وجيشه أثماناً بسببه.
وبالرغم من الأصوات التي حاولت التعكير على المعركة بوجه الإرهاب، فإن «حزب الله» نجح في مهامه، وكان على تنسيق مع الجيش الذي حاول أطراف لبنانيون، أن يمنعوه من أن يكون شريكاً في المعركة من الجانب اللبناني، بإغراقه بحملة بأنه عنصري ومارس القتل ضد أربعة موقوفين سوريين ماتوا تحت التعذيب، ليكشف تقرير طبي رسمي عدم صحة الاتهامات التي راجت لأسباب سياسية، لمحاولة عرقلة أو منع الجيش من أن يقف صداً بوجه الإرهابيين، لكن القيادة العسكرية لم تخضع للتهويل الذي مورس عليه سياسياً وإعلامياً، ومحاولات التحرك في الشارع ضده، والضغط على رئيس الحكومة لعدم تأمين تغطية رسمية له، لكن القرار الدولي، ولاسيما الاتفاق الأميركي–الروسي بمحاربة الإرهاب، دفع الحريري إلى الالتزام بمحاربة الإرهاب مع تأكيده على أن الجيش «ليس شريكاً» في معركة «حزب الله»، بل فقط يواجه أي تقدم للإرهابيين.
Leave a Reply